السياسة الاقتصادية للحكومة العراقية ودور المستشارين
كتب السيد علي الشرع في مقاله الموسوم “العبادي ومستشاره الاقتصادي” ما يلي: “أما مقال العبادي ومستشاره الاقتصادي، فلم يفطن الدكتور كاظم حبيب الى ان الهدف الأساس منه ليس تثقيفياً كي يستفيد منه طلبة العلوم الاقتصادية، كما هو حال مقالات زميله مظهر محمد صالح، بل الغرض منه تقويم أداء العبادي ومستشاره الاقتصادي. وان كان قد تضمن مقترحات لسياسة اقتصادية تتعلق بكيفية توزيع شواغر حركة الملاك وخطأ استيراد الكهرباء، لكن كاظم حبيب أغمض عينيه عنها، ليقفز الى اتهامي بعدم الموضوعية التي تعني أني كنت متحيزاً في وصف انجازات الرجل وحاقد عليه بل وضده.”
في هذا النص خلط غير مبرر ومقصود بين المسؤول عن السياسة الاقتصادية للدولة العراقية، وهو رئيس الوزراء العراقي، وبين مستشارٍ مالي يعمل لدى رئيس الوزراء. وكلنا يعلم بأن السياسة الاقتصادية والمالية، وكذلك السياسة الاجتماعية لا يرسمها الخبراء والمستشارون، بل ترسمها الحكومة العراقية بمختلف وزاراتها ومؤسساتها، وعلى مسؤولية مباشرة لرئيس الوزراء، ومن ثم مجلس النواب العراقي الذي يفترض أن يصادق على هذه السياسة. وبهذا المعنى الدقيق فالسياسة الاقتصادية والمالية لا يحددها الخبراء والمستشارون، بل تتحدد استراتيجيتها وأهدافها البعيدة والمتوسطة المدى وذات الأمد القصير، ومعها السياسة الاجتماعية، في مجلس الوزراء، ولاسيما في وزارة التخطيط وبالتعاون مع الوزارات الإنتاجية والخدمية، ولاسيما وزارة المالية، والتي تقر في مجلس الوزراء. وعلى امتداد السنوات الـ 15 المنصرمة لم تكن للحكومة العراقية سياسة اقتصادية اجتماعية واعية وهادفة وموضوعية ونابعة من مصالح الاقتصاد الوطني ومعبرة عن مصالح الشعب بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية، بل سارت سياسات الحكومات المتعاقبة على هدى المخطط الذي وضعه بول بريمر، معبراً في ذلك عن إرادة اللبرالية الجديدة وما اقترحه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من شروط تلتزم بها الحكومة العراقية. وكان هدف هذه السياسة الواضح إبعاد الدولة كلية عن الشؤون الاقتصادية وتصفية قطاع الدولة دون أن يتوجه العمل الجاد لتطوير القطاع الخاص وتوفير مستلزمات نهوضه وتطوره وزيادة حجم استثماراته في القطاعات الإنتاجية والخدمية الضرورية. بل ما يزال الجهد متوجهاً صوب تصفية ما هو موجود من منشآت عامة عائدة للدولة كقطاع الكهرباء أو قطاع النفط الاستخراجي ومشتقاته لصالح القطاع الخاص غير القادر حقاً على النهوض الفعلي حالياً بمهماته الصغيرة في مجال التوظيف في القطاعات الإنتاجية. إذ إنه ما يزال يسعى للحصول على أقصى الأرباح بسرعة وبعيداً عن المخاطر، ولاسيما في النشاط التجاري والمضاربات العقارية ودور السكن وفي بعض الخدمات المربحة. ولم يكن إهمال الكهرباء عفوياً بل كان سياسة متفقة مع رغبات إيران في استيراد الطاقة منها وبأسعار خيالية. كما إنها اقترنت بنهب حقيقي للأموال التي قدرت بأربعين مليار دولار أمريكي دون ان يحصل الناس على تيار كهربائي في حرّ الصيف وبرد الشتاء. إنها سياسة حكومات تابعة وليست مستقلة!
يعاني الاقتصاد العراقي من تشوه في بنيته وتخلف في مستوى تطور قواه المنتجة، فهو اقتصاد ريعي نفطي واستهلاكي وحيد الجانب. وينعكس هذا الواقع على البنية الطبقية للمجتمع العراقي، في تراجع شديد في حجم الطبقة العاملة ودورها الاقتصادي والاجتماعي، وفي حجم ودور البرجوازية المتوسطة الصناعية على نحو خاص في الاقتصاد والمجتمع وفي الحياة السياسية، وتعاظم دور الفئات أشباه البروليتاريا والفئات غير المنتجة والطفيلية والمستهلكة للدخل القومي دون أن تساهم في إغنائه. وقد أثر كل ذلك وغيره على الوعي الفردي والجمعي في المجتمع بشكل عام. وإذا كانت هذه السمات قديمة في الاقتصاد العراقي والمجتمع، فأن ما حصل في الفترة التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية الغاشمة، وفي ظل نظام المحاصصة الطائفي المقيت، برز في تفاقم هذه السمات السلبية، وزاد في الطين بلة، سيادة الفساد والإداري وتحولهما من ظاهر هنا وهناك إلى نظامٍ (System) متكاملٍ، تمارسه سلطات الدولة الثلاث ومؤسساتها والعاملين فيها، مع وجود من هم يتسمون بالنزاهة والإخلاص، ويمارسه المجتمع لتمشية معاملاته اليومية تحت واقع ” أخاك مجبر لا بطل”، إضافة إلى تفاقم البطالة المكشوفة والمقنعة وارتفاع نسبة الفقراء الذين يعيشون تحت خط الفقر, ونسبة أخرى تتحرك على الخط أو فوقه بقليل. إن هذا الواقع المرير لا تعالجه حكومة طائفية قائمة على المحاصصة والفساد والسكوت المتبادل على النهب والسلب، ولا يمارسه رئيس وزراء يخشى من حزبه ورئيس حزبه في اتخاذ الإجراءات الضرورية لمواجهة الواقع الاقتصادي العراقي، بل يستوجب حكومة وطنية غير طائفية وديمقراطية، حكومة تحترم إرادة الشعب وتلتزم بمبدأ المواطنة وتعمل لتحقيق مصالحه. ومثل هذه الحكومة غير قائمة في العراق منذ سقوط الدكتاتورية البعثية، وبالتالي فأن خيرة المستشارين، وليس كلهم خيرّ وفاهم، لا يستطيع عمل شيء يستحق الذكر، حتى لو قدم ملاحظات قيمة على سياسات الحكومة الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية. وفي هذه الحالة على المستشار أن يقرر مدى صواب استمراره في العمل، أو إحالة نفسه على التقاعد. وهي مسألة لا أقررها أنا ولا غيري، بل يقررها الشخص المعني ذاته، أي كيف يرى سير الأمور، وما مرّ به من عسف في وزارة سلف العبادي، المستبد بأمره والطائفي حتى النخاع نوري المالكي.
حين كنت عضواً في المجلس الزراعي الأعلى كتبت مقالات في مجلة وزارة الزراعة كشفت فيها عن طبيعة السياسة الزراعية السيئة لحزب البعث والحكومة العراقية التي كان يرأسها فعلياً صدام حسين، ثم كشفت عن سياسة البعث الاقتصادية المؤذية للاقتصاد والمجتمع والمتعارضة مع القوانين الاقتصادية الموضوعية في مقال نشرته في طريق الشعب في تموز عام 1978 وعلى صفحة كاملة. أوعز صدام حسين في اليوم الثاني باعتقالي في مديرية الأمن العامة وتعذيبي ثم إطلاق سراحي بعد أسبوعين وإنزالي درجتين وظيفيتين ثم إحالتي على التقاعد بدون راتب تقاعدي وأثناء وجودي في المعتقل. وفي نقاش مع مدير الأمن العامة فاضل البراك بين الزنزانة وغرفته أثناء اعتقالي، أخرج من جيبه ورقة سلمها لي لأقرأها، سجل فيها صدام حسين بخط يده 11 فقرة في كيفية التعامل معي أثناء الاعتقال والتي تضمنت الإهانة والإساءة ثم التحقيق، وممارسة التعذيب.. الخ. ثم تقديمي للمحاكمة بتهمة إهانة مجلس قيادة الثورة والثورة. وقد نشرت تقريراً كاملاً عما جرى معي في الاعتقال في لقاء مع مجلة المرأة التي تصدر في الإمارات العربية قبل عدة سنوات. مثل هذا الموقف أو غيره إزاء سياسات الدولة يفترض أن يتخذها كل شخص على وفق ما يراه مناسباً له ولعائلته والوضع العام الذي هو فيه. وعلينا ألَّا نحاول فرض رأينا عليه، ونحن لسنا في موقعه وظروفه! من هذا المنطلق وجدت مقالة السيد علي الشرع غير منصفة بحق المستشار المالي لرئيس الوزراء الدكتور مظهر محمد صالح، الذي اعتقل قبل ذاك وعانى الكثير قبل إطلاق سراحه بعد التغيير الوزاري وإزاحة نوري المالكي عن قيادة السلطة. لقد وقفت مع كثيرين، إلى جانب د. سنان الشبيبي ود. مظهر محمد صالح والمجموعة البنكية المعتقلة، دون أن تكون لي صداقات بهم أو معرفة مباشرة بشخوصهم، فيما عدا السيد الدكتور سنان الشبيبي، إذ حصل لقاء لي معه أثناء انعقاد لقاء اقتصادي في فيينا حين دعا له الفقيد الدكتور مهدي الحافظ والسيد أديب الجادر في النصف الثاني من العقد الأخير من القرن الماضي، لأني أدركت بأنهم مظلومون ويراد الانتقام منهم لأنهم لم يستجيبوا لإرادة المستبد بأمره في التصرف بالاحتياطي الموجود في البنك المركزي لصالح إيران ولصالح أهدافه السيئة والبقاء في الحكم.
لو كان السيد على الشرع مطلعاً على دراساتي وكتبي ومقالاتي الاقتصادية لأدرك بأني من مدرسة فكرية واقتصادية غير التي فيها زميلي الفاضل الدكتور مظهر محمد صالح، وربما نلتقي في رؤية مشتركة لواقع الاقتصاد العراقي وسماته الأساسية، ولكن ربما نختلف في الحلول التي يفترض أن تقدم لهذا الواقع الاقتصادي السيء. ولكن هذا لا يمنعني بأي حال من احترام لآراء الدكتور مظهر محمد صالح والدفاع عنه حين أشعر باحتمال تعرضه للظلم أو الاضطهاد أو عدم الإنصاف. وسيكون موقفي هذا إزاء كل من يواجه مثل هذا الأمر، ومنهم السيد علي الشرع.
إن النظام السياسي الطائفي القائم، يشكل مخالفة صريحة للدستور العراقي المشوه في الكثير من بنوده، وهو المولد للفساد والإرهاب والخراب الاقتصادي والاجتماعي والرثاثة والبؤس والفاقة ولا يرتجى إصلاحه، وهو ما ينبغي السعي لتغييره. وأتفق مع السيد الشرع في فضح سياسة الحكومة العراقية فيما يمس السياسة الاقتصادية والخدمية، ولاسيما الكهرباء والماء والصحة والتعليم والنقل والبناء…الخ، ولكن أهم من كل ذلك ابتعاد النظام عن التثمير الإنتاجي في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية. ولكن هذا لا يرتبط بالمستشار المالي مباشرة بل برئيس الحكومة ووزاراتها المسؤولة ومؤسساتها. ولهذا قلت بأن هناك خلطاً بالأوراق ولا بد من تصحيح الموقف.
أدرك تماماً مخاطر تفاقم المديونية الخارجية للعراق، ولاسيما زيادة ديون صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وشروطهما في الإصلاح الاقتصادي للدول النامية التي تتلخص في “سياسات التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي” التي تلحق أضراراً فادحة بالفئات الكادحة والفقيرة والمعوزة في المجتمع، وهو ما لا اتفق مع من يتبع هذا النهج أو يدافع عنه. وقد نشرت الكثير من المقالات في هذا الصدد ولا أجد مبرراً للتوسع بهذا الصدد.
انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابعة.
13/08/2018