في ظل استعداد الولايات المتحدة لسحب قواتها البالغ عددها 2000 جندي من سوريا، لا يزال أمامها مهمة أساسية أخيرة لإنجازها. لقد قاتلت هذه القوات الأميركية بنجاح، إلى جانب 60 ألف عنصر من “قوات سوريا الديمقراطية” بقيادة كردية، إرهابيي تنظيم “الدولة الإسلامية” على مدى السنوات الأربع الماضية.
وأشار البيان الأخير للرئيس ترامب بهذا الخصوص في 2 كانون الثاني/يناير إلى رغبته في حماية هؤلاء الأكراد. لذلك، وعلى الرغم من جميع العقبات، يتعين على الولايات المتحدة أن تحاول حماية هذه الميليشيا الشجاعة والوفية على المدى القصير، وضمان مستقبل أكثر أمانا للأكراد السوريين وشركائهم المحليين على المدى المتوسط.
ليست هناك أوهام: إن الطريق لإنجاز هذه المهمة ليس سهلا. لكن الأمر واضح ـ ومهم لما تبقى من المصداقية الأميركية في المنطقة بأسرها. ومن الآن فصاعدا، يمكن إسناد دور الولايات المتحدة السابق في سوريا بشكل عام من خلال “الاستعانة بمصادر خارجية”، على غرار تركيا وإسرائيل ـ سواء من حيث احتواء التوسّع الإيراني، أو التعامل مع النفوذ الروسي، أو التخلص من بقايا تنظيم “الدولة الإسلامية”، أو مواجهة أسوأ دوافع النظام. لكن التخلي التام عن “قوات سوريا الديمقراطية” لا يجب أن يكون جزءا من هذه المرحلة الانتقالية.
خمس خطوات لدعم “قوات سوريا الديمقراطية” وتعزيز الاستقرار
أولا، خلال الأشهر الأربعة المقبلة تقريبا، على الولايات المتحدة مواصلة تنسيقها مع “قوات سوريا الديمقراطية” بأكبر قدر ممكن من الفعالية، تلك القوات التي تتألف بصورة متساوية تقريبا من مقاتلين أكراد وعرب، حتى في ظل خروج القوات الأميركية. وستساعد هذه الخطوة على إبعاد المتطرفين الجهاديين ومنع قوات معادية أخرى ـ على غرار نظام الأسد القائم على الإبادة الجماعية، والمتواطئين معه من إيران و”حزب الله” ـ على مهاجمة سكان شرق سوريا.
ويبدو أن أحدث تغريدات الرئيس ترامب بشأن انسحاب بطيء ومنظم من سوريا، وإعلانه [خلال زيارته للقوات الأميركية] في العراق بأن بعض القوات الأميركية ستبقى فيها، باستخدامها البلاد كقاعدة مستمرة للعمليات الجوية على سوريا كما هو مطلوب، تشير جميعا إلى هذا الاتجاه.
ومن الأهمية بمكان أيضا إدراك واقع أن “قوات سوريا الديمقراطية” لا تزال إلى حدّ كبير أفضل رهان لمنع ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” في شرق سوريا. وحاليا، ربما يفوق عدد مقاتلي “قوات سوريا الديمقراطية” الجاهزين للمعركة كامل القوات النظامية التابعة لنظام الأسد والقابلة للنشر، بعد ثماني سنوات من المعارك الطاحنة.
فضلا عن ذلك، ونظرا إلى السجل البطيء والمتقلب للغاية لنظام دمشق أو حلفائه من الروس والإيرانيين و”حزب الله” أو حتى تركيا في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، لا يمكن الاعتماد عليهم لمواصلة الحرب ضد أي عودة للتنظيم. بل على العكس من ذلك: من المرجح أن تؤدي اجتياحاتهم للمزيد من الأراضي في شرق سوريا إلى إثارة هذه العودة بالذات في أوساط بعض السكان العرب السنة المحليين.
ويقيناً، يمكن تفهّم شعور “قوات سوريا الديمقراطية” الآن بخيبة الأمل من احتمال انسحاب أميركي بري من سوريا. فمن دون تغطية جوية أميركية مضمونة على الأقل، بالإضافة إلى استمرار تسليم الأسلحة والدعم الاستخباراتي واللوجستي، لن تتمكن “قوات سوريا الديمقراطية” من الصمود في وجه التهديدات التي تلوح في الأفق سواء من الجيش التركي أو من قوات نظام الأسد وشركائه من الروس والإيرانيين و”حزب الله”.
ومع ذلك، ففي الوقت الراهن، لا تزال “قوات سوريا الديمقراطية” تتطلع إلى التعاون مع الولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء على أرض المعركة (بما في ذلك الوحدات العسكرية البريطانية والفرنسية المتبقية).
وفي الوقت نفسه، ترغب السلطات المحلية لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، كُرْها، في البحث عن بعض الوفاق مع نظام الأسد باعتباره الملاذ الأخير. وفي الواقع، حافظ النظام على وجود رمزي ومقبول في أكبر مدينتين شمال شرق سوريا هما القامشلي والحسكة، الواقعتان تحت سيطرة “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردستاني، طوال السنوات الثماني الماضية من الحرب الأهلية. كما استمرت الرحلات الجوية والروابط التعليمية وبعض الروابط الأخرى ـ وهو الأمر بالنسبة للمفاوضات العرضية التي اعترضتها معارك خطيرة بالأسلحة النارية وغيرها من المناوشات.
ومع ذلك، لم يُظهر الأسد حتى الآن أي نية جادة بقبول حل سياسي توفيقي مع الأكراد. كما لا تُظهر قوات الأسد أو حلفاؤها الأجانب رغبة كبيرة في محاربة “قوات سوريا الديمقراطية” بشكل مباشر أو مواجهة القوات التركية المعارضة. أما الأزمة الجديدة بين كافة هذه الفرق بشأن مدينة منبج التي تشكل مفترق طرق استراتيجي فتثبت إلى حدّ كبير وجهة النظر هذه.
وعليه، إذا أدارت الولايات المتحدة هذه المرحلة الانتقالية جيدا وبشكل معقول، فبإمكانها الحفاظ بشكل أفضل على انتصارها ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وحماية أفضل أصدقائها من تلك الحملة.
ثانيا، على الولايات المتحدة مواصلة العمل الجاد للتوسط في تفاهمات جديدة بين الحكومة التركية و”قوات سوريا الديمقراطية” بشأن مستقبل شمال وشرق سوريا على المدى المتوسط. فتركيا تدّعي وجود تهديد أمني محتمل من “وحدات حماية الشعب”، الميليشيا الرئيسية التي يقودها الأكراد، وحزبها السياسي الأم “حزب الاتحاد الديمقراطي” ـ أحد فروع “حزب العمال الكردستاني”، المصنّف رسميا من قبل كل من الولايات المتحدة وتركيا كمنظمة إرهابية. وكما أشار وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، إنه صراع مع تاريخ طويل ومعذّب. ولكنه أيضا صراع شهد العديد من عمليات وقف إطلاق النار الفعالة، والمفاوضات الخاصة، والتفاهمات ذات المنفعة المتبادلة.
ومن اللافت للنظر أنه منذ فترة ليست ببعيدة تعود إلى منتصف عام 2015، كان رئيس “حزب الاتحاد الديمقراطي” في ذلك الحين صالح مسلم ضيفا رسميا مكرما لإجراء محادثات سياسية في تركيا.
وفي ذلك الوقت، تعاونت تركيا حتى في تنفيذ عملية عسكرية في محيط مدينة كوباني في شمال سوريا، وكذلك لضمان أمن الحدود بشكل عام، مع كل من “وحدات حماية الشعب” وقوات “البشمركة” الكردية من “إقليم كردستان” الذي يتمتع بالحكم الذاتي عبر الحدود في العراق.
واليوم، هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن تركيا ستفضل مجددا التوصل إلى تفاهمات مماثلة مع أكراد سوريا، ربما بشأن تقاسم فعلي للسيطرة على الأراضي بدلا من تنفيذ حرب شاملة ضد عدو أساسي يشن حرب عصابات.
علاوة على ذلك، فإن الجدول الزمني المحدد لأربعة أشهر لسحب القوات البرية الأميركية يصادف بعد إجراء الانتخابات التركية المقبلة في نهاية آذار/مارس. ويوفر ذلك بعض الضمانات بشأن إرجاء أي غزوات تركية جديدة، طالما بقيت القوات الأميركية متداخلة مع “قوات سوريا الديمقراطية” ـ كما يوفر بعض الاحتمالات لاتخاذ تركيا موقفا أكثر اعتدالا تجاه الأكراد، بمجرد انتهاء الانتخابات واكتساب الرئيس رجب طيب أردوغان المزيد من الهامش السياسي المحلي للمناورة.
وفي هذا الصدد، كشف متحدث باسم “وحدات حماية الشعب” في 2 كانون الثاني/يناير أن روسيا تعتزم التوسّط في تفاهمات ليس فقط بين أكراد سوريا ونظام الأسد، بل بين هؤلاء الأكراد وتركيا أيضا. لذا فلدى جميع الأطراف، بما فيها روسيا والولايات المتحدة على السواء، مصلحة قوية وعاجلة في إيجاد بعض التسويات السلمية هنا، حتى لو كانت جزئية أو مشروطة.
وقد تكون هناك حاجة إلى ترتيبات مختلفة لأجزاء مختلفة من هذه المنطقة الشاسعة التي تضم: القطاع الشمالي على طول الحدود السورية ـ التركية؛ والمناطق الجنوبية حول مدينتي الرقة ودير الزور الأقرب إلى الحدود الأردنية والعراقية؛ والمدن الكبرى ذات الأغلبية الكردية الواقعة بينهما.
ثالثا، على الولايات المتحدة أن تحاول الحفاظ، وإن كان ذلك من مسافة بعيدة فقط، على شرايين الحياة الاقتصادية التي تعتمد عليها المناطق السورية الحليفة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” للحد من روابطها بالنظام في دمشق. وتشمل هذه زيادة التبادلات مع “إقليم كردستان” الذي يتمتع بالحكم الذاتي عبر الحدود في العراق، وتقديم المساعدات واستقطاب الاستثمارات من بعض الحكومات العربية الصديقة، وربما حتى المشاركة ببعض الأعمال التجارية مع تركيا.
وإلى المدى الذي قد ترغب فيه كافة هذه الأطراف الخارجية في ممارسة بعض النفوذ داخل سوريا بما يتخطى سلطة نظام الأسد، سيكون من مصلحتها بناء علاقات عمل مع السلطات المحلية هناك.
وعلى أرض الواقع، من المؤكد تقريبا أن المنطقة الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” تحتاج إلى الحفاظ على بعض الروابط الاقتصادية مع سائر المناطق السورية أيضا، التي تعتمد عليها من أجل الحصول على بعض الكهرباء، ودفع بعض رواتب القطاعين المصرفي والحكومي، فضلا عن القيام ببعض الأعمال التجارية في مجالي المنتجات الزراعية والنفط.
ومع ذلك، ليس من الضروري أن تصبح خاضعة بالكامل للحكومة التي ترفضها في دمشق، إلى درجة فقدان ملايين السوريين من كافة الأعراق والديانات كل أمل في إقامة حكومة ذاتية محلية على الأقل.
رابعا، يجدر بالولايات المتحدة وكافة حلفائها الآخرين، بمن فيهم تركيا، أن يشجعوا “قوات سوريا الديمقراطية” وإداراتها المحلية القائمة تشجيعا نشطا على توسيع دائرة شراكاتها مع الدول الأخرى المجاورة لسوريا. وتشمل هذه ليس فقط القبائل العربية، والمسيحيين السريان، والتركمان، والأقليات الأخرى، بل أيضا الأكراد غير التابعين ـ أو حتى المعارضين ـ لميليشيا “وحدات حماية الشعب” الحاكمة و”حزب الاتحاد الديمقراطي”.
وصحيح أن هؤلاء الأخيرين كانوا سابقا يتصرفون في بعض الأحيان كحكماء مطلقين مستبدين بدلا من قادة ديمقراطيين حقيقيين، في الأراضي التي يسيطرون عليها. لكن في الآونة الأخيرة، تُظهر العديد من التقارير المستقلة الموثوقة من الميدان تحسن العلاقات بدرجة كبيرة بين هذه الجماعات المختلفة، حتى في المدن والقرى ذات الأغلبية العربية أو المختلطة في أرجاء سوريا شرق نهر الفرات.
خامسا، وأخيرا، على الولايات المتحدة إبلاغ روسيا وتركيا والأمم المتحدة وكافة الأطراف الخارجية المعنية الأخرى وبحزم عن عزمها اتباع المبادئ التوجيهية للسياسة المشار إليها أعلاه ـ على الرغم من سحب القوات الأميركية من سوريا.
لقد عانت المصداقية الأميركية، باعتراف الجميع، جراء هذا التغيّر الأخير في المواقف، ولكن هذا سبب إضافي لاستعادتها بأفضل طريقة ممكنة.
إن البدائل قاتمة للغاية تقريبا لكي يتم النظر فيها، وهي: عودة إرهاب تنظيم “الدولة الإسلامية”، أو حرب دموية على الأراضي السورية بين حليفين للولايات المتحدة، أو النصر النهائي للرئيس السوري بشار الأسد وإيران و”حزب الله” هناك ـ أو، حتى على الأرجح، مزيج مروّع ومطوّل لهذه السيناريوهات الثلاثة الرهيبة.
الخاتمة
باختصار، لقد هزمت الولايات المتحدة إرهابيي تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا إلى حد كبير، إن لم تكن قد دمرتهم. وبهذا المعنى الضيّق، يمكن للقوات الأميركية إعلان النصر والعودة إلى وطنها. ولكنه سيكون “انتصارا” مخزيا إذا أدارت واشنطن الآن ظهرها تماما لحلفائها الذين ساعدوا إلى حدّ كبير في كسب تلك المعركة. وتقدّم المبادئ التوجيهية للسياسة السابقة مسارا واقعيا لضمان تجنُّب الولايات المتحدة انتزاع مثل هذه الهزيمة من فكّيْ انتصارها على تنظيم “الدولة الإسلامية”
ديفيد بولوك هو زميل “برنستاين” في معهد واشنطن، حيث يركز على الديناميات السياسية الإقليمية والقضايا