لم يبلغ الصراع الانتخابي في الولايات المتحدة الأمريكية سويتها المعهودة؛ حيث هدر المليارات على الدعايات والإعلانات، والاتهامات المتبادلة وتزوير الحقائق، والجدالات السفسطائية بين مرشحي الحزبين الرئيسيين، وقد أصبح واضحا بأنه ينحصر ما بين الرئيس الحالي (جو بايدن) والرئيس السابق (دونالد ترامب) لأن منافسته (نيكي هيلي) لا تزال دون سوية كسب رأي الجمهوريين وخاصة المحافظين، علما أنها كانت رئيسة ولاية كارولاينا الجنوبية، وأصغر محافظ في تاريخ أمريكا، وكانت عضوة في مجلس النواب، وسفيرة أمريكا في مجلس الأمن، وعلى الأرجح لأنها من أصول أسيوية مقابل ترامب ذو الأصول الألمانية، ويقال أنها لا تزال تحمل الجنسية الهندية إلى جانب الأمريكية، أسمها الكامل تيمراتا راندهاوا ” نيكي” والديها من طائفة السيخ قدموا من ولاية بنجاب-الهند، وهي من مواليد 1972.
ومن حيث الدعاية التحريضية ضد الديمقراطيين يقول الجمهوريون وخاصة أتباع دونالد ترامب، أن الديمقراطيين يرشحون نائبة الرئيس (كاملة هاريس) وهي أيضا من الأصول الأسيوية- الهندية مثلها مثل (نيكي) بشكل غير مباشر للرئاسة؛ على خلفية العمر الزمني والقوة الجسدية وربما الذهنية للرئيس الحالي، حتى ولو أن مصادر الدعاية المغرضة هذه هو إعلام الحزب الجمهوري. مثلما يقول الديمقراطيون إن أمريكا بغنى عن أن يحكمها عنصري ومن حاول الانقلاب على الديمقراطية الأمريكية، يوم حرض جمهوره على اقتحام مبنى الكونغرس. وللتنويه فإن الأحزاب الأخرى وهي عديدة منها الحزب الليبرالي، لم يظهر لهم مرشح بعد على الساحة، وإن تم فسيكون مهمشا ودون سويات التركيز الإعلامي.
من المبكر عرض التوقعات، وخاصة في الصراعات السياسية داخل أمريكا وحيث مصالح القوى الخفية، والتي تحرك مسيرة الانتخابات، مع ذلك فما يظهر هو أن دونالد ترامب، رئيس أمريكا السابق، سيكون الرئيس القادم، رغم اتهامه بقرابة 60 قضية جنائية، ودخوله المحاكم لمرات عدة كمتهم، وتجريمه في قضية محاولة الانقلاب على الديمقراطية الأمريكية، وقضايا الفساد الضريبي، ومعاملته السيئة للنساء والتحرش ببعضهن، وغيرها، لكنه لا يزال الأكثر حظا في السباق الانتخابي، وذلك على خلفيتين:
1- ما خلفه الرئيس الحالي (جو بايدن) من الكوارث في السياستين الداخلية والخارجية، وضعفه في حل قضايا عديدة، كقضية الصراع بين ولاية تكساس والحكومة الفيدرالية على خلفية المهاجرين، حتى ولو أنه صراع دستوري بين الطرفين لكن الجمهوريين يستغلونها لصالح الحملة الانتخابية، وكل ذلك عكس ما كان يدعيه جو بايدن قبل دخوله البيت الأبيض. والإستراتيجية الرخوة والضحلة للحزب الديمقراطي في القضايا الوطنية الاقتصادية والسياسية الأخرى، إلى جانب تمسكهم بمرشحهم (جو بايدن) والذي أصبح في نهايات العمر، ولا قدرة له على العمل الذي يتطلب الكثير من الجهد والنشاط.
2- تصاعد الشريحة العنصرية، والتي ترى في دونالد ترامب ممثلهم، تحت أغطية مختلفة، كحماية أمريكا من المهاجرين، والحد من هدر الدخل الوطني لتأمين معيشة أفضل للطبقة المعانية أصحاب الدخل المحدود، والهيمنة العالمية عن طريق القوة الاقتصادية الأمريكية.
وفي الحالتين العالم وخاصة المتحالف مع أمريكا أمام شخصيتين متناقضتين في الإيديولوجية والإستراتيجية الداخلية والعالمية، لكنهما يوجهان أمريكا إلى الحضيض، حتى ولو كانا يظهران على أنهما ينتهجان إستراتيجية عصرية مع العالم، ويتخليان عن الهيمنة العسكرية المباشرة أو استخدام القوة الذاتية في تسيير مصالح أمريكا.
دونالد ترمب لن يتهاون من التعاون ومساندة الدول على أبعاد الكسب الرأسمالي، والحصول على أكبر قدر ممكن من الأموال مع التقصد في الصرف بالمقابل، وهي سياسية رجل أعمال وليست مبدأ إمبراطورية، وقد فعلها سابقا مع دول الناتو والتي كادت أن تؤدي إلى تفتتها، كما وأقدم على مثلها مع دول الخليج، وكان السبب في محاولات السعودية والإمارات إيجاد المنافس لأمريكا في علاقاتهم الخارجية الاقتصادية والسياسية، وهو الذي غير رأيه خلال أقل من أسبوع، من مؤيد للكورد في غرب كوردستان، إلى درجة تقديم الدعوة للسيد مظلوم عبدي إلى البيت الأبيض ووصفه بالجنرال، إلى التعامل مع أردوغان، والتخلي عن المنطقة الكوردية، وتناسي الدعوة، والتخبط في تصريحات بعضها ضحلة معرفيا كقوله أن الكورد لم يشاركوا دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية يوم الإنزال البري في النورماندي، أو ما يسمى بـ (دي ديي) وأخرى ساذجة صدرت على ما لقنها له أردوغان بعد اجتماعهم ليومين وعرض بعض الفيديوهات المفبركة من الأمن التركي عن الكورد، لربما قد تغير في هذا المجال بقدر ما تغير في السياسية الداخلية، رغم أن علاقات صهره وابنته مع صهر وأبنة أردوغان لا تزال قوية وشركاتهم العقارية المشتركة مستمرة، لكن قد يكون له موقف من سياسية أردوغان وتلاعبه ما بين أمريكا وروسيا، إلى جانب ما بين من المواقف تجاه إسرائيل، وقد لا يستبعد أنه في حال تم دراسة الواقع الأمريكي في الشرق الأوسط قد ينتبه إلى خطئه السابق يوم حاول الانسحاب من غربي كوردستان، وأدى إلى استقالة وزير دفاعه في اليوم الثاني، ومعارضة أعضاء من الكونغرس الجمهوريين له، وبالتالي التمسك بسياسية البقاء في سوريا والعراق موضع شك، حتى ولو تعرضت مصالحها الاقتصادية-السياسية إلى الخطر وحيث التمدد الإيراني والروسي الصيني، وحينها على القوى الكوردية الحذر والقيام بدبلوماسيات ناجحة قدر الإمكان على أمل تبيان خطأ موقفه السابق على مصالح أمريكا في المنطقة وأن الكورد هم أوثق الحلفاء لحماية أمن أمريكا في الداخل الأمريكي، مع ذلك لا يمكن الاستهانة بخباثة أردوغان، والقوى الأخرى المعادية للقضية الكوردية.
جو بايدن، والذي تناسى ما صرح به قبل عقدين من الزمن، للسيد مسعود برزاني على أنهما سيجدان معا وفي حياتهما كوردستان المحررة، لا شك الوعود خارج البيت الأبيض لن تتطابق مع الذهنية ذاتها عندما يكونون فيها كآمر ورئيس لأمريكا، لكن مع ذلك لم يكن الرئيس الذي كان عليه أن يحافظ على مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، وقد تهاون مع قوى الحلفاء، وفي مقدمتهم القوى الكوردية، رغم أن الحفاظ على القوات الأمريكية في غربي وجنوب كوردستان، لها بعد استراتيجي، لكن التساهل مع الاعتداءات التركية والإيرانية للمنطقتين على خلفية عدم تعرض مصالح أمريكا مباشرة إلى الخطر أدى إلى ما بلغته وضع قواعدها المزري، وقد كان السبب في خسارة جنوب كوردستان لمنطقة كركوك، بل وثلث مساحة الإقليم، وتدمير أردوغان للبنية التحتية لغرب كوردستان، وهجرة قرابة مليون كوردي، وحلول مثله من العرب مكانهم حتى ولو كان المسبب المباشر من الداخل. فالتوقعات المحتملة لحدوث تغيير في الإستراتيجية الأمريكية ضمن الشرق الأوسط، لن تكون واسعة، خاصة وأن مصالحها ومن خلال منهجية سياسية الديمقراطيين، أي سياسة إدارة جو بايدن تدعي الحفاظ على تحالفها مع القوى الكوردية، لحماية أمنها الداخلي، ومصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة، رغم ما يلاحظ من بوادر تغيير في المسيرة السياسية بعد تصاعد الحرب الإسرائيلية على حركة حماس، وعدم تقبلها حل الدولتين، وهو ما يؤدي إلى التساهل مع القوى المعادية لأمريكا كإيران وتركيا، حتى ولو أن المنهجية تنصب في خانة مصالح روسيا والصين، علما أن الإستراتيجيين الأمريكيين يدركون أن التساهل في هذا المجال ستؤثر على قادم أمريكا كإمبراطورية متشعبة المصالح ليس فقط في الشرق الأوسط بل وربما في العالم.
وفي الحالتين، وتحت سيطرة أي من المرشحين، اللذين يعكسان أوجه التراجع الأمريكي، وإظهارها في أدنى سويات ضعفها كإمبراطورية لا تختلف عما بلغته بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حتى ولو أنها لا تزال تهيمن على العالم كقطب شبه وحيد، في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية وغيرها، لكن إن أستمرت في هذا المنحى، ولن يظهر رؤساء أقوياء، نزيهين ونشطاء، بمواقف حازمه، فستكون أمريكا قد دخلت مرحلة الانهيار كإمبراطورية سياسية، ستتبعها التراجع العسكري والاقتصادي، حتى ولو طالت المرحلة لعقود في الحالتين الأخيرتين، مثلما حصلت لقطبها المنافس الاتحاد السوفيتي.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
31/1/2024م