(الحلقة الأولى)
ملاحظة استجابة لطلب بعض الاصدقاء لإعادة نشر ما تناولته من (ذكريات الزمن القاسي -الطبعة الأولى 2009-) عن انقلاب 8 شباط 1963، لعدم توفرها في السوق. سأنشر قدر ما تسعفني أوضاعي هذه الحلقات المنقحة والمطورة عما كانت عليه في الطبعة الاولى، آملا أن أنجح في إعادة طبعها مرة ثانية بعد اكمالها.
الأيام الأولى!
استيقظت متأخرا صباح الجمعة 8 شباط 1963 على صوت المذياع وهو يذيع البيان الأول للانقلابيين. لم أركز في البداية على صوت المذيع، الذي كان يقرأ الفقرة الأخيرة من البيان الأول وقد جاء فيها: (…أيها الشعب الكريم. إننا نعاهد الله و نعاهدكم ان نكون مخلصين لجمهوريتنا ، آمنين على مبادئنا ، مضحين في سبيلها . و كلنا امل و ثقة بأن أبناء شعبنا الكرام سيكونون وحدة متراصة للمحافظة على هذه المبادئ ، و السير قادماً في طريق التقدم و الرقي و الله ولي التوفيق). اعتقدت في بداية الأمر إن هذا أحد بيانات عبد الكريم قاسم والتي عودنا عليها في مهاجمة القوى المعادية للثورة، بينما كانت سياسته الفعلية قمع قوى الثورة الديمقراطية والوطنية الحقيقة التي كانت مصالحها مرتبطة بمنجزات ثورة 14 تموز، وفي الواقع كان يرخي الحبل لنشاط القوى الرجعية و العروبية المعادية لنهج ثورة 14 تموز. وقفت بجانب المذياع لسماع وفهم ما يذاع. وبعد فاصل من الاستراحة مصحوبا ببعض الأناشيد القومية أعاد المذيع تلاوة البيان وهو يعلن: (….لقد تم بعون الله القضاء على حكم عدو الشعب عبد الكريم قاسم وزمرته المستهترة…..) حينها أيقنت أنها حركة انقلابية وان الانقلابيين قد سيطروا على الإذاعة. وهكذا علم كل من في البيت بطبيعة الانقلاب من خلال تعليقات المذيع وأسلوبه في وصف عبد الكريم قاسم، وتجمع الكل حول المذياع لسماع ما يستجد وعلى أمل أن تحدث معجزة وتسترد الإذاعة، وإحباط الحركة الانقلابية.
كان موقف الحزب الشيوعي واضحا من أية حركة انقلابية، وهو العمل على إحباطها بكل الوسائل الممكنة، باعتبار إن أي انقلاب سوف يستهدف المكاسب الوطنية التي أنجزتها ثورة 14 تموز. وكان آخر بيان للحزب صدر قبل أقل من أسبوع يحذر من مؤامرة وشيكة، ويدعو الشعب لفضح وكشف خيوط المؤامرات التي تحاك ضد منجزات ثورة 14 تموز ومصالح الشعب. قررت الخروج للاتصال برفاقي لمعرفة حقيقة الموقف، وقد شجعني والدي على ذلك. التقيت بمرجعي الحزبي عند الباب، فقد جاء ليبلغني بتوجيه الحزب: رفيق التجمع في ساحة البلوش، و أجلب معك أي سلاح تملكه، وحشد قدر الإمكان من الأصدقاء لهذا التجمع!. لم أفهم من رفيقي ما المقصود بجلب أي سلاح ممكن، وهل نحن على وشك خوض حرب شوارع!؟ وهل بهذه الطريقة يتم إحباط المؤامرة؟ وأين دور تنظيمات الحزب في الجيش؟ غادرت البيت وبدون أي سلاح لعدم توفره في البيت، وكانت تدور في ذهني كل هذه التساؤلات، وحشدت بعض الأصدقاء من المنطقة للذهاب والتجمع في ساحة البلوش في كربلاء.
بعد تجمع المئات وقف عباس سلمان (معلم وعضو محلية كربلاء للحزب) والقى كلمة مختصرة فضح فيها الانقلاب وأهدافه وطالب من الشعب وقواه الوطنية مقاومة الانقلاب بالوسائل الممكنة! كانت المظاهرة بإشراف مسؤول التنظيم الحزبي للمدينة عبد شمران (ابو عادل)، والذي كان يشرف عليها عن بعد. أعلن قائد التظاهرة (عباس سلمان) عن تشكيل الحزب وفدا لمقابلة عبود الشوك متصرف (محافظ) كربلاء وبقية المسؤولين كمدير الأمن ومدير الشرطة لاتخاذ موقف حازم من الانقلابيين، ومطالبتهم بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، المعتقلون في مركز شرطة كربلاء منذ أشهر. وتشكل الوفد من: 1- فيصل الشامي (معلم). 2- عباس سلمان جبر (عضو محلية كربلاء مسؤول مكتب المعلمين والمدرسين). 3- والمعلم جاسم المنكوشي (عضو لجنة التوجيه الفلاحي لمنطقة الفرات الأوسط وعضو لجنة مدينة كربلاء ومسؤول خط العمال) . 4- المعلم نعمة أمين الأطرقجي (ممثلا عن الحزب الوطني الديمقراطي). 5- الفلاح جاسم العبد (عضو المكتب الفلاحي من سكنة عين التمر). 6- الوجه النسائي الطالبة فائقة عبد الأمير.
توجه الوفد الى المحافظة لمقابلة المسؤولين، وعند وصوله الى باب المحافظة المواجه لشارع العباس، وجد الوفد جموعا من الشرطة وقوى الأمن وعلى رأسهم مدير الشرطة، والذي بدأ التفاوض مع الوفد. قدم له الوفد المطالب التالية: 1- اطلاق سراح الموقوفين، حيث كان عدد من الشيوعيين معتقلين في مركز شرطة كربلاء منذ فترة. 2- توزيع السلاح على الجماهير. 3- اعلان موقف واضح من المتصرف “المحافظ” و الادارة بإدانة الانقلاب و تأييد حكومة عبد الكريم قاسم . وقد وعد مدير الشرطة الوفد بعرض هذه المطالب على المتصرف ووعدهم خيرا ، ولكن لم يتحقق شيئا.
لم يتمكن الوفد من إقناع المتصرف وبقية المسؤولين من اتخاذ موقف حازم من الانقلابيين أو حتى إطلاق سراح الموقوفين الموجودين في موقف كربلاء. كان موقف المتصرف وبقية المسؤولين يتميز بالمماطلة والانتظار كي تتجلى لهم الأمور ويحسم الوضع لتحديد موقفهم، وهو موقف انتهازي واضح.
سارت التظاهرة وهي تجوب شوارع المدينة منددة بالمؤامرة الدنيئة للقضاء على ثورة 14 تموز ومنجزاتها الوطنية. جابت التظاهرة معظم شوارع المدينة بما فيها المناطق السكنية المعروفة بتعاطفها مع البعثيين والقوميين، وقد تجمع نفر منهم في مناطقهم للتظاهر تأييدا للانقلاب وبعضهم ارتدى ملابس الحرس القومي وحملوا الرشاشات، وما أن شاهدوا تظاهرتنا حتى هربوا مذعورين، من دون أن تحدث مصادمات.
حاول الحزب القيام بمحاولة للسيطرة على المدينة من خلال الاعتماد على بعض الإمكانيات المتواضعة من التسليح لدى تنظيماته الفلاحية. وكانت محاولة ارتجالية وانفعالية لم تكن مدروسة. حيث توجهت مجموعة شجاعة من الفلاحين (7-10) فلاحين من الحسينية والعطشي وربما من نواحي اخرى، وكانت تحمل معها أسلحة بسيطة وقديمة، كان الهدف منها الوصول الى مركز شرطة كربلاء والضغط على السلطات الأمنية لإطلاق سراح المعتقلين من شيوعيين وأصدقائهم. كان من بين هذه المجموعة الفلاحية: مهدي النشمي “عضو لجنة المدينة”. مهدي … “ابو عباس ايضا عضو لجنة المدينة”، الفلاح حسن … للأسف لا أتذكر بقية الأسماء. لكن هذه المجموعة فشلت حيث تم إيقافها في مدخل كربلاء من قبل السلطات الأمنية وتم احتجازهم!. أما التظاهرة فقد تفرقت مساء 8 شباط دون حوادث وتصادم مع البعثيين، ومن دون أية توجيهات حزبية عن كيفية مواجهة الانقلابيين في الأيام القادمة! وبالرغم من إن الحزب كثيرا ما كان يحذر من المؤامرة التي تحاك ضد ثورة 14 تموز وخاصة التحذير الذي سبق الانقلاب بأيام لكنه فشل في تهيئة منظماته (المدنية والعسكرية) وتمرينها على كيفية مواجهة الانقلاب وإحباطه بصورة عملية وبأقل الخسائر.
كشف الانقلابيون من الساعات الأولى عن نواياهم الإجرامية ببيانهم الفاشي، بيان رقم 13 السيء الصيت الذي قرأته هناء العمري (زوجة علي صالح السعدي) بين الساعة التاسعة والعاشرة ليلا في يوم الانقلاب وجاء فيه : [نظرا لقيام الشيوعيون العملاء شركاء عبد الكريم قاسم في جرائمه بمحاولات يائسة لإحداث البلبلة بين صفوف الشعب وعدم الانصياع إلى الأوامر والتعليمات الرسمية، فعليه يخول آمرو القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي بإبادة كل من يتصدى للإخلال بالأمن. وأننا ندعو جميع أبناء الشعب المخلصين للتعاون مع السلطة الوطنية بالإخبار عن هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم]. وكانت تعليقات المذيع الحماسية تشجع على القيام بإعمال الإبادة والقتل العشوائي قبل إجراء أي تحقيق بحجة مقاومة الانقلاب. لم يكن الانقلابيون بحاجة لمبررات لإصدار بيان 13، فهم مارسوا في ظل حكم عبد الكريم قاسم القتل والاغتيالات في الموصل وبغداد والمدن الأخرى وأبدعوا أخيرا في إبادة الشيوعيين وكل وطني هب للدفاع عن الثورة. ومازال الكثير من البعثيين ليومنا هذا يتبجح بجرائمه ويبررها، وحتى الذين ابتعدوا عن البعث وكتبوا مذكراتهم يحاولون التنصل من تلك الجرائم وتحميل بعض العسكريين من بعثيين وقوميين أمثال عبد السلام عارف مسؤولية الانتهاكات.
صباح 9 شباط استيقظت على رنين مزعج ومتواصل لجرس الدار مع طرق غريب على الباب. نهضت منزعجا و قلقلا ومتعبا من فراشي بعد سهر طويل كنت أتابع فيه الاخبار عسى أن أسمع ما يسر ويطمئننا. وإذا بأبي يخبرني بأن الأجهزة الأمنية قدمت لاعتقالك. وهكذا كنت أول المعتقلين في المدينة في أول حملة اعتقالات محمومة منظمة في كربلاء. واعتقل والدي بعد أربع ساعات وهو في طريقه إلى الخالص ليلتحق بعمله كمعلم، حيث انزل من السيارة التي تقله من قبل الحرس القومي. استمر تجميع المعتقلين في مكتب القلم السري (مساحة المكتب لا تزيد عن 20م2 ) في مديرية الأمن في مركز شرطة كربلاء حتى تجاوز عددنا العشرين وكنا طول الوقت واقفين، ولم تعد الغرفة تتسع للمعتقلين إضافة إلى موظفي الأمن بمكاتبهم وهم المسؤولين عن حراستنا. كان أحد الشرطة الأمن لا يتورع في الاعتداء على بعض المعتقلين بالضرب والشتائم، وقد ركز في ذلك على والدي كلما دخل أو خرج من المكتب. كان والدي يتحمل اعتداءاته بصبر ويحاول أحيانا صد ضرباته بيده، لكنه لم يحاول إخفاء نفسه وراء الآخرين. وحاول والدي من حين لآخر أن يستفسر منه عن سبب اعتدائه فيسأله بعتاب واستهجان: (لماذا ابني أنا رجل بعمر والدك، ماذا فعلت؟ الله يسامحك ويهديك يا ابني!). كنت أرى هذا الشرطي التافه يعتدي على والدي ولا يمكنني رده وأنا أتألم واغتاظ لسلوك هذا الشرطي القذر، فقررت أن أقف أمام والدي، لكي ابعد والدي عن طريقه. لكن هذا الشرطي استمر في الاعتداء على والدي وشتمه. بادر أحد كتاب القلم السري، اسمه جدوع، سبق وكان معتقلا معي في مركز شرطة كربلاء عام 1962 (لم أعد أتذكر سبب اعتقاله)، وكان يتعاطف معي في الموقف وكنا نشركه معنا في الطعام وجلساتنا وأحاديثنا وتكونت بينه وبيننا زمالة معتقل تركت تأثيرها الايجابي في سلوكه. طلب جدوع من والدي أن يقف قريبا منه أي خلف مكتبه ليجنبه هذه الاعتداءات من هذا الشرطي المستهتر، وكان موقفا نبيلا من موظف يعمل في جهاز الأمن، ربطتني به علاقة زمالة في الموقف لمدة أيام معدودة.
من خلال تجربتي الشخصية في معتقلات أجهزة الأمن، لاحظت إن المخبرين السريين (شرطة أجهزة الأمن) كانوا معظمهم منبوذين اجتماعيا، ويتم اختيارهم من العناصر الفاشلة في حياتهم الاجتماعية والعملية ومن ذوي السمعة الأخلاقية المنحطة، فيلجئون للالتحاق والعمل كمخبرين في أجهزة الأمن السيئة الصيت والمحتقرة من قبل الشعب، وهم باعتدائهم على المعتقلين السياسيين يحاولون تغطية هذا النقص في شخصيتهم المنبوذة اجتماعيا، والتظاهر وكأنهم أرفع شأنا من الآخرين ويتحكمون بمصير وحرية المعتقلين.
بعد أن طال احتجازنا وازداد عددنا وبسبب ارتباك أجهزة الأمن، حيث برزت قوة الحرس القومي باعتبارها السلطة الوحيدة لإصدار الأوامر المتعلقة بالمعتقلين، وأصبح مصيرنا بيد الحرس القومي، حينها بدأت اللامبالاة تسود بين شرطة الأمن. فعندما طلبنا أن يسمحوا لنا بالذهاب إلى المرافق الصحية بعد حجز زاد على الخمس ساعات، أجابنا أحدهم أنهم غير مسؤولين عنا ولا يمكنهم تحمل مسؤولية مرافقتنا للمرافق الصحية لقضاء حاجتنا، خاصة أن المرافق الصحية كانت في ساحة المركز وخارج الأبنية الإدارية ويتطلب الوصول إليها السير مسافة 150 م أو أكثر وتقع بالقرب من السياج الخارجي. عندما رفض أفراد الأمن مرافقتنا للمرافق الصحية، خيرتهم بين أخذنا إلى المرافق أو الاضطرار لقضاء حاجتنا -التبول- في نفس الغرفة، لأننا لم نعد نحتمل! وكان هذا مجرد سخرية مني، ولم أكن جادا، ولكن شرطة الأمن كانوا يعرفون مكانة دائرتهم فوافقوا على أن نتبول فقط في داخل الغرفة! فكنت أول المبادرين في رش بوله على جدران غرفة القلم السري لمديرية أمن كربلاء بتاريخ 9 شباط 1963 بحدود الساعة الثالثة بعد الظهر وبعلم وموافقة أفراد الأمن السري! ثم تلاني والدي فهمست بإذنه إن هذه الحادثة (التبول) ستسجل في تاريخ مديرية أمن كربلاء وفي ظل حكم البعث العربي! وبعد أن قضى رابع واحد منا حاجته منعوا الآخرين من مهمة رش البول على جدران دائرتهم لان رائحة البول انتشرت في الغرفة ووعدونا بأنهم سيتحدثون مع مسؤولي الحرس القومي.
مساء نفس اليوم من اعتقالنا -9 شباط- نقلنا جميعنا نحن المحجوزين إلى الغرفة الأكبر من غرف موقف مركز شرطة كربلاء، ومساحتها لا تتجاوز 30م2. وخلال اليومين التاليين ازدحمت غرفة المعتقل بالمعتقلين وتجاوز عددنا الثمانين! كنا من مختلف قطاعات الشعب وبمختلف الأعمار، أطباء، معلمين وأساتذة، طلبة، عمال، محامين وفلاحين. ولم تعد غرفة المعتقل تستوعب أكثر من هذا العدد، فهذه الغرفة لم تستوعب في أصعب الظروف، التي قضيت فيها أيام اعتقالي في عهد عبد الكريم قاسم، أكثر من عشرين معتقلا. لذلك كان بعضنا يقضي ليله ساهرا متعلقا بالشباك الكبير والوحيد ذي الرف المنحدر بدرجة 45، وهو غير مريح للجلوس بسبب انحدار الرف. كان البعض يفضل احتلال هذا الرف المائل ليقضي ليلته، مفضلا ذلك على نومه وسط هذا الزحام، والبعض كان ينهكه السهر ويضطر لحشر نفسه بين الآخرين ويستسلم للنوم. وكم مرة كنا نبحث عن أحدهم ولم نعثر عليه بسبب تكدس هذه الأجساد البشرية على بعضها، وقد حدث هذا مع صـﮔر النشمي، وهو طفل لا يتجاوز عمره الخمسة عشر عاما اعتقل مع والده الفلاح مهدي النشمي، ولم نعثر عليه إلا بعد أن مدد أحدهم ساقيه دافعا صـﮔر فوق الأجساد المتكدسة، وصـﮔر مازال يغط في نومه! كان الوضع في الموقف مزريا مع تزايد عدد المعتقلين، ولم يعد المكان يتحمل زيادة العدد والاعتقالات متواصلة، حتى أن الموقف في اليوم الثالث لم يعد يسعنا ونحن جالسين!
اعتقل أخي الأكبر كفاح في اليوم الثالث، وكان يعمل مدرسا في اعدادية كربلاء للبنين. الذين اشرفوا على اعتقاله طلبته من الحرس القومي من بعثيين وقوميين. حتى بلغ مجموع المعتقلين في الأيام الأربعة الأولى أكثر من 100 معتقلا، ولم تعد تسعنا غرف الأعتقال في المركز وعددها 2! زاد وضع الموقوفين سوءاً عندما قرر أوباش الحرس القومي نقلنا أنا وأخي كفاح ومجموعة من المعتقلين إلى معتقل آخر لضيق المكان وتهيئته للمعتقلين الجدد، حيث إن الاعتقالات كانت مستمرة وأعدادنا في ازدياد. قيل لنا سننقل الى سجن بعقوبة، وقد أحضروا الحافلات وقت الظهيرة، وكانت بعض عائلاتنا متواجدة في باب المركز، وبدأ صراخ الأطفال وغضب وبكاء النساء يتعالى، فاضطرت قيادة الحرس القومي للتراجع عن قرار النقل. وهنا يحضرني موقفا مضحكا مؤلما، يؤشر إلى قسوة ولا أخلاقية البعثيين والقوميين من أفراد وقادة الحرس القومي، وعدم احترامهم لأساتذتهم وكبار السن. كان من بين المعتقلين الأستاذ موسى الكرباسي، وهو مدرس اللغة العربية في دار المعلمين الابتدائية، وكان قادة الحرس القومي ومنهم عبد الواحد شمس الدين من بين المشرفين على عملية التسفير لأنه آمر الحرس القومي والمسؤول الأول لمنظمة حزب البعث في كربلاء، ولما تأخر الكرباسي لأنه لم يعثر على حذائه من بين عشرات الأحذية المكدسة، صرخ مسؤول الحرس القومي حاثا أستاذه السابق الكرباسي على الإسراع ليلتحق بالمنقولين لأن الحافلات تنتظره، وكان منظر الكرباسي وهو يرتدي طقمه ورباط العنق وبقدمين حافيتين وبضخامة جسده يبعث على الحزن والأسف في أن يعامل التلميذ أستاذه بهذه الطريقة المذلة والمهينة! فقال له الكرباسي متوسلا: أستاذ قابل اخرج حافيا، لم أعثر على حذائي؟ فرد عليه المسؤول صارخاً: نعم اخرج حافي. وفي حديث لي بالفيس بوك “المسنجر” مع الاستاذ عبد الواحد حول هذه الحادثة، نفى تذكره لها!
كان تراجع الحرس القومي عن نقلنا وتسفيرنا خارج كربلاء مؤقتا وتجنبا لغضب عائلاتنا. ففي اليوم الثاني وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل نقلنا (40-50 معتقلا) إلى مركز شرطة الحلة حيث كان باستقبالنا صفين من الشرطة والحرس القومي، وما أن نمر وسطهم حتى ينهالوا بالعصي علينا بعشوائية، وبشتائم تنم عن حقد دفين. اخبرنا بعض المعتقلين الجنائيين إن الوجبة التي سبقتنا بالأمس من المعتقلين السياسيين أجبرهم الحرس القومي على تنظيف المرافق الصحية وتفريغها من قاذوراتها وحلق شعر رؤوسهم، وذلك لإهانتهم وإذلالهم! كان الحرس القومي يتجنب نقل المعتقلين نهارا خوفا من ردود الفعل الشعبية، فكانوا يتسترون بظلام الليل في عمليات نقل المعتقلين. تم حجزنا في موقف مركز شرطة الحلة حتى المساء حيث نقلنا بعد الثانية ليلا إلى سجن الحلة المركزي في قسم المعمل.
محمد علي الشبيبي
كربلاء/السويد 8 شباط 2024