العائلة مكونة من 14 أخ وأربعة أخوات، لكن وللاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الملكية، تم حساب 11 أخ فقط ودون تحديد الأسماء، لتزداد حصة الغمريين، وعند توزيع الأرض عليهم تم اقتطاع مساحة إضافية وهي قرابة عشرين هكتار، تبين ذلك بعد سنوات، وانتشر الخبر أن أحد المسؤولين في الجزيرة يجني منتوج تلك المساحة، لكن في الواجهة كانت تستثمرها إحدى عائلات الغمريين، لم نعلم من كان المسؤول، لكن الشكوك حامت حول محمد منصورة رئيس الفرع العسكري، وبالمناسبة فاسم (نصران) ومزرعة عمي المجاورة، عربت وسميت منصورة فوقاني ومنصورة تحتاني.
الكبار من الأخوة لم يكونوا حاضرين لأسباب عدة، دراسية معظمها، وكنت الوحيد في الدار، أتنقل ما بين نصران وقامشلو، فرضت علي تحمل المسؤوليات، وقد كانت المهمات كبيرة لشاب متخرج من الثانوية قبلها بسنتين، لكنها ورغم أخطائي كأي شاب، صقلت مداركي، ومن بينها معرفتي لإشكاليات الملكية وقضايا الدوائر حيث البيروقراطية والروتين الممنهج، كما وأن حادثة اللجنة وما تلتها من المراجعات نبهتني إلى قضايا عديدة، وجعلتني أعيش الصدمة ولفترة، خاصة عندما بدأ الوالد يشرح غاياتها البعيدة لي، وقد لاحظت مدى ثقل التبعات عليه وكان يدرك ما ستؤول إليه النتائج.
نصران كما هو معروف تملكها آل عباس منذ أكثر من مائتي سنة بشكل قانوني، وقبلها ربما بقرون كانت تابعة للعائلة والعشيرة، فيها قراهم، وامتداداتها كانت مراعي لهم، مثلها مثل مناطق العشائر الكوردية الأخرى ضمن الجزيرة التي ضمت إلى سوريا، وذلك أثناء تقسيم جغرافية كوردستان وتوزيع الفرنسيين والبريطانيين ورثة الإمبراطورية العثمانية فيما بينهم، ومعروف كيف حصل البريطانيون على جنوب كوردستان وساعدت على ضم شرق كوردستان إلى الدولة الإيرانية، وحصلت دولة تركيا الكمالية على شمال كوردستان، وضم قسم إلى روسيا والتي أتبعت فيما بعد إلى الإتحاد السوفيتي، والفرنسيون حصلوا على غربي كوردستان ومن بينها الجزيرة، وقاموا بعدها بتشكيل الدولة اللقيطة باسم الجمهورية السورية، وضمت إليها غرب كوردستان، لذلك وللقضاء على هذا التاريخ جرت عمليات الاستيلاء بخدع قانونية، وهنا نذكر نصران كنموذج عن جميع القرى الكوردية في الجزيرة. وللعلم فقد نشر خبر في نهاية السبعينات، أن منظمة اليونسكو أرسلت تعويضات للملاكين الذين تم الاستيلاء على أراضيهم لكن رفعت الأسد تحايل على اللجنة بطريقة ما وحصل على الأموال.
حاول الوالد أن يوضح لي ماذا ستكون نتائج هذه اللجنة في المستقبل والتي حينها لم أنتبه للقضية ببعدها القومي، فرئيس اللجنة وعلى الأغلب وبأمر من السلطات، ألغى ملكيتنا نحن الأخوة والأخوات، والتي كانت مقسمة منذ عام 1952 بين سبع ملاكين وبالتساوي، وحصرها في ملكية الوالد فقط، لتخفيض سقف الملكية للقرية التي بناها الوالد من العدم عام 1943م وكان لا يزال والوالدة في بداية العشرينات من العمر. هذه المخططات كانت مفروضة على هذه اللجنة واللجان الأخرى المماثلة تطبيقها على جميع القرى الكوردية، ومع جميع الملاكين الكورد حصرا.
أحسست عدة مرات وخاصة قبل كتابة رئيس اللجنة تقريره الأخير وقال بأنه متردد بما ينوي كتابته، أنه يحاول استغلال المهمة للحصول على رشوة؛ وليس كما ظننت في البداية بأنه كان يشعر بتأنيب الضمير، بل وتأكدت بعدها بفترة وخاصة بعد تحليل الوالد، بأنه كان مفروضا عليه فعلها حتى ولو دفعت له، مع ذلك حاول الحصول على بعض المال، وللعلم كان الوالد ضد دفع الرشوة ونبهني إليها، لقناعته التامة بأنها لن تنفع، ولا جدوى منها مثلما حصل لبعض الملاكين.
ما كان يلاقيه الإنسان الكوردي بشكل عام من القوى الأمنية ومن مثل هذه اللجان التي كانت تظهر وبتلك العنجهية في القرى، عكست العلاقات الكارثية بين سلطة محتلة وشعب يقاوم حتى ولو كان بالصمت، فأي ظهور لهم كانت تعني التكاليف الباهظة على المجتمع المعاني أصلا من العوز والفقر المفروض عليه من قبل السلطات. فمع هذه اللجنة كانت قد درجت بين الملاكين، أن تقام لهم الولائم والحفلات في المدن القريبة، لكنني ولكرهي لرئيس اللجنة بشكل خاص، إلى جانب أنني كنت حينها كما ذكرت سابقا، في العشرين من العمر، ولا أحبذ ولائم الشرب، وكنت معلما في قريتي نصران أحافظ على الرصانة قدر الإمكان، والوالد ضد الرشوة وعزائم السكر، لم تكن إقامتهم عندنا مريحة، رغم أنني كنت اقدم لهم يوميا ثلاث وجبات دسمة ذبيحة في كل يوم، لذلك تعامل أحدهم في أحد الأيام بوقاحة وتأفف من الإقامة، فحصل بيني وبينه شبه مشاجرة كلامية بحضور المرحوم صالح حسين وكان جاهزا لضربه، تدخل رئيسهم وأوقفه ومن الغريب أنه وقف إلى جانبي وأنبه.
مع ذلك بقيت أتابع الرسم والتخطيط والخرائط لبيوت القرية وحدود الأرض، معظمها كان من حب الاستطلاع والمعرفة قبل أن يكون لي رأي أو قدرة في تحديد مستقبل ملكيتنا للقرية، مثلما لم يكن لأي كوردي القدرة على ما كان يجري من عمليات الاستيلاء والتعريب. خرجت معهم ميدانيا على حدودنا مع دوكر وحلوة وقرى أعمامي وكما ذكرت سابقا تركوها مع حفاره وكرشيران؟ وبشكل عام كنت أهتم بهذه الثانويات حول مصير القرية، وكما ذكرت، لم أنتبه إلى ما كان يخطط لقادم جغرافية غرب كوردستان من خلال نصران وغيرها من القرى الكوردية.
( ملاحظة: ملكية قرية المختارة تتجاوز المائة وستون هكتار، كتبت سهوا في الحلقة السابقة مائة هكتار، وكنت بصدد التنويه حول أسباب عدم تقرب لجنة التحديد والتحرير لأملاكها حتى اليوم، ليس فقط بسبب إشكالية تلك القطعة، خاصة وأن سقف الملكية كما ذكرنا كانت 120 هكتار بعل، حتى نهاية السبعينات، وخفضت بموجب المرسوم التشريعي رقم (31) لعام 1980م إلى 85 هكتار بعل ، والمزرعة ليست فيها فلاحين، ربما لأنه ليس كورديا، أدرجوها كأية مستوطنة عربية، علما أن مالكها كان على علاقة حميمة مع الوالد وسكان المنطقة بشكل عام، لكن على الأغلب، وبدون أن يكون للمالك علم بها، درست في أروقة السلطة ضمن سياق مخططات الاستيلاء على جغرافية كوردستان وتعريبها).
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
12/2/2024م