بعد نحو عشرة أعوام على توقف الإنتاج فيها إثر معارك طاحنة بين القوات الأمنية العراقية وتنظيم داعش، تعود مصفاة بيجي، أكبر مصافي البلاد للإنتاج، إلى العمل مجددا وسط جدل مستمر حول سرقة معداتها التي تتجنب الحكومة الخوض في تفاصيلها.
يقع مصفى بيجي في محافظة صلاح الدين متوسطاً الطريق بين بغداد والموصل. ويعتبر أكبر مجمعات تصفية وتصنيع النفط في العراق. جرى افتتاحه عام 1978 وتبلغ طاقته الإنتاجية 15 مليون طن سنوياً من المشتقات النفطية، فيما تبلغ طاقته التكريرية 310 آلاف برميل يومياً.
الموقع الإستراتيجي لمدينة بيجي ومصفاتها جعلها هدفاً لعصابات داعش في يونيو 2014، فهي تقع على مفترق طرق رئيسة تربط بين بغداد والموصل وصلاح الدين وكركوك وديالى، والسيطرة عليها تعني قطع طريق الإمداد القادم من بغداد. أما السيطرة على المصفاة فكانت تعني الحصول على خزانات وقود ضخمة وتوفير دخل مادي كبير للتنظيم.
ولأكثر من عام، ظلت قوة أمنية صغيرة داخل المصفى تقاتل بشراسة لمنع التنظيم المتشدد من قطع طرق الإمداد أو الحصول على مخزونات النفط.
معارك شرسة
المعارك التي خاضتها القوات الأمنية ضد تنظيم داعش تحدث عنها للإعلام العقيد علي الكناني الذي استلم قيادة القوات بعد مقتل قائد حماية المصفاة.
امتد الكر والفر في معارك ضارية بين القوات الأمنية وعناصر داعش للفترة من يونيو 2014 حتى أكتوبر 2015. قال الكناني في تصريحاته الإعلامية إن القوات الأمنية صدت خلالها 40 هجوماً واسعاً و175 تعرضاً استخدم خلاله مقاتلو ا داعش مئات السيارات المفخخة فكانت سحب الدخان جراء حرق خزانات الوقود تحجب أشعة الشمس وكان المكان يهتز باستمرار على وقع السيارات المفخخة.
في البداية كان عدد الجنود في المصفى لا يتجاوز 110، واستمرت هذه القوة الصغيرة بحماية المصفى حتى أغسطس 2014 حين تمكنت القوات الأمنية من إيصال التعزيزات ليصبح العدد الكلي للمقاتلين 350 جندياً من كل الصنوف.
وقبل ذلك، تمكن التنظيم من إسقاط مروحيتين لتتوقف التعزيزات حتى الاستعانة بقوات التحالف لإيصال العتاد باستخدام مظلات كبيرة الحجم تلقى من ارتفاعات عالية.
شن داعش أشرس هجماته على المصفى في نيسان 2015 بحوالي 1400 مقاتل، واستمر الهجوم 11 يوماً استخدم التنظيم خلالها كل ما لديه من أسلحة من ضمنها غاز الكلور وعشرات من السيارات المفخخة والقصف بالهاون، كما راقب المكان بالطائرات المسيرة لتحديد تحركات الجنود، ليقتل في تلك الهجمة قائد القوة اللواء الركن ضيف الطائي ومعاونه العميد عبد الكريم شبر.
حينها، وكما روى الكناني، استخدم داعش مكبرات الصوت يطالب فيها القوات بالاستسلام مع وعود بعدم المساس بهم، لكن أحداث “مجزرة سبايكر” لم تكن تبعد أكثر من 35 كيلومتراً عن المصفى، ورفض الجنود تلقي المصير ذاته بالوعود ذاتها.
استمرت المعارك الضارية حتى تمكنت القوات المسلحة العراقية من السيطرة على مدينة بيجي، لتصل قوات مكافحة الإرهاب ترافقها فصائل من الحشد الشعبي ويعلن العراق تحرير المصفى في 20 أكتوبر 2015.
نكسة
تعرض المصفى إلى تدمير كبير في خطوط الأنابيب ومرافق التخزين المرتبطة به جراء العمليات العسكرية التي دارت فيه، ثم تعرض إلى عملية نهب منظمة للآلات والمعدات، ما تسبب بتوقفه عن العمل بالكامل.
أعيدت المواد المنهوبة من أربيل عاصمة إقليم كردستان في أغسطس 2023، حيث كانت مخزنة لسبع سنوات، إلى بغداد، محملة على عشرات الشاحنات. حصل ذلك بعد ظهور “تاجر كردي” تبرع بإعادة تلك المواد إلى بغداد وقال حينها إنه ينفذ وصية شقيقه الراحل الذي قام بدفع مبلغ 300 مليون دولار إلى جهات لم يسمّها وأنه يتبرع بهذا المبلغ إلى حكومة المركز!.
كل هذه التفاصيل رواها رئيس لجنة الطاقة في البرلمان العراقي هيبت الحلبوسي، في لقاء تلفزيوني، قال فيه إن جهات في مجلس الوزراء كانت على علم بوجود تلك المواد منذ عام 2017.
واتهمت العديد من الجهات مليشيا “عصائب أهل الحق” في التورط في القضية، إلا أن زعيمها قيس الخزعلي نفى التهمة وقال في لقاء تلفزيوني إن “مسؤول القوة العسكرية لعصائب أهل الحق قام بتسليم المصفى إلى القوة الماسكة بوجود أبو مهدي المهندس وشخص آخر لا أتذكره”، مشيرا إلى أن من مسك الأرض هي قوات متعددة وليست قوة واحدة متجنباً ذكر اسم تلك القوات.
ورغم الجدل الكبير الذي رافق إعادة المواد المنهوبة والمطالبات الشعبية بمحاسبة الجهات المسؤولة عن عملية النهب، إلا أن أي جهة لم يتم الإعلان عن مسؤوليتها وجرى الاكتفاء باستعادة المعدات والمضيّ قدماً بعملية التأهيل.
إعادة الافتتاح
أعاد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني افتتاح مصفاة بيجي في 24 فبراير الحالي، بعد إعادة تأهيلها التي استغرقت سبعة أشهر من تاريخ استلام المواد المنهوبة.
وقال خلال حفل الافتتاح “نحن أمام إنجاز ينظر له من عدة نواح، فمن الناحية الاقتصادية فإن العراق المعروف بثروته النفطية وينتج أكثر من أربعة ملايين برميل من النفط يومياً يقوم باستيراد مشتقات نفطية وهي سياسة كانت قائمة منذ عقود”.
وأوضح السوداني أن حكومته “تعمل على تأمين كافة احتياجات البلد النفطية من خلال افتتاح مصفى كربلاء الكبير ومصفى في البصرة، ليحقق خطوة مهمة ومتقدمة في طريق إعلان العراق بعد إكمال باقي المشاريع في موعد أقصاه منتصف 2025، الانتهاء من استيراد المشتقات النفطية، وسيتم تحويل الأموال الطائلة من مليارات الدولارات إلى جوانب أخرى”.
على الصعيد ذاته، يتفق أستاذ اقتصاديات النفط بجامعة المعقل بالبصرة نبيل المرسومي، مع ما ذهب إليه السوداني، فالعراق “رغم أنه واحد من أكبر المنتجين للنفط إلا أنه يعاني عجزاً في المشتقات النفطية يستنزف نحو خمسة مليارات دولار من موارد البلاد لتوفير احتياجات السوق المحلية عبر الاستيراد”.
ويبين لـ”ارفع صوتك” أن هذا الأمر “دفع الحكومة مؤخراً إلى إطلاق مخطط لزيادة سعة مصافي النفط في العراق، بهدف وقف استيراد الوقود وتحقيق شبه الاكتفاء الذاتي من المنتجات النفطية بحلول عام 2025 والتحول بعد ذلك إلى التصدير للخارج”.
وإذا ما نجح العراق في خططه، بحسب المرسومي، فإن “الإنتاج الإجمالي للمصافي سيرتفع إلى 27 مليون لتر يومياً وهو يغطي نسبة 90% من الاستهلاك المحلي من البنزين”.
عندئذ، سيحتاج العراق إلى استيراد ثلاثة ملايين لتر يومياً فقط من البنزين الذي يشكل حالياً ثلاثة أرباع المشتقات النفطية المستوردة، يتابع المرسومي.