الأربعاء, ديسمبر 25, 2024
Homeاراءمع نيتشه في كهف زرادشت/1 : مراد سليمان علو

مع نيتشه في كهف زرادشت/1 : مراد سليمان علو

عن لدغة الأفعى
(النصّ)
ترجمة: علي مصباح
“استلقى زرادشت ذات يوم قائظ تحت شجرة تين، ونام محكما ذراعيه على وجهه. فجاءت أفعى ولدغته في رقبته مما جعله يصرخ من شدّة الألم. ولما أزاح ذراعيه عن وجهه نظر إلى الأفعى؛ عندها تعرفت على عينيّ زرادشت فاستدارت بحركة مضطربة تريد الانصراف. “لا تفعلي، قال لها زرادشت، فأنت لم تتقبلي بعد عبارات شكري! لقد أيقظتني في الوقت المناسب، لأنه ما تزال أمامي طريق طويلة”. ـ “إن طريقك غدت قصيرة، قالت الأفعى بشيء من الأسى، ذلك أن سمّي قاتل”. ابتسم زرادشت قائلا: “متى رأيتِ تنينا يموت بسمّ ثعبان؟ بل لتستردّي سمك! فأنت ما زلت غير غنية بما فيه الكفاية كي تمنحيني إياه”. وإذا الحيّة ترتمي مجددا على عنقه وتلعق جرحه.
ولما روى زرادشت هذا الأمر لتلامذته ذات مرّة سأله هؤلاء: ” وما هو مغزى حكايتك يا زرادشت؟” فأجابهم زرادشت هكذا:
مدمّر الأخلاق يدعوني أهل الصلاح والعدل: إن حكايتي لا تنطوي على حكم أخلاقي.
لكن إذا ما كان لديكم عدوّ فلا تجاوزوا شرّه بحسنة؛ إن ذلك سيجعله يشعر بالخجل. بل برهنوا له بأنه فد أحسن إليكم.
ولتنفجروا غضبا بالأحرى فذلك أفضل من أن تُخجلوا (بتاء مضمومة) أحدا. وإذا ما لعنتم، فإنه لن يعجبني أن أراكم تباركون لاعنكم. بل من الأحسن أن تلعنوا قليلا بدوركم!
وإذا ما أصبتم بمظلمة كبيرة، فلتسارعوا لي بإتيان خمسة مظالم صغيرة مقابلها!، لأنه فظيع مظهر ذلك الذي يرزح لوحده تحت وطأة مظلمة.
أما عرفتم هذا بعد؟ إن ظلما مقتسما يساوي نصف عدالة. وليأخذ الظلم على عاتقه ذلك الذي يقدر على تحمله!
إن قصاصا صغيرا لأكثر أنسانيّة من عدم القصاص. وإذا لم تكن العقوبة أيضا حقا وشرفا بالنسبة للمنتهِك، فأنني لا أرغب في عقوبتكم أيضا.
وإنه لأسمى أن يسند الواحد لنفسه مظلمة من أن يحتفظ بالحق لنفسه، خاصة عندما يكون المرء على حق. لكن على المرء أن يكون غنيا بما فيه الكفاية لمثل هذا الأمر.
لا أحبّ عدالتكم الباردة؛ وفي عينيّ قضاتكم يتراءى لي دوما وجه الجلاد ونصله البارد.
قولوا لي أين توجد العدالة التي هي حبّ بعينين بصيرتين؟
فلتبتدعوا لي أذا الحبّ الذي لا يحمل كل العقاب فقط، بل كل الذنب أيضا!
ولتبتدعوا لي إذا العدالة التي تبرئ الجميع، عدا القاضي.
أتريدون الاستماع إلى هذا الأمر أيضا؟ من يريد أن يكون عادلا كل العدل سيجعل من الكذب أيضا سماحة تجاه البشر. لكن كيف يمكنني أن أكون عادلا كلّ العدل! كيف يمكنني إعطاء كل حقه؟ بل يكفيني هذا: أن امنح كل أحد حقي الخاص.
وأخيرا، احذروا يا أخوتي أن تظلموا كل متوحد! من أين للمتوحد أن ينسى؟ ومن أين له أن يجازي بالمثل!
مثل بئر عميقة هو المتوحد. ليس صعبا أن يقذف فيها بحجر! لكن قولوا لي من بإمكانه استخراج ذلك الحجر إذا ما استقر في القاع؟
احذروا من إهانة المتوحد! لكن إذا ما فعلتم ذلك، فلتقتلوه بعدها إذا!
هكذا تكلم زرادشت.

(تفكيك وتأويل النص من وجهة نظر كاتب المقال)
(1)
مع نيتشه (فلاش باك)
تنبهت إلى الفلسفة بصورة عامة كنوع راق من الكتابة الإبداعية؛ بوسعها أن تحتوي على أجوبة في أعقد المسائل الحضارية والإنسانية التي شغلت وما تزال تشغل البشر. مذ أن كنت طالبا في الدراسة الإعدادية، أتجول بين مكتبات الموصل في أسواقها العامرة في بداية الثمانينات.
إلا أنني لم استغرق في قراءة نيتشه إلا بعد وصولي إلى المرحلة الرابعة من دراستي في كلية الإدارة والاقتصاد/ جامعة الموصل.
وحينها وجدت تشابها بين أسلوب نيتشه وطريقة شرحه لبعض الأمور لأستاذ لي في مادة التسويق، يدعى (أُبي الديوه جي) بضم الألف. وهو ابن المؤرخ الموصلي المعروف (سعيد الديوه جي) الذي تناول المجتمع الأيزيدي كديانة وكمجتمع وأساء التقدير والوصف وكان له رأي متزمت فيهم.
كان لهذا الأستاذ الكبير ـ والذي أصبح لاحقا رئيسا لجامعة الموصل ـ كتابا في التسويق عنوانه (التسويق) مشوقا مكتوب بأسلوب فلسفي بسيط وواضح.
كنت احتفظ بهذا الكتاب القيم إلى أن بعثرت (داعش) مكتبتي في الثالث من آب 2014. أنصح بقراءة هذا الكتاب للوقوف على فن جميل في التأليف لا نجده هذه الأيام.
ثم، اشتريت كتاب (هكذا تكلم زرادشت) بعد أن شوقني إليه المؤرخ والكاتب العظيم (ول ديورانت) في كتابة (قصة الفلسفة) فبعد أن قرأت الفصل المتعلق بنتشه ودعوته إلى الإنسان الخارق وعدم ورود الرسالة كاملة في (قصة الفلسفة) كان على أن ألتفت إلى كتب نيتشه المترجمة إلى العربية فاقتنيت (هكذا تكلم زرادشت) ترجمة الأديب (فلكس فارس).
الأستاذ (فلكس فارس) أديب وشاعر مرموق ولكن لم يعجبني محاكمته لنيتشه من المتن، وكذلك لم يعجبني اختصاره اسم (زرادشت) بطل الرواية إلى (زارا).
استغرق الأمر عشرات السنين حتى انبرى مترجم آخر يدعى (علي مصباح) ـ والنص أعلاه من ترجمته ـ ليسحب البساط من تحت أقدام المترجم (فلكس فارس). كلاهما لهما أسلوب مختلف في ربط بعض الجمل وترجمة بعض المصطلحات، ولكن شبيهان في تحيق الغاية وبالتالي قراءة الاثنين متعة لا توصف.

(2)
ما هذا؟
هذه سلسلة مقالات في كتاب (هكذا تكلم زرادشت)، وهي غير متسلسلة، وقد أكون بطيئا في كتابتها وأخراجها فهي أي المقالات تحتاج الكثير من الوقت والجهد.
على كل حال فهذا هو الكتاب الأكثر غموضا ورواجا فهو ضمن أفضل عشرة كتب في التاريخ البشري، وهكذا نرى ملحمة فلسفية بأسلوب شعري متمكن وحبكة روائية رائعة لحكيم يخرج من كهفة بغته بعد أن اكتفى من التأمل والوحدة؛ ليعلم الناس ويعطيهم حكمته دون مقابل وحسب ما يصادف من أناس ومارة في مغامراته عند القيام برحلته.
لا حاجة بنا لنستشهد بما قاله الأدباء والشعراء والفلاسفة عن هذا الكتاب فلا يمكن الوقوف عليها جميعا، ولنستشهد بما ذكره نيتشه نفسه عن (هكذا تكلم زرادشت) وحتى قبل أن يصدره.
يقول نيتشه في رسالة كتبها إلى (مالفيدا فون مايزنبورغ) في 20 أبريل 1823 ليعلن لها فيها عن هذا الكتاب قائلا: “…إنها قصة رائعة: لقد تحديت كل الديانات ووضعت كتابا مقدسا جديدا! وبكل جدية أقول إنه على غاية من الجد كما لم يسبق لكتاب آخر أن يكون، وإن استوعب الضحك وأدمجه في الدين.

(3)
ماذا يريد نيتشه؟
يقول نيتشه:
“ما لا يقتُلنا يجعلُنا أقوى”.
وهو بذلك يدعونا إلى البحث عن القوّة، لا عن الحياة السهلة. وتركز فلسفته على ضرورة أن يكون المرء شجاعا وعلى أساس المرور بدرب الألم والتضحية تكون العظمة والنجاح.
ويأتي ذلك بالاعتماد على الغريزة فهي مصدر قوة الإنسان التي تمنحه السرور والنشوة وبالتالي القوة.
وخلاصة القول إن منهج نيتشه مستقل بذاته، وهو يسعى بذلك إلى تحقيق المعرفة الإنسانية.
للوصول إلى هذه الحقائق يجب العودة إلى نصوصه دائما ومن خلال البحث والتنقيب المستمرين يمكن إزاحة الأقنعة التي تحجب الحقيقة عنه.
ومن واقع تجربة مع كتاب (هكذا تكلم زرادشت) مثلا أقول: القراءة الأولى لي كانت اكتشافا لوجود مادة ثمينة بين دفتي هذا الكتاب. وكانت القراء الثانية بتأن أكبر.. وهكذا توالت القراءات ومع كل قراءة كان هنالك شغفا للخروج بالمزيد من الفوائد من نصوص الكتاب وإلى الأن.
نيتشه نفسه كان شاعرا ولغويا إضافة لكونه فيلسوفا يرى أن القيم أو الأخلاق هي أصعب ما يمكن للمرء أو المجتمع تغييره لأنها قوية الركيزة عميقة الجذور، لذلك حمل مطرقته ليهدم كل شيء ويعيد البناء من جديد.

(4)
عود على بدء
حان الوقت لنعود إلى النصّ أعلاه والذي عنوانه (عن لدغة الأفعى). ومن قرأ (هكذا تكلم زرادشت) يرى بأن هذه هي المَرّة الأولى التي يُذكَر فيها نيتشه بلسان الحكيم (زرادشت) شيء عن التلاميذ يقدم لهم أستاذهم قصة رمزية بامتياز حيث نجد فيها:
1ـ إشارة إلى شجرة التين التي تذكرنا بالخائن (يهوذا الإسخريوطي) الذي شنق نفسه عليها بعد أن خان المسيح.
2ـ شجرة التين ملعونة في بعض الأدبيات اللاهوتية كالكوميديا الإلهية لدانتي والتي تمثل مركز الجحيم.
3ـ هذه الحدوتة لا تخلو أيضا من إشارات دينية (الأفعى، والتنين) أنظر سفر التكوين، الإصحاح الثالث.
يقول الكاتب والمترجم السوري (إبراهيم جركس) في تناوله لكتاب (هكذا تكلم زرادشت) في مقالة في الحوار المتمدن:
“…ولكننا نجد إن نيتشه وبلسان بطل الرواية (زرادشت) يفسرها ضمن موضوع أشمل عن الحبّ. لكننا هنا في متن هذه الرواية ليس لدينا حبّ المرء لعدوّه. إنّ العلاقة مع العَدوّ إمّا أن تكون مثمرة بشكلٍ متبادل للتجاوز، أو أنّها مجرّد رابطة تافهة ومهينة بشكل متبادل، وهذه هي نفس الرسالة التي تقرّها في الكتاب الأول، قسم “عن الحروب والشعوب المحاربة”. إنّ العلاقة بالعدوّ هنا هي بشكلٍ عام انعكاس مرح أو تشويه للمبدأ المسيحي القائل بإدارة الخَدّ الآخر…”
يقول كاتب المقال: ألا يذكرنا هذا بالفرد الأيزيدي عندما يذهب إلى الصلاة (الدعاء) يدعو في نهاية دعاءه بالخير لإثنين وسبعين مله قبل نفسه وقبل عائلته وقبل عشيرته، فهذا هو نيتشه يهدم بمطرقته هذه الدعوة التي تنم عن خوف أو جهالة.
وأنني بدوري استنكر تلك الدعوات المريضة التي تنم عن خوف أو مصلحة للمصالحة مع قاتلي أطفالنا ومغتصبي نساءنا، بل علينا أن نبتعد عنهم لنتسلح بألف مطرقة مثل مطرقة نيتشه. نهدم كل شيء لنبني الإنسان الأيزيدي الأعلى من جديد.
إنّ مناقشة مفهوم العدالة بالمعنى الواسع يتحوّل بسرعة إلى حيّز العدالة الاجتماعية. إنّ فعل الخير والإحسان بالنسبة لبطل الرواية، حبّه للإنسان وهبَتَهُ له، كما رأينا، تتمثّل في إهداءه حكمته له وهي أي الحكمة لا تخدم الناس بشكلٍ عام، لكنها تخدم الإنسان الأعلى الذي يدعوا له نيتشه.
هكذا تكلمت.

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular