أرى من المفيد مواصلة النقاش حول علاقة العراق المعقدة مع الدولتين المتخاصمتين، إيران وأمريكا. وما يزيد في التعقيد، أن الشعب العراقي منقسم على نفسه إلى مكونات دينية وأثنية ولغوية وعشائرية، وغيرها، وهذا الانقسام لم يكن جديداً، بل هو نتاج التاريخ والجغرافية، ولكن عبَّر عن نفسه بشكل غير معهود، وبكل وضوح وشراسة في النظام الديمقراطي بعد 2003، لأن الديمقراطية تسمح للناس أن يعبِّروا عن آرائهم ومشاعرهم، الإيجابية و السلبية، بمنتهى الحرية إلى حد الإساءة للحرية والمصالح الوطنية، بينما الأنظمة الدكتاتورية تقطع لسان كل من يتحدث عن أي نوع من الانقسام، لذلك يدَّعي أعداء العراق الجديد، أن العراقيين كانوا موحدين في عهد صدام، وكل العهود التي سبقته، وأن هذه الانقسامات والصراعات جلبتها لنا الديمقراطية الأمريكية التي شكلت الحكومة على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية. وعلى وفق هذه الانقسامات حصل استقطاب القوى المتصارعة لهذه الدولة وتلك، للإستقواء بالخارج. وراحوا يتفننون في توظيف التراث والمفردات اللغوية مثل الكرامة والسيادة، لتعميق الصراعات وإلقاء اللوم على أمريكا، وتعليق غسيلهم على شماعة الآخرين.
وقد لاحظنا ذلك عام 2011، عندما رفض رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي، وبضغوط من إيران وأنصارها من القوى السياسية العراقية المشاركة في السلطة، رفض إبقاء عدد قليل من القوات الأمريكية في العراق ضمن إطار الإتفاقية الاستراتيجية العراقية – الأمريكية (SOFA)، لمساعدة القوات الأمنية العراقية في محاربتها للإرهاب. وهذا القرار الخاطئ هو الذي سهّل تسليم المناطق العربية السنية إلى داعش. ولم يكتف أنصار إيران بهذه الكارثة، بل رفضوا حتى الدعم الأمريكي للعراق في محاربة داعش، بحجة أن هذا الدعم يسيء إلى الكرامة والسيادة الوطنية، علما بأن الإرهاب وكما هو معروف في عصر العولمة، هو مشكلة دولية، وليس مشكلة محلية فحسب، لذلك تتطلب محاربته جهوداً ومشاركة دولية. والمستفيد من رفض الدعم الأمريكي هو تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية. لذلك كتبنا في وقته، مقالاً بعنوان (الكرامة والسيادة في خدمة “داعش“)(1). ولكن أخيراً، انتصرت الحكمة في قبول دعم التحالف الدولي الذي ضم قوات نحو خمسين دولة بقيادة أمريكا لدعم القوات العراقية في حربها على الإرهاب الداعشي في العراق إلى أن تم النصر المؤزر، ولو بتكاليف باهظة في الأرواح والممتلكات والأموال.
وما جعلني أن أعود إلى موضوع الكرامة والسيادة وعلاقتهما بالتحالفات، هو الضجة التي افتعلها و أثارها أنصار إيران وفلول البعث، بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للجنود الأمريكان في (قاعدة عين الأسد) غربي مدينة الرمادي بمناسبة أعياد الميلاد (كريسمس). وهذا تقليد متبع في العالم أن رئيس أي دولة يزور جنوده في مثل هذه المناسبات. ولكن في العراق، وكالعادة أثيرت ضجة واسعة، وقامت قيامة المعارضين، أن زيارة ترامب هذه، وعدم لقائه بالمسؤولين العراقيين في بغداد، تُعتبر إهانة كبيرة للكرامة والسيادة. بل وراح البعض منهم يوجه إهانات لرئيس الوزراء، وينعته بكلمات نابية لا تليق بذكرها في هذا المقال. علماً بأن ترامب وبعد زيارته للجنود الأمريكيين في قاعدة عين الأسد، توجه إلى ألمانيا وزار القطعات العسكرية الأمريكية المرابطة هناك منذ الحرب العالمية الثانية، ودون أن يلتقي بأي مسؤول ألماني، ولم تثار أية ضجة حول الكرامة والسيادة كما أثيرت في العراق.
والمفاراقة، أنه لأول مرة يلتقي أيتام البعث مع أنصار إيران في ذرف دموع التماسيح على الكرامة والسيادة الوطنية، ولكل غرضه الخاص من هذه الضجة، وكل يبكي على ليلاه! فغرض إيران وأنصارها هو فرض الضغوط على حكومة عادل عبدالمهدي، كما ضغطوا على نوري المالكي من قبل، ليرفض أي تقارب مع أمريكا، وبالأخص الوجود العسكري لها، ويعتبر هؤلاء أن العراق أصبح مستعمرة أمريكية، ونفطه ملكاً لأمريكا!! وأن أمريكا أسقطت حكم البعث الصدامي لا لسواد عيون العراقيين، بل للهيمنة عليهم ونهب نفطهم!!.
وكما ذكرنا في مقالنا السابق الموسوم (هل المطلوب منا التضحية بالعراق في سبيل إيران؟)(2)، أن فلول البعث وأتباعهم، استخدموا نفس الحجة وراحوا يحرضون الحشد الشعبي، والمليشيات المدعومة من إيران، للتحرش بالجنود الأمريكان في عين الأسد، لإعطاء مبرر لأمريكا لضربهم وسحقهم نيابة عن البعثيين ودواعشهم (وخليها تعلك بيناتهم!)، على حد قولهم.
والجدير بالذكر أن كلمات مثل الكرامة والسيادة، هي معنوية مجردة (abstract)، غير مادية، يمكن استخدامها لأغراض مشروعة، وغير مشروعة، يسهل معها خدع الجماهير، وحتى استخدامها من قبل أطراف متخاصمة ضد بعضها البعض، وهي أشبه بما حصل في استخدام اسم (الله) في الحرب العراقية–الإيرانية. فالإمام الخميني كان واثقاً من النصر لأنه كان يعتقد أن الله معه. ولما سأل صحفيون صدام حسين فيما إذا كان هو الآخر واثقاً من النصر، فأجاب بنعم، لأن الله معه!
وهكذا قضية الكرامة والسيادة اليوم. فأنصار إيران يعتبرون أن أي تقارب مع أمريكا وخاصة وجود قوات عسكرية أمريكية في العراق، إساءة للسيادة الوطنية. وفي هذا الخصوص طالب السيد هادي العامري المقرب من إيران، وزعيم كتلة الفتح، بطرد الأمريكان، وأن يكون يوم خروجهم في 31 كانون الثاني من كل عام عطلة رسمية(3).
وكذلك البعثيون وأنصارهم، وما يتمتعون من قدرات تكتيكية في اللعب على عدة حبال، وتوظيف كل ظرف لصالحهم، رفعوا عقيرة الكرامة والسيادة، ولكن في الاتجاه الآخر، إذ يرون أي تقارب مع إيران هو إساءة للسيادة الوطنية، وأن العراق بعد 2003، صار مستعمرة إيرانية، ويدَّعون أن ممثلي الشيعة في الحكومة العراقية إيرانيين، أو من التبعية الإيرانية، والشيعة الصفوية!!!!. والمفارقة أنه في الوقت الذي يحرضون الحشد الشعبي لضرب الجنود الأمريكان، يقوم ممثلو البعثيين في أمريكا بعقد لقاءات ومؤتمرات في مشيغان، يتوسلون بالمسؤولين الأمريكيين لدعمهم وتحرير العراق من “الهيمنة الإيرانية“، وأعادتهم للسلطة. وهذا واضح من بيانهم الختامي لمؤتمرهم المشبوه في مشيغان. والجدير بالذكر أن أحد ناشطي المؤتمر هو أيهم السامرائي، الهارب من السجن بعد إدانته من قبل القضاء العراقي بجريمة سرقة 300 مليون دولار عندما كان وزيراً للكهرباء في حكومة أياد علاوي الانتقالية.
اعتراض آخر على العلاقة مع أمريكا، أنها منحازة إلى إسرائيل، وأنها تضغط على الدول العربية والمنطقة من أجل فرض سياسة التطبيع مع إسرائيل. وفي هذا الخصوص نقول، شئنا أم أبينا، فإن التطبيع قادم لا ريب فيه، والذين يعارضون التطبيع فهم يؤجلونه فقط إلى أمد غير معلوم وبدوافع عاطفية، وبذلك يزيدون من عذابات شعوبهم، ويقودون دولهم إلى المزيد من الدمار. فإستراتيجية أمريكا في المنقطة باتت معروفة وثابتة، وهي حماية إسرائيل، وأصدقائها الخليجيين، وضمان تدفق النفط إلى الغرب. راجع مقالنا بعنوان (حول إستراتيجية أمريكا في الشرق الأوسط)(4)
فالتاريخ القريب أثبت صحة سياسة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، حينما قال عام 1978، أنه استرجع جميع أراضيه المحتلة من إسرائيل بدون سفك دماء، وعلى الذين يعارضونه، فليسترجعوا أراضيهم بالطريقة التي يفضلونها. وبعد أربعة عقود، لم يفشل هؤلاء في استرجاع أراضيهم فحسب، بل وكلفوا شعوبهم المزيد من الدمار، والبؤس، والتخلف، وهلاك الملايين، وتشريد الملايين الآخرين. والعديد من الدول العربية الآن لها علاقات دبلوماسية متبادلة مع إسرائيل، وأخرى لها علاقات تجارية، وحتى تحالفات عسكرية واستخباراتية غير معلنة مع إسرائيل، وفي مقدمتها مملكة خادم الحرمين السعودية. ولهذا لا تحتاج أمريكا وإسرائيل أن تشنا الحروب على الدول العربية المناهضة للتطبيع، إذ تقوم السعودية وحليفاتها الخليجيات بشن الحروب نيابة عنهما، سواء بشكل مباشر كما هو جار في تدمير اليمن، أو عن طريق المنظمات الإرهابية كما حصل في العراق وسوريا وليبيا.
والجدير بالذكر أنه في عام 1964 قدم الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة مبادرة إلى الرئيس المصري عبدالناصر، بحل الصراع العربي– الإسرائيلي سلمياً، لتوفير الطاقات البشرية والمادية العربية للتنمية، بدلا من تبديدها وهدرها في هذا الصراع اللامجدي. فأيده الأخير في أول الأمر، ولكن ما أن أعلنها بورقيبة، وثارت عليه الجماهير العربية، تنصل عبدالناصر من وعده للرئيس التونسي، وكان ما كان من الدمار الشامل المتواصل ابتداءً من نكبة 5 حزيران 1967 وإلى الآن. فإلى متى يستمر هذا الدمار بسبب رفض التطبيع مع إسرائيل؟ يرجى مراجعة مقالنا: (سياسة ” كل شيء أو لاشيء“.. إلى أين؟)(5)
وقبل أيام اثيرت ضجة جديدة في العراق على تصريحات وزير الخارجية العراقي السيد محمد الحكيم، اشار فيها الى ان العراق يؤيد حل الدولتين، اسرائيل وفلسطين. فقامت قيامة الثوريين المستفزين من محور مؤيدي ايران، طبعا بدفع من نفس الجهات المحرضة على ضرب القواعد الاميركية، وطالبوا باستدعاء وزير الخارجية ومحاكمته في البرلمان، مع ان الرجل وضح المسألة وطبيعة تصريحاته.علماً بأن مشروع الدولتين أقرته الأمم المتحدة، والجامعة العربية، والحكومة الفلسطينية منذ عهد الراحل ياسر عرفات وإلى الرئيس الفلسطيني الحالي السيد محمود عباس. ولكن إيران وحماس ضد هذا المشروع، فما زالوا يحلمون بتحرير الأرض من النهر إلى البحر وإلقاء اليهود في البحر لتأكلهم الأسماك!!! لذلك يريدون من العراق أن يحذو حذوهم، ويكون ملكياً أكثر من الملك، وفلسطينياً أكثر من الشعب الفلسطيني وقيادته.
ملاحظة أخرى جديرة بالذكر وهي، منذ سقوط حكم البعث الجائر، يتردد في أوساط العراقيين وغير العراقيين، وخاصة من أعداء الديمقراطية، أن أمريكا جاءت بهؤلاء الفاسدين والفاشلين للحكم. لا شك أن هذا القول غير دقيق، لأن أمريكا اسقطت أبشع نظام دكتاتوري فاشي مستبد في العراق، وحررت الشعب العراقي من جوره وطغيانه، وأقامت مكانه نظاماً ديمقراطياً بكل معنى الكلمة، وفسحت المجال للشعب العراقي ليختار حكامه بالانتخابات الحرة والنزيهة، وتحت مراقبة دولية. وإذا ظهر هؤلاء الحكام غير كفوئين، أو فاسدين وفاشلين، فاللوم على الحكام انفسهم، لأنهم لم يكونوا بمستوى المسؤولية، وخانوا ثقة الشعب بهم، وليس ذنب أمريكا. فلماذا ننتقد أمريكا على فشل العراقيين الذين أنتخبهم الشعب؟
اعتراض آخر على العلاقة مع أمريكا من صديق في إحدى مجموعات النقاش، مفاده أن ترامب شخص متقلب لا يؤتمن جانبه، وذكر أمثلة عديدة منها تنصله من الاتفاق النووي مع إيران. وأنا إذ أتفق مع الصديق، ولكن يجب أن نعرف أن ترامب رجل غريب الأطوار، وغير طبيعي، ويتصرف بشكل غير لائق مع الجميع، وحتى مع حلفائه في دول الناتو، والوحدة الأوربية، بل ويدعو إلى عزل أمريكا عن العالم وفق شعاره (أمريكا أولاً). و ترامب ليس أمريكا، فهو مكروه ليس من قبل العالم فقط، بل وحتى من قبل غالبية الشعب الأمريكي، فأغلب الناخبين الأمريكان صوتوا لصالح منافسته هيلاري كلنتون التي تفوقت عليه بثلاثة ملايين صوت، ولكن النظام الانتخابي الأمريكي الغريب هو الذي جاء بترامب. لذلك فهو رجل طارئ، وله مشاكل مع الجميع، بما فيه الإعلام الأمريكي وغير الأمريكي، ولا يجب أن نحكم على أمريكا من خلال ترامب، فهو زائل، وأمريكا كدولة مؤسسات باقية، لذلك نجد صحفيين بل وحتى مسؤولين في إدارته وفي حزبه وقفوا في وجهه بمنتهى الشجاعة وتحدوه، بل وحتى اتهمه بعض علماء النفس الأمريكان بالجنون. ولمعرفة المزيد عن ترامب يرجى قراءة مقال الكاتب والإعلامي العراقي الدكتور حميد الكفائي، الموسوم: (حروب ترامب والإنكفاء الأميركي)(6)
خلاصة القول، أن العراق بوضعه الهش، وتفتت وحدته الوطنية، والصراعات الشرسة بين قواه السياسية، مازال مهدداً بالإرهاب، لذلك فهو بأمس الحاجة إلى مساعدة أمريكا العسكرية، مع إبقاء علاقة ودية مع الجارة إيران. ويمكن للعراق أن يمنع استخدام الوجود العسكري الأمريكي ضد إيران في حالة نشوب الحرب بين أمريكا وإيرن، وهو مستبعد، إذ تكتفي أمريكا بالضغوط الاقتصادية على إيران، و نعرف أن لأمريكا قاعدة عسكرية في أنجرليك جنوب تركيا، وفي عام 2003، رفضت تركيا السماح لأمريكا باستخدام هذه القاعدة ضد صدام حسين، وأذعنت أمريكا للموقف التركي. لذلك نؤكد، أنه ليس بإمكان العراق ولا من مصلحته معاداة أمريكا، وإلا سيعود مسلسل السيناريو احتلال داعش للمناطق الغربية، ولا نرى في الوجود العسكري الأمريكي في العراق أي إساءة للكرامة أو السيادة الوطنية، وذكرنا أمثلة كثيرة من الدول الكبرى التي لأمريكا قواعد عسكرية فيها، ودون أن تمس كرامتها، أو سيادتها الوطنية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات علاقة
1- الكرامة والسيادة في خدمة “داعش“
http://www.akhbaar.org/home/2014/9/177006.html
2- د. عبد الخالق حسين: هل المطلوب منا التضحية بالعراق في سبيل إيران؟
http://www.akhbaar.org/home/2019/1/253218.html
3- العامري يدعو إلى أن يكون يوم خروج المحتل في 31 كانون الأول من كل عام عطلة رسمية
http://www.akhbaar.org/home/2019/1/253160.html
4– د. عبدالخالق حسين: حول إستراتيجية أمريكا في الشرق الأوسط
http://www.aafaq.org/masahas.aspx?id_mas=859
5– عبدالخالق حسين: سياسة ” كل شيء أو لاشيء“.. إلى أين؟
http://www.aafaq.org/masahas.aspx?id_mas=2062
6- د. حميد الكفائي: حروب ترامب والإنكفاء الأميركي