ملحوظات:
-النقد في أسفل القصة.
-المشاهد الثلاثة قمت فيه بدمج أحداث الرواية كلها، وأظهرتُ
طبائع الشخصيات المحورية فيها: قناوي وعم مدبولي وهنومة
وأبو سريع.
وراعيت أن تكون قصة قصيرة متكاملة في أركانها وسماتها.
***
وظلت هنومة تتمايل على حرف باب القطار السائر وهي في قمة
السرور، وتغني: «واحنا بكرة هنتجوز.»
بينما قناوي يتكئ على صفحة القطار وينظر إليها بكل سرور، ولقد
خُيل إليه أنها دعته إلى القطار من أجل مصارحته بالزواج منه.
تلك الفتاة التي عشقها، فدائما يراها أشبه بتلك الصور العارية التي
ملأت جدران حجرته التي يبيت فيها.
فقد اعتادت هنومة دائما أن تلبس فستانا يظهر نصف ثديها
العلوي، وكذلك يظهر نصف ساقيها السفليين.
وتأكد من ظنه بعد أن تذكر اليوم الذي أحضر لها فيه عقدا ذهبيا
يملكه رغبة بالزواج بها، ولقد تعمد ذلك لأنه يعلم عنها من خلال
عملها في المحطة أنها تحب المال أكثر من أي فتاة أخرى وأنها قد
تتنازل عن ثوابتها من أجل حصد المال، ولقد تجسد ذلك أمامه
عندما كانت تبيع زجاجات الكوكاكولا للركاب بأي وسيلة رغم أن
ذلك يعرضها للمساءلة أمام رجال الأمن.
وقد بدا طبيعيا عندما سمع منها ذلك، وقال: «أحسن ونبعد عن
الزيطة دية خالص.»
فأحد جوانب شخصيته المريضة أن الكلام الذي يستحسنه ويحقق
أحلامه يعتقد فيه الواقعية ولو كان بعيدا عن ذلك ملايين السنين
الضوئية.
ويرجع السبب في ذلك بسبب جعل نفسه تنفلت لتسبح في الخيال
دائما، مما تسبب أن كل مداركه تجسد رغباته أمامه وإن لم توجد
في الأساس.
وقال في نفسه: لقد نجحت خطتي بعد أن قتلتُ البت حلاوتهم
وألصقتُ التهمة بأبو سريع.
لذلك قال وهو يبتسم ومنبسط الأسارير: «فرحانة يا هنومة؟»
أجابت في صرامة: «أيوه، وعقبالك أنت كمان لما تلاقي بنت الحلال
اللي تريح قلبك.»
هنا تأكد أن هنومة لم تقصده هو عندما قالت قولها: «واحنا بكرة
هنتجوز.»
ضربته كلمة هنومة في أوعية قلبه وظهر ذلك على ملامح وجهه
التي تقلصت بعد أن كانت منبسطة، وهُيئ له أن هنومة لم تعلم
بجريمة قتل أبو سريع لحلاوتهم، أو على الأقل خطته فشلت في
إلحاق التهمة بأبو سريع الذي يعمل شيالا في رصيف القطار. لذلك
قال في اندفاع وإصرار: «أبو سريع قتل حلاوتهم وعاوز يتجوزك
عشان يلهف القرشين اللي حوشتيهم.»
استنكرت حلاوتهم كلامه وصرحت بحب أبو سريع لها وزواجه
بها، فأغضبه تصريح هنومة له وشعر بأن حلمه ضاع وذهب مع
الريح، لذلك أخرج السكين على الفور وهددها بقتلها وقتله إن
تزوجت بأبو سريع.
في تلك اللحظة آثرت هنومة أن تقاومه بالقوة لا بالحيلة، ونسيت
كلام أبو سريع لها عن قناوي يوم أن قال لها أبو سريع بالنص:
الكلمة الطيبة تطويه وتخليه زي العيل الصغير، والكلمة الرضية
تقلب كيانه وتخلي مخه يشت ويعمل جناية.
وآثرت المقاومة بدل أن تقول له كلمة طيبة تطويه وتخليه زي
العيل الصغير، فغافلته وهو شاهر السكين في وجهها وأمسكته من
يده التي بها السكين وشدتها بأقصى ما لديها من قوة فطرحته
أرضا ثم لاذت بالفرار بالركض عبر عربات القطار. نهض وركض
خلفها للإمساك بها.
***
صوت مذيع القطار يجلجل في القطار: على كل الركاب الابتعاد عن
منطقة المناورة، مجرم يحمل سكينا، على رجال الأمن التوجه إلى
منطقة المناورة.
في ظل المطاردة ظل يردد مذيع القطار تلك العبارات بعد أن أوقفوه.
لقد حضر رجال الأمن منذ بضع دقائق بناء على مكالمة من قناوي
نفسه لاستكمال مخططه الشيطاني، فبعد أن قتل حلاوتهم ووضعها
في صندوق ذهب إلى أبو سريع ليخبره بأن هذا الصندوق يحمل
متاع حلاوتهم ويجب عليه إحضاره بناء على طلبها.
فلما رأى أبو سريع يحمل الصندوق سارع بالاتصال برجال الأمن
ليخبرهم بقتل أبو سريع لعاملة القطار في المحطة وتدعى حلاوتهم.
ولكن فور أن جاء رجال الأمن علموا الحقيقة، علموا أن الذي قتل
حلاوتهم هو قناوي، وأنه مجنون، وعلى ذلك طلبوا له مستشفى
المجانين.
استمرت المطاردة بضع دقائق، وأخيرا تمكنت هنومة من فتح باب
كابينة القطار والاختباء فيها بينما هو يركض بحثا عنها في لهفة.
نظر قناوي فوجد أبو سريع ورجال الأمن يتوجهون ناحية القطار،
فتوارى، بينما دخل أبو سريع وسط الجميع وهو ينادي في لهفة:
«هنومة هنومة.»
سمعت هنومة صوت أبو سريع ففتحت باب الكابينة وهي تنادي
عليه نداء المستغيثين، فوجدت قناوي أمامها.
وضع يده على فمها حتى يكتم صوتها وهو يشهر سكينه في
وجهها، واشتبكا معا، هو يحاول كتم أنفاسها وشل حركتها وهي
تحاول اللواذ منه بالهرب، وفي النهاية تمكنت من عضه عضة
قوية، على أثرها استطاعت الفرار لتقفز من مؤخرة القطار.
***
وقفزت هنومة من مؤخرة القطار، وقفز خلفها ليمسك بها ولا تزال
السكين في يده. ويتدحرجان على القضيب عدة مرات حتى استقرا
على مكان تحويلة (1) القطار، أصيب قناوي بشج كبير في أعلى
رأسه (2) نتيجة ارتطام رأسه بقوة في الطوب المسنن الملقى على
الأرض، وأغلق قضيب القطار استعدادا للانطلاق من أجل التحويل
من الرصيف الذي كان فيه على الرصيف المراد السير فيه لاحقا،
وأطلق سائق القطار صفارة الانطلاق وهو يخفض عصا القيادة
لأسفل.
في تلك اللحظة انتبهت هنومة لصوت إغلاق التحويلة، فنظرت فإذا
بالقطار يبدأ بالتحرك، كانت تحاول أن ترفع يد قناوي اليمنى الملتفة
حول رقبتها لتتمكن من الفرار، بينما السكين مرشوقة في الأرض
(3) ، وتدافعت عربات القطار لتدفع بعضها بعضا بإحداث صوت
تصادم الحديد، وسُمع لعجلاتها طقطقة بعد أن بدأ بالتقدم الذي زاد
مع تقدم بضعة أمتار.
وتقدم القطار أكثر؛ بينما لا زالت هنومة تقاومه، هنا رفع قناوي
يده من على رقبتها وضغط بها على ظهرها، كما رفع سن السكين
من الأرض شاهرا إياها على ظهرها بينما لا زالت هنومة تحاول
الإفلات (4) ، والملاحظ يصرخ بأعلى صوته وهو في قمة الذعر
وممسك بكشاف صغير للإضاءة حيث كان الوقت مساء إلى سائق
القطار بأن بتوقف حتى لا يفرمهم (5).
لما أدركت هنومة باستحالة الفرار استسلمت للموت، فثبتت لا
حراك فيها في انتظار الموت دهسا تحت عجلات القطار، أما قناوي
فلم يكترث لتقدم القطار نحوه وظل ثابتا لا يتحرك (6) .
حدث نفسه عندئذ: كده كده أنا ميت بعد أن عرفوا الحقيقة بأني أنا
الذي قتلت حلاوتهم، فلتمت معايا هنومة كمان.
واستقر القطار وأضيئت كشافات رجال الأمن وسُلطت على موقع
هنومة وقناوي، بينما وضع قناوي يده في مقدمة عينيه تحاشيا
للضوء المنبعث من الكشافات العملاقة، ونظر حوله، فوجد
الشيالين في المحطة ينظرون إليهما، وكذلك صاحبات هنومة
البائعات المتجولات في المحطة، ورجال الأمن، وأبو سريع الذي
يركض من خلفهم، وعم مدبولي الذي يملك كشك سجائر في
المحطة والذي آواه وعامله كأحد أبنائه.
وحضر ممرضو مستشفى المجانين بناء على قول عم مدبولي
لرجال الأمن بأن قناوي قد ذهب عقله.
في تلك اللحظة أدرك قناوي أنه لا مفر من الهروب، فقرر أن يتخذ
هنومة رهينة من أجل الفرار، ولذلك قال بكل حسم وإصرار: «لو
حد قرب لنا هقتلها، ما تسيبونا لوحدنا بقى.»
رغم أنه أدرك الحقيقة إلا أن أحلامه وأوهامه عاودته مجددا وظهر
ذلك جليا في قوله: «ما تسيبونا لوحدنا بقى.»
هنا أدرك عم مدبولي أن الموقف تأزم وازداد خطورة فقرر أن
يجنبه ارتكاب جريمة قتل بالحيلة والدهاء.
وتقدم عم مدبولي تقدما حذرا وهو في قمة الحزن وقال له متوددا:
«قناوي يا ابني، رد عليّ ده أنا أبوك مدبولي.»
كان يحمل عم مدبولي آنذاك القميص الذي يرتديه مرضى مستشفى
الأمراض العقلية في يده اليسرى (7) . وبهذه الجملة أراد عم
مدبولي تهدئة نفسه الثائرة، بهذه الجملة أراد من خلالها أن ينتبه
له قناوي ويعطيه أذنيه بكل أمن وطمأنينة، فعم مدبولي يعرف نقطة
ضعفه معرفة جازمة.
ثم قذفه بجملة وهو يسير نحوه، وعلى وجهه علامات الفرح
المصطنعة، جملة يفكر فيها اللبيب قبل أن يقدم على أمر مهما كان
إصراره عليه: «أنت زعلان ليه؟ ده أنا هجوزك هنومة.»
هنا بالفعل تعايش قناوي مع كلمات عم مدبولي التي اخترقت قلبه
على الفور، إذ إنها تتواءم مع أوهامه المرتكزة في أعماق نفسه
والذي يعتقد بواقعيتها في الوقت الحالي.