.
إن فكرة المخلّص، أو المنقذ أو الوسيط تكاد تكون القاسم المشترك بين جميع الشعوب والأمم والحضارات وجميع الأديان والعقائد تقريباً، وهذه فكرة ضاربة في عمق التاريخ البشري منذ نشوء الخليقة، فكل شعب وكل أمة تنتظر المخلّص/المنقذ الذي يخلصها من الشرور والظلم ويحقق لها الحياة الحرة الكريمة حيث يسود العدل والأمان والاطمئنان. وكانت هذه الفكرة على الدوام جزء من البنى الدينية و تجسيد تراجيديا العذاب والأمل.
نظرية المخلص في الديانات والحضارات القديمة:
في الديانة الهندوسية
أن عقيدة الخلاص في الديانة الهندوسية هي مزيج من عقيدة مركبة تتلخص في مسالتين هما:
الاولى: الإنطلاق والاندماج في الروح الأعظم (براهما)
الثانية: التجسد والعودة.
الثالثة: وحدة الوجود.
ففكرة الانطلاق والاندماج في الروح الاعظم تتكون من ثلاثة طرق
–1 الكارما: karma أي (قانون الجزاء)، الذي بموجبهلابد ان يجازى الفاعل على أفعاله خيراً أكان أم شرّاً، ولكن هذا الجزاء قد لا يقع في هذا العالم فلا بد إلى المصير بالقول بتناسخ الأرواح حتى يقع الجزاء في نشأة أخرى غير هذه النشأة.
2– تناسخ الأرواح: معناها أن أفعال الإنسان هي التي ستحدد مصيره في الجسد الجديد الذي ستحل به روحه فقد يترقى في أفعاله حتى يصل به الحال الى الاندماج مع الالهة أو يتسافل فيصبح حيواناً، وهكذا دواليك من دورات التحول الكثيرة، ثم إن هذا التحول لا بد له من نهاية وخاتمة بسبب محاولة النفس الافلات من دورات تجوالها ونتائج اعمالها بالاتحاد والاندماج بالإله (ابراهما) تتحقق السعادة التامة وهو أرقى اشكال الخلاص، فبعد أن تجتاز الروح مرحلة (الكارما) ومرحلة (التناسخ)، ثم تتحد مع الروح الاعظم (براهما)، حينها تصل الى مرحلة (النرفانا)، أي إتحاد المخلوق بالخالق، أو الذوبان في الصمت.
3- وحدة الوجود: هذه الفكرة لها إرتباط شديد بما سبقتها، يعتقد الهندوس أن هذا الكون يعتبر ظهور للوجود الحقيقي الأساسي وكل هذه الموجودات في الكون بما فيها الأرواح هي أجزاء ومظاهر لذلك الوجود المطلق الذي هو الإله الخالق.
من أسس هذه العقيدة فكرة تجسد المنقذ وعودته لإنقاذ البشرية من الظلم والبؤس، وهو تجسد الاله في جسد انسان، إذ يتجلى فيه لهداية البشر، وتسمى باللغة السنسكريتية واللغات الهندية (اوتارا). تتحدث النصوص في الكتب المقدسة الهندوسية عن الإله (فشنو) وطبيعة تجسداته الدورية(1).
عند المصريين القدماء:
فكرة المخلّص موجودة في الديانات المصرية القديمة ، فكهنة مصر القديمة قد لعبوا دور المنقذ الذي يتمثل بفيضان النيل، كما تجلى ذلك مبكرًا عند المصريين الذين اعتبروا الإسكندر الكبير “أمون” محررًا ومخلصًا منقذًا لهم.
فكرة المخلّص عند الزرادشتية:
إن أول رجل تاريخي نادى بفكرة المنقذ هو “زرادشت“.و في الريفايات(المراسلات بين البارسيين الزرادشتيين في الهند والزرادشتيين في إيران حول مسائل الدين)، يذكر بأن المنقذ الأول (اوشيدار) سيظهر بعد 1600 سنة من ميلاد زرادشت. وإذا ثبت بأن زرادشت ولد في هذا التاريخ كما يدعي الكثير من الباحثين إنطلاقاً من كلمات (الغات Gat) الموغلة في القدم- فسيكون اوشيدار هو السيد المسيح الذي بدأ ينشر الدعوة وهو في الثلاثين من عمره. أما اوشيدارماه (المنقذ الثاني) فسيظهر بعد الف سنة من ظهور الأول، أي سنة 999 بعد الميلاد. وذكر هذا الرقم معكوساً في التوراة 666 وسمي بـ “العدد المتوحش”. انتظر الجميع قدوم المنقذ ولكنه لم يظهر لا سنة 666 ولا في سنة 999 . وكذلك لم يظهر المنقذ الثالث في سنة 1999. إدعى اليهود والمسيحيون بأن منقذاً (نبياً) كذاباً سيظهر في سنة 666 وبعد تحرير ذلك الرقم وتأويله قالوا بأن النبؤة قد تحققت بظهور محمد في الجزيرة العربية(2).
المخلص/المنقذ في الديانات (اليهودية والمسيحية والإسلام):
تكاد تكون فكرة المنقذ أو المصلح العالمي واضحة المعالم وبشكل بارز في هذه الديانات الثلاث. ففي الديانة اليهودية برز المنقذ كقوة محاربة لقتل أعداء بني إسرائيل. فاليهودية تؤمن بوجود منقذ ومخلّص يظهر في (جبل صهيون) كما يشير اليه سفر اشعيا بهذا المعنى:(ستخرج بقية من القدس من (جبل صهيون)، ورد التأكيد في سفر (زكريا) حيث يقول (هو ذا ملكك سيأتي إليك. عادل منصور بعودة عزير عليه السلام.
أما المسيحيون فإن إيمانهم بعودة السيد المسيح ، وانه هو المنقذ الذي لا يحتاج إلى دليل، ونجد ذلك بشكل واضح في كتاب العهد الجديد وتتحدث به كتبهمومثقفيهم وعلمائهم. وعند المسيحيين تتجلى صورة المسيح بصفته المنقذ للبشرية والمخلص من آثامها وخطاياها المضحي بنفسه لأجلها.
يتناول كاتب أنثروبولوجيا أمريكي علاقة الديانة اليهودية بالمسيحية، ويناقش فكرة المسيح أو المخلص في العقيدة اليهودية التي يرى أنها تمثل رد فعل على الاستعمار الروماني الذي عايشته فلسطين منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الأول الميلادي. فعقيدة المسيح المخلص من وجه نظره هي مذهب سياسي يرتدي مسوح الدين ويهدف إلى مكافحة الاستعمار وتبعاته الاجتماعية والاقتصادية والتي تتمثل في اتساع التفاوت الطبقي بين الرومان وحلفائهم من جهة وباقي الشعب اليهودي من جهة اخري. فالمسيح المخلص سيأتي ليسطر نهاية لذلك الفصل المظلم من التاريخ ويؤسس عهدا جديدا قائم على العدل. ويشير إلى أن المسيحية قد ظهرت في زمن كانت البلاد تشهد فيه الكثير من الحركات اليهودية المسلحة ضد الرومان وهي الحركات التي يقول أن المسيحية كانت بمثابة امتدادا لها(3).
فكرة المنقذ/المهدوية في الديانة الاسلامية:
*يعتقد بعض الكتّاب أن فكرة “المخلص” أو “المنقذ” أو “الوسيط” غير موجودة أصلاً في الإسلام التقليدي(4)، حيث أن الفكر السني لا يقبل أي نوع من الوساطة في الخلاص. ويقولون لا يملك الاسلام عقيدة واضحة لمفهوم الفداء إلاّ إذا أخذ مفهوم الألم الهادف بجهاد الانسان في سبيل الله، وجذورها هذا واضح في التقوى بشكل عام وفي التصوف بشكل خاص.
أما الرأي الآخر فهو القائل ان فكرة المنقذ في الاسلام وفكرة مآساة الألم ظهرت مع إستشهاد الحسين في كربلاء، وفكرة المظلومية التي بني على أساسها الفكر الشيعي كانت الدافع الأساس والمحرك الأول لفكرة الألم الخلاصي وذلك عن طريق تضحية الحسين واستشهاده وإستمرار المظلومية على أبنائه وأتباعه عبر الأزمان.
– الألم – الخلاص – من أجل إتمام المخطط الإلهي الذي كان قد أقرّ ذلك الألم وتلك الشهادة وذلك الانقاذ منذ البدء، لأن البشرية لا تستطيع لوحدها أن تتغلب على الألم البشري وبذلك أصبح الاستشهاد طريق الألم والخلاص بحيث أصبح الحسين نفسه “سفينة النجاة” كأحد الشعارات التي نجدها في العالم الشيعي خلال طقوس عاشوراء(5).
إن المنتظر والمنقذ الإسلامي العالمي سيظهر في آخر الزمان لكي يقيم الحق والقسط ويوحد العالم.على الأسس التالية:
1 ـ القضاء على أعداء الإسلام وانتصار الحق والعدل والحرية على الظلم والدجل والاستعباد وحكام الجور.
2 ـ انتهاء الحروب والنزاعات وإستتباب الأمن، وعمران الأرض في مكان.
3 ـ بلوغ البشرية حد النضج والتكامل ووحدة العقيدةوالفكر.
4 ـ قيام حكومة عالمية موحدة.
فكرة المخلّص في الديانة الايزيدية:
تكاد تكون فكرة المخلّص/المنقذ تتشابه، أو تقترب من التطابق، مع عقيدة الخلاص في الديانة الهندوسية، وتقارب في بعض جوانبها الأفكار المهدوية (ما تؤمن به الطائفة الشيعية). وتستند الايزيدية على مجموعة من النصوص الدينية(6)، والموروث الشفاهي القائل بظهور (مهدي عيسى) و (الملك مهدي شرف الدين) سويةً، من جهة الغرب/الشام ويحارب جيش (الدجال) الذي سينطلق منأرض الشام، يقوم السيد المسيح (عيسى) بحكم مصر، أما الملك شرف الدين سيتوجه نحو الشرق الى كردستان (مقره العمادية)، سيدوم حكمهما (السيد المسيح و شرفالدين) أربعون عاماً، سيعم خلال تلك السنين العمران، ويزول الظلم والجور والعبودية وينتصر الحق وتسود العدالة والأمن والاستقرار بحيث ترعى النعجة مع الذئب!، أي يعيشون معاً بسلام. ويدعو شرف الدين من (ايزي-خودى=الله) أن يكون مهدياً ومخلّصاً ومدافعاً عن الايزيدية في يوم القيامة، اليوم الذي لا مكان فيه للدجالين والمنافقين والكذابين والظالمين والذين تعاملوا بالربا، أي أصحاب الصفات السيئة، أنه يوم الأخيار والصالحين والمؤمنين. أنه يوم الحساب وتحقيق العدل ورفع الظلم والجور. ومسرح الأحداث تبدأ من الشام.
ان علامات ظهور يوم القيامة حسب الموروث الديني الايزيدي تعرف من العلامات التالية:
أما في الجانب العقائدي والفلسفي تتعلق بمفهوم خلود الروح، فالديانة الايزيدية كما أشرنا اليها في أعلاه، تتشابه بل تقترب من التطابق مع فلسفة الديانات الهندية (خاصة الهندوسية) في الايمان بـ:
وتشترك في عملية المخلّص/المنقذ عناصر كثيرة سواء على المستوى الفلسفي والنظري أو المستوى الفردي والجماعي. فالديانة الايزيدية، كبقية الديانات، لها فلسلفتها ونظرتها الى الموت وعالم ما بعد الموت، وهي متأثرة إلى حد بعيد بعقيدة تناسخ الأرواح والتقمص، فإذا احتضر الايزيدي جاء اليه شيخه وكذلك “بيره” وكذلك “أخوه” و “اخته” الأبديان، حيث أن لكل أيزيدي/أيزيدية يبلغ سن الرشد أن يتآخى مع أحد مشايخه ويسمى “الأخ الأبدي” أو “أخ الآخرة”(7) أو “الأخ بالدين”. فهذا “الأخ الأخروي” هو السند والمحامي الذي “يترافع” عنه وقت الحساب الأخروي. لذا يكون دور “الشيخ” أو الـ”بير” أو “أخ وأخت الآخرة” أو “المربي” مساعدة مريديه لنيل درجة الشفاعة في يوم الآخرة. فعند وفاة الشخص من كلا الجنسين، يأتي الملاك (عزرائيل) ليفصل الروح من الجسد، ليأخذها الى لالش وعند المدخل تعبر الروح على جسر رفيع كالشفرة يسمى (برا سه لاتى= جسر الصراط) فإذا كانت أعمالها جيدة سوف تجتاز الجسر، وإن كانت أعمالهاسيئة تقع في الهاوية لتتعذب. بعد ذلك تمتثل أمام محكمة تقام في (ميدان المعرفة) عند مدخل معبد لالش،الحاكم فيها هو (يزدان-خودى=الله) أو أحد الملائكة، المدافعون عن الروح في هذا اليوم هم: أعمال الانسان الصالحة في الحياة الدينا، وهل كان ذلك الشخص يقوم بإداء اصول عقيدته بشكل صحيح؟. حسب المعتقد الايزيدي، يحضر طاؤوس ملك، الشيخ آدي(عدي)، الشيخ شمس الدين حسن بن عدي الثاني، “الشفيع و المهدي المنتظر يوم القيامة للتضحية بحياته وقتله من قبل بدرالدين لؤلؤ كما هو الحال بالنسبة للسيد المسيح والحسين بن علي الذي ضحوا بحياتهم عن طريق الشهادة. كما يحضر الشيخ والبير وأخ الآخرة/أخت الآخرة، المربي للشخص، فيما إذا كان قد أدى الواجب الديني تجاههم. فـ “المريد الايزيدي” هو الانسان الذي سلم أمره لإرادة شيخه و “بيره” لأنه حسب نظام الطرقية/الايزيدي لكل مريد شيخ و بير وأخ وأخت للآخرة من طبقة الشيوخ- الشفعاء يوم الحساب(8).
لماذا يبحث الإنسان عن المخلّص؟
أن الروح الشرقية تصبو دائمًا إلى ما له علاقة بالتنبؤ، وكشف حجب الغيب وأمور المستقبل، حيث إن عقيدة المخلّص المنتظر مناسبة للطبيعة الشرقية، وناجمة عن أنماط الحكم السائدة فيه، كما أنها مرتبطة بفلسفة الحياة والموت، الفناء والخلود، حيث يلاحظ أن الديانات الكتابيةوالوضعية جميعًا تقول بنهاية حتمية لهذا العالم، وستكون هذه النهاية مرتبطة بنزول المخلّص أو عودة كائن إلهي للارض التي تمتلئ جوراً وفساداً، يكون دوره هو إنقاذ الأخيار من البشر بعد أن يحل الدمار، ويصيب الفناء العالم كما جاء في ملحمة جلجامش. فالشعوب المظلومة تنتظر من يحقق لها العدل ويأتي بقوانين عادلة، ويخلصها من القوانين الظالمة التي شرعها بعض الحكام والجبابرة من أجل السيطرة عليهم وتقييد حرياتهم وقتل الروح الإنسانية فيهم لا لشيء سوى الأنانية والطمع.
بغداد/آذار 2018
(جزء من بحث تم تقديمه إلى مؤتمر: كرسي اليونسكوللحوار/جامعة الكوفة تحت عنوان “المنقذ في الاديان والثقافات”، كان من المقرر عقده للفترة 6-7/كانون الأول/2018، لكنه تأجل).
المصادر والهوامش: