في 18 مارس 2018، تمكنت القوات التركية والفصائل السورية المسلحة المتحالفة معها من السيطرة على مدينة عفرين (شمال غرب سوريا) ذات الغالبية الكردية، وهو ما بررته تركيا بـ”الحفاظ على أمنها القومي من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)”.
في المقابل، يعتبر الأكراد عملية “غصن الزيتون” التي انتهت بسيطرة تركيا وحلفائها على مدينة عفرين “احتلالا”، في حين أبدت دول غربية تحفظها على العملية حينها.
وبعد مرور 6 سنوات على سقوط عفرين، توثق التقارير الحقوقية المحلية والدولية عمليات تنكيل ممنهجة ضد الأكراد، وتكشف مخطّطات لإحداث تغيير ديموغرافي، وطمس للثقافة والهوية الكردية التي تميز المدينة.
قبل “غصن الزيتون”
تقع عفرين في منطقة جبلية متاخمة للحدود السورية- التركية، وتبلغ مساحتها نحو 3850 كيلومترا مربعا، أي ما يعادل 2 بالمئة من مساحة سوريا، وتضم قرابة 350 قرية وبلدة، أهمها عفرين المدينة.
وحسب إحصائيات الحكومة السورية للعام 2012، بلغ عدد سكانها قرابة 523 ألف نسمة، شكل الأكراد غالبيتهم الساحقة وفقاً لإحصاءات محلية غير رسمية.
تقول تلك الإحصاءات إن عدد الأكراد تجاوز 427 ألف نسمة في العام 2012، بنسبة بلغت نحو 95 بالمئة من إجمالي سكان المدينة، الأمر الذي تؤكده العديد من المصادر الكردية، من بينها “المركز الكردي للدراسات” في تقريره الصادر بعنوان “الاحتلال التركي لعفرين..كيف حدثت الجريمة؟
“حافظ الأكراد في عفرين على مر التاريخ على هويتهم وثقافتهم”، يقول الناطق باسم منظمات حقوق الإنسان في عفرين، إبراهيم شيخو. ويستطرد “الغالبية الكردية شكلت وعاءً للحفاظ على التراث واللغة والأعراف الكردية التي سادت في المنطقة”.
ويتابع في حديثه لـ “ارفع صوتك” محاولاً استعادة صورة للمدينة قبل السيطرة التركية: “كانت الحياة هادئة، والأكثرية الكردية منسجمة مع الأقلية العربية في المدينة (..) الأهالي منشغلون في أعمالهم التي يغلب عليها الطابع الفلاحي، والأكراد يعبرون عن ثقافتهم ويتداولون لغتهم دون خوف”.
التمسك بالهوية الكردية في عفرين يدلّل عليه الأكاديمي الكردي، فريدون سعدون في حديثه لـ “ارفع صوتك” بعجز حزب البعث الذي يحكم سوريا منذ العام 1963 عن طمس الهوية رغم جميع محاولاته. يقول: “حاول حزب البعث ذلك من خلال منع الأغاني الكردية، والتضييق على المناسبات وتغيير أسماء القرى والبلدات، لكنه فشل، بدليل استعادة المسميات الكردية في السنوات التي تلت 2011، واستمرار الغناء والاحتفالات”.
يقول جازماً: “قد يعملون على إذابة الهوية الكردية لـ1000 سنة، وفي النهاية سوف يفشلون”.
تحت سيطرة تركيا
تناقص عدد الأكراد في عفرين نتيجة عمليات التهجير التي تعرضوا لها على يد القوات التركية والفصائل المسلحة، حيث لا يتجاوز عددهم حالياً 120 ألفا، يقول شيخو نقلاً عن تقارير حقوقية محلية.
ولا تتجاوز نسبة الأكراد في عفرين بعد 6 سنوات من دخول تركيا الفصائل المتحالفة معها 30 بالمئة، مقابل 70 بالمئة من العرب، يبيّن شيخو.
ويستدل على وجود مخطّط تغيير ديمغرافي ببناء تجمعات سكانية “ضخمة” لإسكان النازحين ومقاتلي “الجيش الوطني السوري” المعارض وعائلاتهم. يقول: “هذه التجمعات السكنية التي تم بناؤها بموافقة وتمويل تركي يريدون منها منع الأكراد من العودة إلى مدنهم وقراهم، فيما يعيش آلاف الأكراد نازحين في مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة”.
ونزح نحو 300 ألف كردي من عفرين، يعيش قرابة 100 ألف منهم في “مخيمات الشهباء” في ريف حلب، التي تبعد أقل من 20 كيلومترا عن مدنهم وقراهم الأصلية، يقول الناطق باسم منظمات حقوق الإنسان في عفرين، إبراهيم شيخو، الذي يصف المخيمات بـ”البائسة”، فيما توزع البقية في مناطق الجزيرة السورية وتركيا.
وحسب منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، في تقرير يتناول التجمعات السكانية التي قارب عددها 38 مجمعاً سكنياً، فإن الهدف من هذه التجمعات هو إحداث تغيير ديموغرافي يستهدف بشكل مباشر الهوية الكردية للمدينة.
علاوة على ذلك، جرى استبدال أسماء العديد من القرى والبلدات والساحات العامة في عفرين بأسماء تركية. من ذلك اعتماد اسم “ساحة أتاتورك” بديلاً لـ”ساحة آزادي”، و”دوار رجب طيب أردوغان” عوضاً عن “الدوار الوطني”، إضافة إلى تجاهل اللغة الكردية في المعاملات الرسمية والتعليم مقابل اعتماد اللغتين العربية والتركية.
وأكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز أنه في ظل تقلص الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم “فإننا في وضع يمكننا من وقف تقديم العتاد العسكري لجماعات معينة لكن ذلك لا يعني وقف كل الدعم لتلك الجماعات”.
كل تلك الإجراءات يضعها الأكاديمي الكردي، فريدون سعدون، في سياق الأسباب الحقيقية “للاحتلال التركي لعفرين”، كما يصفه. يقول: “لا أحد يشكل خطراً على تركيا من داخل سوريا، والحديث عن الأمن القومي التركي ليس أكثر من مبرّر لتنفيذ الأطماع والمخططات التركية في سوريا، ومن ضمنها محاولات القضاء على الوجود الكردي”. لكنه يستدرك “الأتراك لم يتمكنوا من القضاء على الأكراد في تركيا، هناك أكثر من 20 مليون كردي في تركيا، يتحدثون لغتهم ويعبرون عن هويتهم”.
غير أن أكثر ما يتخوف منه سعدون هو “التجييش” الذي أحدثته تركيا في ذهن الفصائل الموالية لها ضد الأكراد في سوريا على اعتبارهم أعداء يجب القضاء عليهم.
فضائع وانتهاكات
توثّق التقارير الحقوقية لأنماط متعددة من الانتهاكات التي يتعرض لها الأكراد في عفرين. ويتحدث تقرير لـ”هيومن رايتس ووتش”، بعنوان “كل شي بقول السلاح”، عن “الانتهاكات والإفلات من العقاب في مناطق شمال سوريا التي تحتلها تركيا” وعن عمليات اختطاف واعتقال تعسفي واحتجاز غير قانوني وعنف جنسي وتعذيب تستهدف الأكراد على يد فصائل “الجيش الوطني السوري”.
وتشير المنظمة إلى “تورط القوات المسلحة ووكالات المخابرات التركية في تنفيذ الانتهاكات والإشراف عليها”، والتي تتضمن انتهاكات الحق في كل من السكن والأراضي والملكية، بما فيها عمليات النهب والسلب الواسعة، فضلا عن الاستيلاء على الممتلكات والابتزاز.
وهي الاتهامات التي رفضها “الجيش الوطني السوري” في بيان مفصل، مؤكداً وجود “مدوّنة قواعد سلوك” تحدد وتضبط سلوك الجيش الوطني وقوى الأمن في تأدية واجباتهم، علاوة على التحقيق في الانتهاكات والتجاوزات الفردية.
ووصف الجيش بيانات المنظمات الحقوقية حول الانتهاكات بالمنحازة، داعياً إلى سحبها لما تضمنته اتهامات واحكام مسبقة، دون وجود أدلة حقيقية وكافية.
وتعتبر فصائل “الجيش الوطني السوري”، المتحالفة مع تركيا، أن سيطرتها على عفرين بددت “أحلام تنظيمات PKK/YPG الإرهابية في بناء دولة انفصالية في الشمال السوري”.
أما تحالف المنظمات الحقوقية في عفرين، فيوثّق اختطاف 9186 مدنيا بينهم 1000 امرأة وقرابة 100 طفل، خلال ست سنوات من السيطرة التركية.
وتقول المنظمات إن مصير ربع هؤلاء ما يزال مجهولاً، وفقاً للإحصاءات التي شاركتها مع “ارفع صوتك”.
وفيما يتصل باستهداف النساء فقد وثّقت مقتل 104، منها 11 حالة انتحار، و74 حالة اغتصاب.
وترصد المنظمات زيادة كبيرة في حالات الانتحار بين الأكراد في عفرين، حيث وثّقت 136 حالة انتحار ومحاولة انتحار منذ منتصف عام 2023، وحتى مارس 2024، ترجعها إلى الضغوط النفسية التي يعيشها الأكراد والخوف من حالة الفلتان الأمني والاعتقال.
ومع مرور 6 سنوات على سقوط عفرين، جدّدت الإدارة الذاتية في شمال سوريا تأكيدها أن “تحرير عفرين خيار استراتيجي”.
وفيما تنشط “قوات تحرير عفرين” في تنفيذ عمليات عسكرية ضد القوات التركية والفصائل السورية المسلحة، يتوافق شيخو وسعدون على أن عملية تحرير المدينة وإنهاء الوجود التركي وعودتها إلى سابق عهدها لن يكون إلا عبر حلّ شامل للقضية السورية.
ارفع صوتك