قصة قصيرة
كانت الشمس تبعث بخيوط الدفء لتنسج المرح بين الشجيرات المتشابكة على سفح جبل متين قرب قرية بازي. توزع المقاتلون الانصار على شكل مجاميع صغيرة. حركة الرفاق موزعة بين الحراسة فوق تلة بارزة وجمع الحطب لإعداد الإفطار. دخان مواقدهم يختلط برائحة الشاي والخبز المشوي الذي أُعدَّ على الصاج في باحات القرى. أكياس النايلون التي يحرصون عليها من التمزق، تمتليء كل مساء بما تجود به ايدي العوائل الفلاحية تعاطفا ًمع المقاتلين الاشدّاء. اتسعت إحدى الحلقات بالمتشوقين للمزاح وسماع أخبار قرية چمسيدة التي قضوا ليلتهم الأخيرة فيها. تردد في الوادي صوت نقـّار الخشب وكأنه صلية رشاش كلاشنكوف، ليمزق سكون الفضاء. مدّ أبو وحيدة يديه فوق لهب الموقد ليبدد لسعات برد الصباح، الذي مازال يقاوم زحف الشمس نحو الوادي الفسيح لبرواري بالا. رطوبة الارض والأحجار القاسية التي اتخذوها كراسي لهم، تجبرهم على تغيير أوضاع جلساتهم او الوقوف بين الحين والاخر. رمت أم هيفاء بعض من قطع الأخشاب لتزيد من سعير النار.
اقترب سلام ( م ) من المجموعة منتشيا ً كالطاووس والبسمة تعلو وجهه، ليبادرهم بتحية الصباح فيردون عليه مع بعض العبارات لخلق أرضية للمناوشات الكلامية.
ـ شنو اليوم طالع تلمع…!؟
سأله مهند وهو يدير وجهه بعيدا ًعن الدخان الابيض المتصاعد من الأغصان الرطبة وهي تطقطق من شدة اللهب.
ـ اليوم السالفة مو خالية…!
اضاف ابو كريم ( الفـَلايـَة ).
اجاب سلام وهو حذر من ردّة الفعل:
ـ والله… صديقتي انطتني صابونه.
ـ ……………………………
ـ هــــا…هــا…هــا…هــــا…
ضجّ الرفاق من حوله بالضحك وتعالت التعليقات ولم تهدأ إلا بارتشاف الشاي الدافيء من الاقداح الزجاجية التي تلوّنت بصفائه.
ـ اللي يسمعك يگول صدگ عندك صديقة…!
اضاف ابو رجاء وهو يهيء نفسه لتبديل الحرس.
اخذت الاحاديث وذكريات المدن تتسلل مابين الشفاه.
ـ كنـّا خمسة رفاق، استقر بنا الحال مؤقتا ً في فندق بغداد، الواقع في أحد أزقـة محلة الحيدرخانة، انهكنا البحث كل مساء عن مكان للمبيت، كنـّا نمرّ على الفنادق جميعا ًمن ساحة السعدون حتى باب المعظم، فلا نجد مكاناً، في إحدى المرات، واصلنا البحث حتى جانب الكرخ، لتستقر اجسادنا المنهكة على اسرة متهالكة في فندق قديم قرب علاوي الحلة، بعد ان تجاوز الليل منتصفه، وهذا ماخدمنا لأن تقديم قائمة النزلاء من قبل اصحاب الفنادق لرجال الامن يتم قبل الثانية عشر ليلاً.
توقف ابو انتصار عن الحديث قليلا ً لياخذ نفسا ًعميقا ًمن سيكارته، اقترب مهند أكثر ليصغي للمتحدث باهتمام.
ـ حصل أربعة رفاق واحد بعد الاخر، على عمل في معمل للنجارة في كرادة مريم، وبقيت وحيدا ً انتظر دوري، كان يتملكني الشعور بالوحدة والضجر طول النهار، رغم اني كنت اقضي وقتي متعمدا ًمن الصباح حتى المساء، في أسواق شارع النهر وشارع الرشيد المزدحمة، هاجس الاعتقال يلاحقني في كل زاوية ومن كل نظرة مريبة.
ـ متى كان ذلك ؟ استفسر مهند.
ـ في بداية ربيع عام 1979، حيث كان يلف بغداد الرعب والحزن والمستقبل الغامض، فلم نتذوّق طعم الربيع، ولم نلحظ ثوبه يتجدد في ساحات وحدائق العاصمة.
ـ أيام صعبة مرّت علينا، حيث كان الشيوعيون أبناء المحافظات الهاربون من بطش النظام، يفترشون الحدائق العامة في الليل، ويتوسدون مصطبات محطة القطارات، وينامون في المعامل الأهلية خلسة من أصحابها. أضاف أبو عراق والمشاهد تلك حية في ذاكرته.
ثم أكمل أبو انتصار حديثه:
ـ في احدى الصباحات تاخرت قليلا ً، وقررت ان اخذ نظرة من شرفة الفندق، على بيوت الشناشيل القديمة والزقاق المؤدي اليها. كانت أعمال تجديد الفندق من الخارج جارية لأيام. حركة الناس في الزقاق لاتنقطع. عند الظهيرة تزداد الحركة باتجاه مطاعم شعبية ذات أكلات رخيصة. السيارات في شارع الرشيد لاتكف عن الضجيج. جامع الحيدرخانة يضفي على المنطقة هيبة بفن عمارته. أسند أحد العمال سلماً خشبياً طويلاً إلى جدار الفندق، وبدأ بالتسلق ببطء ماسكا ً بيده علبة صبغ كبيرة، تدلت على حافتها فرشاة عريضة خاصة لطلاء الجدران. الشمس تواجه الفندق فتميز بوضوح بين اللون الجديد واللون القديم الذي فقد خاصيته.
بعد توقف قصير بسبب رد التحية واصل ابو انتصار حديثه:
ـ دلف في الزقاق من شارع الرشيد، شاب وسيم الطلعة بطقم ثياب جديد وكأنه متوجه لحفلة زفافه، قسمات وجهه تعبر عن ابتسامة دائمة، ربما كان غارقا ً باحلام لقاء الحبيبة في مكان ما، اقتربت خطواته من السلم، وفجأة هوت علبة الصبغ لتصطدم بالارض محدثة ً جلبة ً، امتزجت مع صرخة المفاجأة من ذلك الشاب، انبعثت من العلبة نافورة طوقت الشاب وبدلته الانيقة، لتوزع امتداداتها على الجدران وأرض الزقاق، وكل ما استطاعت الوصول إليه. كتمت ضحكتي، لتمتزج بشعور الاسى على ذلك المسكين.
وهنا صرخ مهند مقهقها ً والدهشة ارتسمت على قزحيّـتي عينيه:
ـ ملعون .. كيف تتجرأ وتضحك عليـّه…!؟
ـ ماذا تقصد…!؟
ـ ان ذلك الشاب هو أنا.
ـ هل تمزح…!؟
ـ لا…لا… أنا جاد. كنت في ذلك الصباح ألبس تلك البدلة لأول مرة، وهي هدية من أخي…!
ـ ياللمفارقة…! بعد كل هذه السنين نلتقي هنا حول الموقد لنتعارف وبهذه الطريقة الغريبة…!
كان الحدث مثار اعجاب الجميع. رفع سلام يده ملوحا ً بكأس الشاي:
ـ بصحة البدلة…!
فرفع الرفاق كؤوسهم لينعشوا صدورهم، ولتستمر حكايا الموقد الدافئة.
13 05 2007