تحمل ألمانيا على ظهرها أثقالًا جسيمة من القرن الماضي: حربين عالميتين، وإبادتين بشريتين. فضلًا عن إرث استعماري سيئ السمعة في جنوب القارة الأفريقية، ونسخة قاسية من الدكتاتورية على الضفة الشرقية من البلاد.
يمتد التاريخ الألماني الإشكالي إلى ما وراء القرن العشرين. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على إيقاع الصراع البريطاني – الفرنسي، على المستعمرات وتحت ضغط الماكينة الصناعية الألمانية وحاجتها إلى المزيد من الموادّ الخام، دعا المستشار الألماني بيسمارك، 1884م، إلى مؤتمر برلين حول أفريقيا.
اجتمع عدد من القادة الأوروبيين لأيام عديدة وأنجزوا تقسيمًا جغرافيًا لأراضي أفريقيا، كما اتفقوا على صورة ما من “العولمة” بين مستعمراتهم، تتضمن التدفق الحر للمواد الخام والأفراد البيض. ما من إشارة واحدة إلى شعوب أفريقيا في أوراق المؤتمر.
بدت تلك الأراضي كما لو أنها بلا شعوب. صار بمقدور بيسمارك بعد نجاحه في توحيد الشعوب الناطقة بالألمانية تحت سقف واحد أن يتلفت حوله، وأن ينظر إلى العالم كما يفعل جيرانه الأوروبيون.
بعد زهاء ثلاثة عقود من الممارسة الاستعمارية الألمانية في أفريقيا، نفذت تشكيلاتها العسكرية، بقيادة الجنرال فون تروتا، أول عملية إبادة بشرية في المنطقة التي تعرف الآن بناميبيا. كانت المذبحة، التي راح ضحيتها ما بين 60-70 ألفًا من قبائل الهيريرو، والناما بين عامي 1904-1908، هي المران الأخير قبل الخوض في مذابح من النوع نفسه بعد ذلك.
في عموم البلاد بُنيت أنصابٌ تذكّر الألمان بتاريخهم السيئ، وتراجعت المرموزات والأيقونات الوطنية عن الواجهة، كما لو أن الألماني لم يعد من حقّه أن يعبّر عن ذاته، عملت السينما، الآداب، التعليم، وكل أنواع ووسائط الفنون على تذكير الألمان بصنيعهم سيئ الصيت
تطوّر السباق الاستعماري بين القوى الأوروبية إلى حرب عالمية أولى خسرتها ألمانيا.
فرنسا، المنتصرة في الحرب، نشرت تشكيلاتها العسكرية في الغرب الألماني، وكان الجنود الأفارقة والمغاربة يمثلون العمود الفقري في تلك التشكيلات. أحسّ الألماني، الفرد والنخبة على السواء، بإهانة بالغة طالت عرقهم الراقي، أو بلاد الفلاسفة والشعراء.
برز إلى العلن مصطلح “العار الأسود”، وكان مزيجًا من النداء السياسي والعرقي على السواء. جيء بالرجل الأسود، الأدنى، ليهين كبرياء ألمانيا ويغتصب نساءها.
وجدت النازية، في عشرينيات القرن الماضي، في المسألة السوداء وسيلة تعبوية نادرة ضد كل الجهات من حكومة فايمار إلى الاستعمار الفرنسي. ضمن الوسائل المادية للبروباغندا، قام النازيون بتوزيع منحوتات على شكل أعضاء جنسية أفريقية، مغطاةٍ بقبعات عسكرية فرنسية، مصلوبٍ عليها فتياتٌ ألمانيات. داخل ذلك الخطاب، وتحت دالّة العار الأسود، دُعي الألمان إلى التفكّر فيما تفعله بهم فرنسا، إلى الإذلال الذي تجاوز حدود المُتخيّل.
كانت النازية في عشرينيات القرن الماضي لا تزال حركة فتيّة في مدن الجنوب، غير أن قصّة الرجال السود الذين يغتصبون نساء ألمانيا ليل نهار فعلت فعلها، ووضعت جمهورية فايمار في مأزق. إلى جانب الجناة السود حضر العرق اليهودي كجانٍ آخر، وقدّم بوصفه عصابة سرية تسيطر على الحكومة الألمانية في فايمار، وتدفعها إلى غض الطرف عن الإذلال الذي يتعرض له المجتمع الألماني.
حين وصلت النازية إلى السلطة، بعد العام 1933، فإنها قامت بحصر الأطفال الذين وُلدوا لأمهات بيض ورجال سود، ووجدت أنهم لا يتجاوزون بضعة آلاف، فقامت بإخصائِهم جميعِهم؛ حتى تضع حدًا للعار الأسود، وتأتي عليه من جذوره.
كانت تلك إبادة ثانية قلّما دار حولها الحديث. الشيء نفسه جرى مع اليهود، فقد أرادت النازية أن “تنقي” ألمانيا من كل ما هو أدنى. صارت ألمانيا للألمان، وحرّمت كل أنواع الرياضة، كما الموسيقى، على كل من ليس آري الدم.
مثلت أولمبيات برلين، أغسطس/آب 1936، صدمة مفاجئة لفكرة التفوق الآري التي اشتغلت عليها النازية لتجعل منها عقيدة اجتماعية. 18 رياضيًا من الأفارقة – الأميركان اشتركوا في الدورة الرياضية وحصدوا 12 ميدالية، منها 8 ميداليات ذهبية.
أراد الأميركان استفزاز النازية في عقر دارها، وذلك ما حدث. شاهد الألمان العدّاء الأسود جيس أوينس وهو يحصد أربع ميداليات ذهبية بمفرده ويتغلب على منافسيه البيض بمن فيهم الآريّون، أو الإنسان الأعلى (Übermensch). دفعتهم براعة الرجل إلى التصفيق والهتاف، متجاهلين كل ما قالته لهم النازية عن تفوقهم العرقي. ابتلع هتلر الهزيمة، وغادر المدرجات رافضًا مصافحة أي من الفائزين السود، وتجاهلت صحفُه الإشارة إلى تلك الانتصارات الرياضية “السوداء”.
نجحت أميركا في تكتيكها ذاك بأن وضعت النازية في معضلة أخلاقية من داخل حدث دولي كان هو الأهم في حينه. بعد أوبة الوفد الأميركي إلى بلاده، وجّه البيت الأبيض دعوة إلى الرياضيين البيض فقط للالتقاء بالرئيس روزفلت الذي كان يعرف جيدًا أن استضافته رجالًا سودًا في البيت الأبيض ستضعه في ورطة مع النخب السياسية في الولايات الجنوبية.
أما جيس أوينس الذي تحدثت عنه الصحافة الأميركية مطولًا وهو لا يزال في برلين، بوصفه البطل الذي رفض هتلر مصافحته؛ بسبب لونه، فراح يقول في حفل شعبي بأميركا: “من أهانني هو روزفلت”. تركت الحرب العالمية الأولى كل الأسباب المناسبة لقيام حرب ثانية، وذلك ما حدث بالفعل. خسرت ألمانيا النازية الحرب الثانية أيضًا، ثم عادت مرّة أخرى إلى التشظّي إلى دويلات ومستعمرات. حطّت كل تلك الظلال على ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. عاد الألمان إلى أنفسهم؛ ليفهموا ما الذي حدث لهم، وكيف حدث. انشغلوا بدراسة الماضي وتذكره، نشأت فروع معرفية وأكاديمية متخصصة في ثقافة الذاكرة (Erinnerungskultur).
في عموم البلاد بُنيت أنصابٌ تذكّر الألمان بتاريخهم السيئ، وتراجعت المرموزات والأيقونات الوطنية عن الواجهة، كما لو أن الألماني لم يعد من حقّه أن يعبّر عن ذاته. عملت السينما، الآداب، التعليم، وكل أنواع ووسائط الفنون على تذكير الألمان بصنيعهم سيئ الصيت.
الجلد القاسي للذات خلق رفضًا متصاعدًا، ورغبة ملحّة في العودة إلى الحالة الطبيعية، إلى حياة بلا “هراوات أخلاقية” تطارد أهل البلاد وتحيط بهم. استخدم مارتن فالسر، الكاتب الألماني الأشهر، تعبير الهراوة الأخلاقية في كلمة ألقاها بمناسبة تسلمه جائزة السلام في فرانكفورت 1998. عبّر عن رغبته في أن تنعتق ألمانيا من سجنها الأخلاقي وأن تعيش حالتها الطبيعية. أن تقف عند حدود اعترافها بماضيها وألا تذهب بعيدًا في جلد ذاتها.
خطاب فالسر أثار صدى في كل أرجاء البلاد، وخلال وقت قصير كانت 1200 شخصية ألمانية رفيعة تنتمي إلى عوالم الثقافة، والسياسة والاقتصاد قد وقعت عريضة تؤيد ما جاء في خطابه.
آنذاك شهدت الساحة الألمانية جدالًا مفتوحًا يصعب تخيل حدوثه في هذه الأيام. قام بوبس، رئيس المجلس الأعلى ليهود ألمانيا، بالرد على فالسر واصفًا إياه بمشعل الحرائق. انخرط في النزاع مثقفون ألمان وقفوا إلى جانب فالسر ضد “اليهودي الألماني” بوبس، وشهد النقاش حضورًا كثيفًا لدَوَالٍ خطابية معادية للسامية بدرجة تزيد أو تقل. كانت تلك أول محاولة مشهودة للتعبير عن سأم الألمان من الحالة غير الطبيعية التي وجدوا أنفسهم رهائن لها.
قبل ذلك بعامين، 1997، أقام معهد هامبورغ للأبحاث الاجتماعية معرضًا بعنوان: “جرائم الحرب، أفعال الجيش الألماني بين 1941-1945”. فجّـر المعرض موجة استياء شعبية وصلت إلى البرلمان، وحضرت إلى النقاش العام. قيل إن الجندي الألماني لم يكن مجرمًا، كان موظفًا ينفّذ الأوامر وحسب، وأنه آن الأوان ليتوقف الألمان عن الإساءة إلى ذاتهم وإلى سمعة الجندي الألماني.
بالموازاة واصل النظام الألماني عمله في تعميق ثقافة الذاكرة تحت بند عريض أطلق عليه: (Vergangenheitsbewältigung) أو مواجهة الماضي.
الاعتراف الألماني بالماضي تركّز على نحو حصري حول المسألة اليهودية. لم تعترف ألمانيا بالإبادة البشرية التي ارتكبها جيشها في أفريقيا حتى العام 2021، ورفضت إدخال مسألة التعويضات ضمن عملية الاعتراف تلك.
عندما وقفت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فازر أمام الصحفيين في تل أبيب مطلع هذا العام عجزت عن تقديم توضيح مقنع للبيانات التي تقول؛ إن 34% فقط من عموم الألمان يرون بلادهم ملتزمة بدعم إسرائيل. لتدارُك الإحراج قالت؛ إن بلادها ستعمل بجهد أكبر داخل نظام التعليم المدرسي؛ ليعرف الأبناء أننا -كما قالت- قتلنا اليهود في شوارع بلادنا
بدلًا عن ذلك طلب وزير الخارجية في حينه، هايكو ماس، الغفران من أحفاد الضحايا. استُنفدت ألمانيا عاطفيًا في المسألة اليهودية، حتى صارت هي الماضي كله. أشار الكاتب الروسي أونتيكوف في مقالته على الجزيرة نت، في 22 مارس/آذار من هذا العام، إلى جدل روسي – إسرائيلي حول المحرقة النازية.
وفقًا لأونتيكوف فإن إسرائيل التي تتهم الروس بالتقليل من شأن المحرقة، هي نفسها لا تعترف بالمحرقة التي حصلت للروس في الحرب نفسها. تعمل آلة التطهير الذاتي الألمانية تحت شعار: “ليس مرة أخرى Nie wieder”، الذي صار عبادة جبرية، وهو شعار يتحلق حول الجريمة بحق اليهود.
في الأسابيع الماضية حمل متظاهرون في برلين، مؤيدون لفلسطين، لوحات كتبوا عليها “ليس مرّة أخرى مع كل الناس”. الشعار الذي أريد له أن يكون مدخلًا للسلام، وخلاصة للعبرة التاريخية، عاد إلى الواجهة مع حرب غزة ليقول نقيض معناه، وليدعم إبادة بشرية تجري على الهواء.
وقعت ثقافة الاستذكار في مأزقين حقيقيين؛ الأول: استغراقها الكلي في المسألة اليهودية، والثاني: رغبة شعبية في الانعتاق من الذنب، ربما كرد فعل ضد الإغراق في جلد الذات. تُلاحَظ تفاصيل المأزق الأول في الدعم الانتحاري الذي تقدمه ألمانيا لصناع المحرقة في غزة، ما يعني أنها لم تتعلم الشيء الكثير من الماضي.
يحضر المأزق الثاني في صور عديدة داخل أبنية الدولة والمجتمع. فعندما وقف غاولاند أمام شباب حزبه في تورنغن في العام 2017- آنذاك رئيس حزب البديل الراديكالي- قال لهم بحماس؛ إن ألمانيا بلد يملك تاريخًا من ألف عام، وأن النازية ليست سوى “روث طائر” على ذلك التاريخ المجيد. تلك المقولة استنهضت السياسيين من أبرز الأحزاب، ليتهموا الرجل باحتقار الجريمة النازية، وطالب بعضهم بإخراج حزبه من البرلمان.
يمثل حزب البديل القوة السياسية الثانية في البلاد، ويرى 80% من ناخبيه أن إسرائيل تمثل بالنسبة لهم كيانًا غريبًا بحسب استطلاع أجرته مؤسسة فورسا في ديسمبر/كانون الأول الماضي. ثقافة الاستذكار، بكل الحضور المادي والخطابي لها، تمرّ بأزمة حقيقية.
أريد لها أن تعني الخطيئة الألمانية مع اليهودية وحسب، ثم صارت إلى تفجّع واستذلال يومي لا يتناسب مع ما يعتقده الألماني عن نفسه وتاريخه. تشير البيانات الجديدة إلى احتمال أن تقود ثقافة الاستذكار إلى نقيضها.
فعندما وقفت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فازر، أمام الصحفيين في تل أبيب مطلع هذا العام عجزت عن تقديم توضيح مقنع للبيانات التي تقول؛ إن 34% فقط من عموم الألمان يرون بلادهم ملتزمة بدعم إسرائيل. لتدارُك الإحراج قالت؛ إن بلادها ستعمل بجهد أكبر داخل نظام التعليم المدرسي؛ ليعرف الأبناء أننا- كما قالت- قتلنا اليهود في شوارع بلادنا.
من غير المستبعد أن تذهب المحاولات الجديدة أدراج الرياح. فالألماني العادي يريد أن ينظر إلى الماضي فيبصر ذاته التاريخية في سياق طبيعي. فقد تشبّع حد التخمة من صورة والده في زيه العسكري وهو يتتبع اليهود في أقبية بلاده؛ بسبب دينهم. تلك الهراوة الأخلاقية، التي تحدث عنها مارتن فالسر، وهي إرهاق ألمانيا المزمن.
ولأنّ ثقافة التذكر انصرفت كليًا إلى المسألة اليهودية، لا إلى الماضي كله، فمن المرجّح أن يكون منسوب العبرة التاريخية أقل من المأمول. فالساسة الذين يقودون ألمانيا حاليًا، ويدفعونها إلى الحروب والمحارق، تخرّجوا في مدرسة الذاكرة إياها، ولم يتعلموا شيئًا.