كاظم حبيب
مرة أخيرة مع السيد علي الشرع بشأن واقع العراق الراهن
الحلقة الرابعة (4-4)
هل العراق بحاجة إلى عملة تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة ومستدامة؟
جاء في مقال السيد علي الشرع “العبادي ومستشاره الاقتصادي” المقطع التالي:” بسبب رؤيته الشمولية وربما بسبب تأثره بنظرية النمو المتوازن فإن د. كاظم حبيب يتبنى نفس رؤية وزارة التخطيط في خططها الخمسية التي تسعى من خلالها الى تنمية القطاعات الاقتصادية المختلفة في آن واحد، على الرغم من فشل كل الخطط المبنية على هذا الرأي. ولم يفكر الدكتور كاظم حبيب لحظة واحدة ان الموارد المالية غير كافية في سبيل تحقيق هذا الهدف. وان تبديد هذه الموارد النادرة على رقعة واسعة من القطاعات، سيجعل من الاقتصاد العراقي هيكلاً سقيماً مطروحاً بشكل دائم على فراش العلاج يتلقى جرعاً غير نافعة لن تنعشه ولو على المدى الطويل. لكن -بخلاف ذلك- ان وجهنا التخصيصات المالية نحو قطاع حيوي وهو قطاع الكهرباء، فسوف نخلق منه قطاعاً قائداً تنطلق من خلاله التنمية الاقتصادية. ولا يخفى على المتخصصين ان عدم نهوض هذا القطاع كان ولا يزال يشكل مصدر قلق للحكومة والناس؛ فالأولى ان يتم التركيز عليه. والمشكلة تكمن فيه وليس في غيره، ولقد ازهقت أرواح كثيرة في المظاهرات بسبب الكهرباء، ام ان هذه الأرواح لا قيمة لها عندك يا سيد كاظم!”.
أترك روح الاستفزاز السقيمة التي تتجلى في مقالة السيد علي الشرع حين يقول في خاتمة المقطع “.. أم ان هذه الأرواح لا قيمة لها عندك سيد كاظم!” جانباً، فالرجل لا يعبر هنا عن جهل بالاقتصاد فحسب، بل وجهل مضاعف بمعرفة الناس أيضاً، وبالتالي يلجأ إلى الإساءة في نقاش يفترض أن يتسم بالهدوء والموضوعية.
الاقتصاد العراقي اقتصاد ريعي استهلاكي متخلف. ومثل هذا الاقتصاد بحاجة إلى شروط للنهوض به من تشوهه البنيوي ومن تخلف علاقاته الإنتاجية السائدة فيه منذ عقود، بل منذ قرون، إنها علاقات إنتاج ما قبل الرأسمالية ورأسمالية طفيلية وقطاع نفطي رأسمالي متطور إلى حدود معينة في قواه المنتجة. هذا الاقتصاد لا تعالجه حكومة طائفية من النوع القائم منذ 15 سنة ولا قبل ذاك كحكومة البعث المستبدة والمحكومة بقرارات الفرد المطلق والشرير.
ليس لهذه الحكومة رؤية سليمة في سبل وأسس تنمية الاقتصاد الوطني والمجتمع، وليست لها أهدافاً اقتصادية واضحة تساهم في إصلاح الاقتصاد العراقي وتلبي حاجات المجتمع الأساسية بما في ذلك الطاقة الكهربائية والماء.. الخ. ولهذا فهي تتخبط فعلياً، إضافة إلى ما نشأ في العراق من احتلال وإرهاب ثم اجتياح وحروب وفساد شامل في البلاد.
ليست الحكومة الحالية وحدها مسؤولة عن هذا الواقع المرير، بل هي تركة ثقيلة منذ عقود، فاقمتها الحروب الصدامية نحو الداخل والخارج ومن سياسات النظام الطائفي الطفيلية والفاسدة والتي ألحقت أفدح الأضرار بالاقتصاد والمجتمع وعمقت التخلف والتشوه في الاقتصاد وفي بنية المجتمع.
كل الاقتصادات الوطنية في العالم بحاجة إلى تخطيط أو برمجة، سواء أكانت رأسمالية متقدمة، أم لا تزال في مرحلة التحول صوب الرأسمالية، أم بلدان النامية لا تزال تعاني من العلاقات البالية، سواء أكانت شبه إقطاعية أم في بدايات نمو الرأسمالية، ولاسيما القطاع التجاري والعقاري. الخطط الاقتصادية التي وضعا في العراق لم تكن كلها فاشلة، بل كان الفشل حكومي بامتياز، فشل الإدارة الاقتصادية والمالية، فشل الأجهزة والعناصر غير الجيدة التي وضعت على رأسها بسبب حزبيتها أو قرابتها أو مذهبها. التخطيط أداة وليس هدفاً، وبالتالي يفترض فيمن يستخدم الأداة أن يعيها وأني يعي سبل التنفيذ. التخطيط الاقتصادي يتطلب معرفة تفصيلية بواقع الاقتصاد الراهن وإمكانيات البلد المادية والبشرية والموارد الأولية والمالية المتوفرة وحاجات الاقتصاد الوطني والمجتمع، ليخرج منها بخطة تحدد الأوليات التي لا بد من العمل عليها من جهة، والتي لا تعني بأي حال إهمال التوازن المنشود في بنية الاقتصاد الوطني وعلى مدى عدة خطط خمسية ووفق رؤية بعيدة المدى وآفاقية. التنمية المستدامة والمتوازنة لا تعني عدم التركيز على قطاع الطاقة لأهميته الكبرى في عملية التنمية الاقتصادية والبشرية وإشباع حاجات السكان منها في الصيف والشتاء، بل تعني تطوير الفروع والقطاعات الاقتصادية الإنتاجية منها والخدمية على وفق الحاجة الفعلية لها ودورها ومكانتها في عملية التنمية بالارتباط مع الإمكانيات المالية والطاقات البشرية المتوفرة والتطويع المناسب للتقنيات الحديثة لصالح تنمية الاقتصاد الوطني والمجتمع، إضافة إلى التنسيق فيما بين الفروع واقطاعات الاقتصادية. كما لا بد من دور مهم وملموس لمنظمات المجتمع المدني والشعب عموماً في تبني مثل هذه التنمية والخطط الاقتصادية ومتابعة ومراقبة التنفيذ.
إن تحقيق التوزان في بنية الاقتصاد الوطني ليست فقط ضرورية بل وأساسية، إذ تعني بالضبط عدم نسيان القطاعات الإنتاجية ذات الأهمية الفائقة لعملية التنمية والقاعدة المادية لتطور الاقتصاد والمجتمع وتقدمهما، وقطاع الطاقة الكهربائية هو القطاع الأكثر أهمية ضمن القطاعات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، الذي يفترض أن يولى الاهتمام، دون نسيان التطوير المرافق له في القطاعات الأخرى لكيلا نقع في اختلالات أخرى في عملية التنمية الشاملة. فالاختلال والتخلف الراهنين في الاقتصاد العراقي يزال فقط عبر التنمية الاملة والمستدامة والاستفادة الفعلية من النفط الخام وموارد النفط المالية، المتأتية من تصدير النفط الخام للخلاص من الاقتصاد الريعي الاستهلاكي المتخلف. أما السياسة الراهنة وحتى الآن فهي تعمق التشوه ووحدانية الجانب في بنية الاقتصاد العراقي وتشوه وتخلف بنية المجتمع الطبقية، وتزيد من دور ومكانة الريع النفطي في الاقتصاد العراقي، وما تنشأ عنه من عواقب الفساد والاستبداد والاستغلال.
النظرة الشمولية للاقتصاد والمجتمع ضرورية وحتمية، وليست عيباً، لمن يريد تنمية الاقتصاد الوطني على وفق ما هو متاح ومتوفر من موارد مالية وطاقات بشرية، بل العيب يكمن في غياب الرؤية الشمولية للاقتصاد الوطني وعدم رؤية مجمل الاقتصاد الوطني في مشكلاته وسبل معالجته وأسبقيات التنمية للوصول إلى التوازن المنشود في الاقتصاد والخلاص من الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد والمجتمع.
إن سياسة الحكم الراهن أسوأ بكثير جداً من سياسة صدام حسين ونظامه الشوفيني في العقد الثامن، فهو على الأقل طور بعض الصناعات الكيمياوية والنسيجية والغذائية ومصافي النفط، إضافة إلى مشاريع الطاقة الكهربائية والماء والصحة … الخ، ولكن المقتل الأساسي لهذا النظام برز في سياسة التنمية الانفجارية التي اتخذها نظام البعث ضمن قرارات المؤتمر الثامن للقيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1974 من جهة، والموارد المالية الهائلة التي تساقطت على رأس النظام وأعمت بصيرته وبصره من جهة ثانية، وسمحت بنشوء أهداف توسيعية للنظام على حساب دول الجوار وتفاقم روح العسكرة والعنف التي ميزت سياساته من جهة ثالثة، والتوسع في الإنتاج الحربي وصرف المليارات لإقامة ترسانة من أحدث الأسلحة التقليدية والتهيئة لحروب دموية، من جهة رابعة، والاستبداد والقهر للمجتمع والتمييز الشوفيني والطائفي في الداخل من جهة خامسة. والتي كلها ساهمت في المحصلة النهائية إلى تدمير المؤسسات الاقتصادية وخراب المشاريع الخدمية وعودة العراق إلى ما قبل التصنيع في البلاد.
أما النظام السياسي الطائفي الحالي، وعبر الأعوام الخمسة عشر المنصرمة، فقد برهن على هدفه الصارخ: إملاء الجيوب وتكوين الحسابات في الخارج وبناء القصور وسرقة أموال الدولة على أوسع وأبشع نطاق ممكن وبلا ذمة أو ضمير. ومثل هذا النظام لا يبني العراق، ولا يحقق التنمية، ولا يقيم مشاريع الطاقة الكهربائية، ولا يلبي حاجة الناس لكل الخدمات الأساسية/ بل يمارس العكس من كل ذلك.
إن انتفاضة الشعب ضد سياسات النظام وطائفيته ليست صراخاً في وادٍ، صراخاً غير نافع، وليست فوضوية تقلق النظام أكثر مما تدفعه إلى الإصلاح، بل ما سميته صراخاً عبثياً هو النضال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الشجاع وبمختلف أشكاله السلمية والديمقراطية، وهو المطلوب تماماً والمرتجى أيضاً، إذ بدون هذا الحراك المدني المتواصل والانتفاضة الشعبية، لما تحرك صوب المحافظات التي تعاني من الرثاثة وشظف العيش والتخلف في كل مجالات الحياة، إضافة إلى الفساد والإرهاب. وهي سياسة لا تزال بعيدة عن رغبة وحاجة المجتمع، فالمجتمع يريد تغيير النظام الطائفي والخلاص منه وإقامة النظام الديمقراطي العلماني. والهمس بالأذن من قبل مستشار مالي، مهما كانت فائدته، لا تعادل جزءاً من تأثير حركة الشعب ونضاله من أجل التغيير، رغم أننا لا نعرف مدى علاقة الحاكم بالمستشار ومدى استعداده لسماع رأيه في خضم هذا الجهل السائد بين كثرة من المستشارين والخبراء الذين اختضنهم نوري المالكي ولا زالوا يواصلون دورهم حول الحاكم الجديد، حيدر العبادي.
من حقك أن تخوض في موضوعات السياسة والاقتصاد، كما من حق كل مواطنة ومواطن عراقي ذلك، ولكن لا بد من معرفة المجال الذي تخوض فيه وتتحدث عنه، لكيلا ترتكب أخطاءً غير مبررة تفسح في المجال لنقدك. لم اتحدث عن المرجعية الدينية الشيعية إلا عن علم بتفاصيل عمل المرجعية، ولاسيما مرجعية السيد السيستاني، والأموال الكثيرة التي يصرفها مما يأتيه من مقلديه في العالم، في إيران وغيرها، ولكن لم يصرف فلساً واحدا في الأعمال الخيرية في العراق، إن لم تصدق ذلك فأذهب إلى الموقع الإلكتروني للسيد السيستاني لتتيقن بنفسك من ذلك. وحين انتقدت الأفعال المضرة بأتباع المذهب الشيعي من أمثال التطبير والضرب بالسلاسل والسكاكين الصغيرة (الزناجيل) على الظهر والتمرغ بالتراب والطين (التمرغل بهما) من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، كنت على علم تام بمواقف علماء الدين الشيعة والمسلمين العقلاء منهم، وعلى علم بموقف السيد السيستاني وطالبته باتخاذ موقف شجاع سيذكر له ضد هذه البدع التي جاءتنا من بعيد وعبر إيران وفي القرن التاسع عشر على نحو خاص، في حين إن إيران لا تمارس ذلك.
في المقطع الأخير من مقال السيد علي الشرع جاء ما يلي: “وأتمنى ان تكون انتفاضة الأستاذ كاظم حبيب هذه خالصة نظيفة خالية من اية شائبة من قبيل مصلحة يرتجيها من نصرته ودفاعه هذا. لكون المقال يشرح مظلومية الشعب العراقي ومحنته ومع ذلك لم يقف السيد حبيب مع المقال ولو بكلمة واحدة، وتبين لي ان ما ينشره من مشاعر الأسى والحزن على وضع الشعب العراقي المزرى هو مجرد كلام ليل يمحوه النهار.”
كم كنت أتمنى أن يحترم هذا الرجل نفسه ويبتعد عن الإساءة، ولو جاءت عبر التمني، فمن قضى عمره في النضال من أجل ” وطن حر وشعب سعيد”، من أجل الشعب ودخل السجون والمعتقلات وناضل مع الأنصار الشيوعيين ضد نظام البعث ورفض الاستمرار في التعليم الجامعي المجزي في العراق والجزائر ليناضل في إقليم كردستان مع الكرد والعرب وغيرهم من أجل الحرية والديمقراطية والخلاص من سجن البعث وصدام حسين الكبير ورفض المغريات لنظام البعث، لا يمكن أن يعتمد المصالح الشخصية والانتهازية في طرح أفكاره أو مناقشة اراء الآخرين. فليس هناك ما ارتجيه من دفاعي عن أستاذ اقتصادي شريف اعتقل لعدة شهور وأسيء له عمداً وقسراً من قبل المستبد بأمره نوري لمالكي، ثم جاء مقال للسيد علي الشرع ليربط بينه وبين سياسة رئيس الحكومة الدكتور العبادي، والتي شعرت بوجود خطأ في المنهج والأسلوب وعدم التمييز بين المسؤول والمستشار.
يقول الشرع في هذا المقطع الأخير “… لكون المقال يشرح مظلومية الشعب العراقي ومحنته ومع ذلك لم يقف السيد حبيب مع المقال ولو بكلمة واحدة”، ثم يواصل فيقول: “وتبين لي ان ما ينشره من مشاعر الأسى والحزن على وضع الشعب العراقي المزري هو مجرد كلام ليل يمحوه النهار”.
لقد كان هدف مقالي هو تبيان الخلل في وجهة السيد الشرع في معالجة العلاقة بين الحاكم والمستشارين ومدى التزام الحاكم بأفكار وملاحظات وآراء المستشارين أو بعضهم، وليس الكتابة عن مظلومية الشعب العراقي الذي يقول هو نفسه بأن كاظم حبيب كتب الكثير عن المآسي والتي يمر بها الشعب العراقي. يمكن للشرع أن يتصفح موقع الحوار المتمدن ففيه ما يقرب من 2000 مقال ودراسة، وكذلك جريدة “العالم” العراقية، منذ أن بدأت الكتابة فيها قبل عدة أعوام وبدون مقابل مادي، ليدرك بأني لم أكن بحاجة لكي أؤكد وأعلق وأؤيد بوجود مظلومية على الشعب العراقي في المقال الذي كتبه بعنوان “العبادي ومستشاره الاقتصادي”. ولم أكن انوي مناقشته لولا شعوري بوجود خلل في هذا المقال يستوجب الإشارة إليه. ولو كان السيد الشرع قد فكر قليلاً بالواقع الذي يعيشه النزهاء والمخلصين العاملين ضمن هذا النظام الطائفي المقيت، لابتعد عن تلك المقارنة وبالطريقة التي عالج فيها الموضوع ولشكرني على ملاحظتي. من الممكن أن يطلب من السيد الدكتور مظهر محمد صالح أن يستقيل من مركزه لأن المستشارية لا تنفع مع مثل هذه الحكومة، أو أن ينتقده في موضوع التصريحات بشأن القروض والعلاقة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مثلاً، لما كان لي أن أناقشه في هذا الصدد، فهو نقاش في مجال حيوي وفيه وجهات نظر عديدة. كما أني لم أنتقده بهذا الشأن، بل توجه نقدي لموضوع العلاقة بين الحاكم والمستشار.
وأخيراً إن محاولة الإساءة لي في المقطع الأخير من مقال السيد علي الشرع تجعلني أكف عن مناقشته بعد هذا المقال، إذ يمكن أن ينحدر النقاش إلى مستوى إساءات جديدة لا يمكن القبول بها وكان المفروض أن ترفضها هيئة تحرير الجريدة.
انتهت الحلقات الأربع والأخيرة.