تناول العدد السابع والسبعون من سلسلة «كراسات ملف» بعنوان «طوفان الأقصى، وما بعده..» موضوع زلزال طوفان الأقصى وتداعياته، لم يقتصر هذا الموضوع فقط على التداعيات الإقليمية والدولية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، بل تناول أيضاً بعضاً من التداعيات النفسية، متحدثاً عن «القلق الوجودي» لدى جمهور العدو، بخصوصيته الإسرائيلية التي لا تتطابق تماماً مع مفهوم «القلق الوجودي» في الفلسفة الوجودية عند سارتر أو غيره من فلاسفة المذهب الوجودي، رغم بعض التقاطعات.
لا شك أن الحروب تترك آثاراً نفسية سلبية عميقة ومديدة في وعي المتحاربين من الطرفين سواء عسكريين أو مدنيين، ولا سيما الفئات الضعيفة الغير قادرة على الدفاع عن نفسها حين تتعرض للعدوان والإيذاء المتعمد وغير المتعمد، ولا تسلم حتى من أذى أصوات الانفجارات القوية وقعقعة السلاح، أو حتى من الشعور بالتهديد وعدم الأمان عند إحاطتها بمظاهر الموت والدمار لوقوعها في مرمى نيران المعارك تصيبها الطائشة والعشوائية أو غير ذلك، لكن لدى كافة المستوطنين الاسرائيليين في دولة الاحتلال، على مساحة فلسطين التاريخية كلها، هاجس انعدام الأمن والاحساس بالخطر الدائم، استمر لسنوات طويلة منذ نشأة الكيان، في ارتفاع وانخفاض دون أن يزول، باقٍ حتى في أوقات التهدئة واللاحرب، يكفي سماع دوي صفارات الإنذار، كي تصيب المستوطنين نوبات من الهلع الشديد، لم تنفع الملاجئ الحصينة وكل وسائل الحماية من أسوار التفافية عازلة، وجدران الكترونية حديثة، وصواريخ القبة الحديدة، وغيرها من وسائط الدفاع الجوي، من التخفيف والحد من هذه المشاعر، وأقول: أعان الله شعبنا الأعزل المكشوف عاري الصدر في مواجهة أحدث أسلحة الدمار والفتك الامريكية منها والإسرائيلية والغربية، وهو لا يملك أدنى مقومات الحماية من النتائج المميتة والآثار الجسدية والنفسية للحروب العدوانية المتكررة التي تصب آلاف الأطنان من المتفجرات والقنابل الثقيلة فوق رؤوس السكان الأمنين في بيوتهم، وهو صامد شديد الأيمان بقضيته الوطنية، محاولاً أن يظهر تماسكه وصلابته، وخافياً كل مشاعر الضعف على أمل تحقيق النصر بإفشال ما يرمي إليه العدوان من كي الوعي في ظل إخفاقه في تحقيق أي أهداف معلنة على الصعيدين العسكري والسياسي.
من تداعيات طوفان الأقصى على الداخل الإسرائيلي استحضار «القلق الوجودي» – الكامن أصلاً والمتجذر في وعي الإسرائيليين اليهود على مصيرهم، حاضراً ومستقبلاً، لاستشعارهم واقع أو حقيقة العيش بكنف كيان سياسي غير مستقر، ضمن بنية هجينة تعصف الريح من تحتها، في دولة قامت على العدوان والإجرام واغتصاب حق الشعب الفلسطيني في أرضه. وينتاب الاسرائيليين شعور عميق بعدم القدرة على إدامة اغتصاب الأرض لمجرد وجود الآخر الذي يتصف بأصلانيته المتجذرة في التراب الوطني.
عندما يبدأ «هذا الآخر» بالتعبير عن حقوقه المشروعة، ويجسدها مقاومة يتحول «القلق الوجودي» إلى «ذعر وجودي» يبرر ارتكاب المجازر كالتي شهدها قطاع غزة منذ حرب 7 تشرين /أكتوبر بعد الاختراق الاستراتيجي الذي حققته عملية طوفان الأقصى بانعكاساتها وتداعياتها التي تجاوزت حدودها المحلية.
يشترك القلق والذعر في اضطراب عدم الشعور بالأمان، وكلا القلق والذعر يحفزان سلوك المواجهة أو الفرار، ويختلفان بأن القلق لا يكون إزاء شيء محدد، إنه إحساس أن هناك شيئاً غير صحيح، في الحالة الإسرائيلية إحساس اللص الذي يسرق أراضي وبيوت وممتلكات الفلسطينيين، ويسلب كل شيء حتى التراث، ويشرّع ذلك بتبريرات خرافية توراتية، وبنفي وجود شعب، في حين أن وجود شعب فلسطين سبب قلق الإسرائيليين ورعبهم، ماذا بإمكان مقاومته أن تفعل؟. إنه قلق القادم المجهول الذي يأتي به المستقبل، وتقديرهم الغالب أنه لن يكون في صالحهم، حين يكون المصير مبهماً -يدور حول الأشياء ومنتهاها، أو حول السؤال: كيف ستنتهي الأمور؟. – يستدعي ذلك شعور القلق، ويحل ذعر الإسرائيليين مكان قلقهم، متحولاً إلى شعور مُدرَك للشيء المخيف، والماثل والحاضر في الحواس وفي الوعي، عندما تتصاعد مقاومة شعب فلسطين مطالباً بحقوقه الوطنية.
لقد وجَّه السابع من أكتوبر– 7/10 – ضربة مميتة إلى السردية التأسيسية التي قامت عليهما سمعة دولة إسرائيل وكرَّست صيتها بين اليهود وفي العالم في آن معاً، أن المشروع الصهيوني انطلق من مقولة أن لا أمن لليهود في العالم، إلا بإنشاء دولة خاصة بهم على أرض فلسطين، تكون هي الملاذ لمن يأتيها، وتوفر مظلة حامية ومعبر نجاة احتياطي لمن يبقى خارجها.
كل هذا أعاد تذكير المجتمع الإسرائيلي بغياب حالة الاستقرار في المكان، وأنه محاط بالأعداء، وأن اسرائيل وخلاف كل الادعاءات الصهيونية ليست هي الوطن والملاذ الآمن لا لمواطنيها ولا ليهود العالم، كما يدعي المشروع الصهيوني، بل اثبتت حرب «الطوفان» أن اسرائيل ومع تداعيات الحرب وتطوراتها، هي المكان الأكثر خطورة على اليهود، ما لم تعترف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وأن الأمن يكون في مكان آخر، طار إليه الآلاف من مواطني اسرائيل هرباً بعد أن حمى وطيس المعركة. وتحدثت صحف إسرائيلية عن ارتفاع في عدد الأعراض النفسية لدى الإسرائيليين، نتيجة فقدان الشعور بالأمن، والعيش مع هاجس أن تهديداً ما سوف يقع في لحظة ما، وأن هذا الشعور لن يزول بعد انتهاء الحرب وتوقف دوي صافرات الإنذار وسقوط الصواريخ في قلب المدن.
وبعيداً عن الإنجازات التي سطرتها المقاومة بجميع فصائلها في تلاحمها مع الشعب الفلسطيني، فإن هناك تداعيات أخرى لا تقل أهمية عن إنجازات الميدان، وسوف تبدأ بالظهور مع توقف العدوان، ومن أهمها: الأرقام المرتفعة للهجرة المعاكسة الناجمة عن تردي الحالة الأمنية، وانحسار الثقة بالمؤسستين الأمنية والعسكرية في اسرائيل، وفقدان الثقة بهما نتيجة عجزهما عن توفير الأمن للإسرائيليين.
التقاء سيكولوجيا «القلق الوجودي» مع أيديولوجيا «التفوق العنصري»، واليقين بحيازة الحق الحصري والمطلق بالأرض والمؤسس على حرفية النص الموروث، معطوفاً على امتلاك أدوات القهر والإخضاع، متعددة الأشكال والتشكيلات، مع توفر الشرط الخارجي المؤاتي لاستخدامها إن بفعل الضعف العربي أو التواطؤ الغربي أو التشجيع والمساندة الأمريكية يقود اسرائيل إلى اعتماد سياسة الحلول المطلقة، حلول الإلغاء والاستئصال بواسطة «الحرب الشاملة»، التي لا تبقي ولا تذر، ليتمخض عنها الحل النهائي، أي الحل التصفوي للمسألة الفلسطينية.
كانت ردات الفعل الصاخبة الانتقامية والثأرية فائقة الهمجية، والشروع بشن حرب على القطاع بعد إعلان التعبئة العامة، في هذه الحرب استعمل العدو كل ما امتلكه من أسلحة دمار، في الجو والبر والبحر، بهدف استعادة أسراه بالقوة، ومحو المقاومة في القطاع، وتدمير بنيته التحتية والمؤسسية، وتهجير سكان القطاع وإفراغه وتحويله إلى عمق أمني للكيان الإسرائيلي، وتحولت الحرب الثأرية الإسرائيلية إلى المجازر وحمامات الدم، في ظل فشل معلن عن تحقيق أياً من الأهداف المعلنة، إلا إذا اعتبرنا الإبادة الجماعية هدفاً تم تحقيقه وفقاً لمواصفات ثقافة العنصرية الإسرائيلية المتجددة والنازعة نحو التغول، لا بل باتت تفرض نفسها كأيديولوجيا فاشية تتبناها الدولة وتسعى إلى ترجمتها بسياسات ملموسة.
لقد تابع الجمهور الإسرائيلي بتأييد وترحاب المجازر والمذابح وأعمال الإبادة الجماعية ضد سكان القطاع، ولم تصدر عن أية أطراف ذات وزن، احتجاجات على هذا الشكل المتوحش من الحرب، ما خلا بعض الأفراد الذين اعتبروا حالة نشاز للجو العام، وليس تعبيراً عن ظاهرة اجتماعية متأصلة، وهكذا يمكن القول إن الحرب نجحت في الكشف عن الخطر الحقيقي للفكر الصهيوني باعتباره فكراً ذا جذور فاشية، ويمكن في هذا السياق أيضاً اعتباره يعبّر عن غياب الثقة بالمشروع الصهيوني ومستقبله، في ظل دولة لم تستقر أوضاعها منذ لحظة إنشائها.
ويمكن القول إن الانزياح المضطرد نحو اليمين والتطرف تجاه حقوق الشعب الفلسطيني شق مساره بدرجات متباينة في صفوف الأحزاب الصهيونية منذ عقود، لكنه أخذ مع استفحال الأزمة السياسية- الحزبية في اسرائيل منحى متسارعاً على الصعيدين الحزبي والمجتمعي، وكان إقرار قانون القومية في الكنيست 2018 قد عزز دور التيارات اليمينية المتطرفة والنزعات الفاشية، التي تنظر إلى الوجود الفلسطيني في اسرائيل وفي الضفة والقدس باعتباره «وجوداً فائضاً » ينبغي ترحيله.
على صعيد الأيديولوجيا الشائعة أسهمت الحرب في تظهير قدراً واسعاً من طبيعة الوعي السياسي السائد لدى الصف الواسع من القوى السياسية، وأظهرت في الوقت نفسه، حجم الانزياح العنصري لدى الجمهور الإسرائيلي، عبّر عن نفسه بمواقف شديدة التطرف، كشفت عن عمق تأصل الفكر الفاشي للصهيونية، وأسقطت عن الوجه الإسرائيلي القناع عن العديد من الادعاءات الكاذبة، والمفاهيم التي روجت لها دولة الاحتلال، حول «أخلاقية» الجيش الإسرائيلي !!! و «طهارة» سلاحه!!! وحول احترام إسرائيل للقوانين، واعتبارها دولة ديمقراطية.
ومع استمرار الحرب الدائرة رحاها في قطاع غزة والضفة الغربية ومع احتمال تطوراتها اللاحقة، فإن الحالة الداخلية في اسرائيل مرشحة لمزيد من التطور خاصة في الخلافات بين أحزاب الكنيست، وبين العلمانيين والمتدينين ناشرة في المنحى النفسي المرضي المزيد من القلق والرعب لدى الإسرائيليين إزاء مستقبل مجهول المعالم، يحفزهم على الهرب لا المواجهة.
أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»