عاش اليهود في بلاد الرافدين منذ آلاف السنين، وحظيت تلك الأرض بمكانة مهمة في المُتخيل اليهودي الجمعي باعتبارها الموطن الأول للنبي إبراهيم، ولكونها المكان الذي شهد سبي أسباط بني إسرائيل في زمن الإمبراطوريتين الأشورية والبابلية.
في القرن الثامن الميلادي ظهرت فرقة القرائين، وهي من أهم الفرق الدينية اليهودية، في مدينة بغداد، وتأثرت بالعقائد الإسلامية، وتمكنت من الحفاظ على وجودها لقرون طويلة. فكيف ظهرت الفرقة؟ وما أهم عقائدها وأفكارها؟ وكيف يعيش أفراد الطائفة في دولة إسرائيل اليوم؟
من سجن بغداد
ظهرت طائفة اليهود القرائين في بغداد، عاصمة الخلافة العباسية في القرن الثامن الميلادي. في تلك الفترة، كان العراق مركزاً لأهم المدارس الدينية اليهودية، وكان من المعتاد، أن يترأس الجاؤون (الجالوت) الطائفة اليهودية في العراق، وأن يكون ممثلاً لليهود أمام الدولة العباسية.
في ستينيات القرن الثامن الميلادي، توفي الجاؤون داود، وطُرح اسم ابنه عنان ليحل محله، لكن الأغلبية الغالبة من الأحبار رفضت التصديق على قرار تعيينه، واختاروا إسحاق الإسكافي ليشغل منصب الجاؤون الجديد.
يذكر المفكر المصري عبد الوهاب المسيري في موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” أن عنان بن داود رفض تعيين الإسكافي وأعلن أنه الأحق بالمنصب. على أثر ذلك، اتهم الأحبار عنان بالهرطقة والخروج عن التعاليم اليهودية القويمة، فقُبض عليه بأمر من الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور وزُج به في السجن.
يذكر الباحث السويسري فريدريش دورينمات في كتابه “أبو حنيفة وأنان بن داوود” أن فترة السجن أثرت بشكل كبير على توجهات عنان الفكرية. وتزامن حبس الحبر اليهودي مع حبس الفقيه أبي حنيفة النعمان.
بعد فترة من التعارف بين الفقيهين، نصح أبو حنيفة صاحبه بأن يعرض آراءه على الخليفة المنصور، بحيث يوضح له أفكاره العقلانية التي عارضه الأحبار بسببها. نجحت خطة أبي حنيفة، وأُفرج عن عنان بن داود فخرج من السجن وعمل على تأسيس طائفة دينية يهودية جديدة منفصلة عن طائفة “الربانيين” التي ينتمي لها الشطر الأكبر من اليهود.
عُرفت الفرقة الجديدة باسم “العنانية” نسبةً لمؤسسها عنان بن داود، قبل أن تُعرف باسمها الأشهر “القرائين” في منتصف القرن التاسع الميلادي على يد الحبر بنيامين بن موسى النهاوندي.
أثر الفقه الحنفي
يرفض القراؤون الرواية التاريخية التقليدية التي ترجع ظهورهم الأول إلى عنان بن داود، ويتمسكون بالرأي الذي يقول إن بدايتهم وقعت عقب وفاة الملك سليمان بن داود، بالتحديد عند انقسام المملكة العبرانية المتحدة إلى مملكتين (الشمالية والجنوبية).
وفق هذا الرأي فإن القرائين كانوا هم اليهود التُقاة الذين حافظوا على تطبيق الشريعة والتعاليم في تلك المرحلة التاريخية الحرجة، واستمروا في تناقل العلوم الصحيحة من جيل إلى آخر، حتى تمايزت طائفتهم بشكل رسمي عن باقي طوائف اليهودية الحاخامية على يد عنان بن داود.
آمن القراؤون بالعهد القديم فقط واعتبروه النص الوحيد المُنزل من عند الله (يهواه). وعلى النقيض من باقي الطوائف اليهودية لم يعترف القراؤون بالتوراة الشفوية التي يعتقد البعض أنها أُنزلت على النبي موسى فوق جبل سيناء.
لذلك؛ عُرفت هذه الطائفة بالعديد من الأسماء المشتقة من العهد القديم مثل “التناخيون”، و”أبناء المقرا” و”أصحاب المقرا” و”القراؤون”، كما يقول الباحث جعفر هادي حسن في كتابه “تاريخ اليهود القرائين منذ ظهورهم حتى العصر الحاضر”.
بشكل عام، لا يؤمن القراؤون إلا بالفرائض اليهودية التي تلقّاها النبي موسى على جبل سيناء. ويمارسون العديد من الطقوس المختلفة عن التقاليد اليهودية المعروفة. على سبيل المثال، يتبعون تقويماً خاصا بهم يختلف عن التقويم اليهودي التقليدي، ولا يحتفلون بأي عيد لم يُذكر بشكل واضح في التناخ (العهد القديم)، كما يقدسون يوم السبت بطريقة أكثر تشدداً من باقي الطوائف اليهودية، حيث لا يشعلون الشموع ولا يستخدمون أي جهاز إلكتروني أو ميكانيكي.
في ما يخص أعمال الطهارة، لا يؤمن القراؤون بالاعتقاد الحاخامي الذي يقصر التطهر بالنزول في حوض الطهارة (ميكفاه)، ويرون أنه يمكن التطهر من النجاسة بأي ماء متدفق حتى ولو في الحمام العادي.
يرى الكثير من الباحثين أن أفكار طائفة القرائين قد تأثرت بالعقائد الإسلامية، لا سيما في مبحثي الفقه وعلم الكلام. على سبيل المثال، يقول المسيري في موسوعته “من الواضح أن اليهودية كانت تواجه تحدياً فكرياً ضخماً بعد انتشار الإسلام، وكان عليها أن تستجيب له. وكان عنان بن داود يمثل أولى هذه الاستجابات…”.
يعتقد البعض أن العلاقة الوطيدة التي نشأت بين الإمام أبي حنيفة النعمان وعنان بن داود في سجن بغداد ألقت بظلالها على المعتقدات التي اتبعها القراؤون لاحقاً، ويظهر ذلك في الاعتماد الكامل على التوراة المكتوبة وفي اللجوء إلى آلية القياس لاستنباط الأحكام الفقهية، وفي التشجيع على الاجتهاد الفردي، وغير ذلك من الأحكام التي تشابهت مع الفقه الحنفي المُصطبغ بالصبغة المعتزلية.
وظهر التأثر بالطقوس الإسلامية أيضاً في الهيئة التي يؤدي بعا القراؤون صلواتهم، إذ تحتوي العديد من الحركات المشابهة للصلاة الإسلامية مثل الركوع والسجود والجلوس القرفصاء والانحناء يميناً ويساراً والوقوف.
من جهة أخرى، تمنح الأعراف القرائية مكانة متميزة للمرأة، بعكس التقاليد الحاخامية الصارمة التي تقضي بالفصل بين الجنسين في الصلاة، حيث يصلي الرجال إلى جانب النساء في الكنيس القرائي، ولا توجد أي موانع دينية لتوظيف المرأة في السلك الكهنوتي، فبوسعها أن تتقلد الحاخامية أو منصب القاضي الأعلى.
تظهر المساواة بين الجنسين في الطائفة القرائية كذلك في التنظيمات المتعلقة بالزواج والطلاق، تقول نائبة رئيس منظمة القرائين اليهودية العالمية “جميع عهود الزواج لدينا مكتوبة باللغة العبرية، وهي في الواقع اتفاقية متساوية بين الرجل والمرأة. ولهما نفس الحقوق. وإذا لم يتم الوفاء بالاتفاق لأي سبب من الأسباب، يمكنهما (رجلاً امرأة) طلب الطلاق”.
40 ألفاً في إسرائيل
مثّل القراؤون نسبة كبيرة من مجموع الشعب اليهودي في القرون الوسطى، وانتشروا في العديد من الأماكن في أوروبا وآسيا وأفريقيا.
في العصر الحديث، تسبب صدامهم مع اليهودية الحاخامية التقليدية في إنقاذ القرائين من الكثير من حملات الاضطهاد التي شنتها أوروبا ضد اليهود. ففي القرن التاسع عشر الميلادي، حافظ القراؤون على مراكزهم المتميزة في روسيا القيصرية بعدما رفع بعضهم مذكرات رسمية إلى القيصر تفيد باختلافهم الكامل عن الحاخاميين الذين تم تهجيرهم وعزلهم من مناصبهم، وتكرر الأمر بالتزامن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ نجا الكثير منهم من محارق النازية بسبب التشكيك في انتمائهم للدين اليهودي.
حالياً، يصل تعداد القرائين قرابة 50 ألفاً، يعيش عشرة آلاف منهم في الولايات المتحدة الأميركية وشبه جزيرة القرم وتركيا وأستراليا وفرنسا، بينما يعيش 40 ألفاً في إسرائيل، متمركزين في مدينة الرملة حيث “مركز اليهودية القرائية العالمي”، وفي كل من أشدود وبئر السبع والقدس، وتتوزع البقية بين مجموعة من المستوطنات.
تختلف آراء أفراد الطائفة القرائية فيما يخص وضعهم الحالي داخل إسرائيل، فيرى البعض أنهم مواطنون إسرائيليون ويهود أولاً قبل أن يكونوا قرائين. في المقابل، يعتقد آخرون أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
بحسب التقرير الذي نشرته صحيفة “ماكوريشون” العبرية، فإن القرائين يتلقون كل عام ميزانية قدرها حوالي مليون و800 ألف شيكل من وزارة الخدمات الدينية الإسرائيلية، لكن ذلك لاقى اعتراضاً من ماور دباش، عضو الطائفة القرائية، إذ يقول “لا يتم تخصيص ميزانيتنا بشكل عادل، لأن أولئك الذين يقفون على قمة هرم وزارة الخدمات الدينية ليسوا دائماً أشخاصاً يحبون القرائين… الدولة لا تفهم أننا رغم أننا طائفة واحدة، إلا أننا منتشرون في ثلاثة عشر مركزاً في جميع أنحاء البلاد، وكل منطقة تحتاج إلى رسل عموميين ومرتلين وجزارين لتوفير الخدمات الدينية الكافية لأفراد المجتمع”.
“لذلك، لا ينبغي أن تكون الميزانية وفقاً لعدد الأشخاص فحسب، بل وفقاً للوظائف المطلوبة في هذا المجال”، يضيف دباش.
في السياق نفسه، يشتكي أفراد الطائفة القرائية من تهميشهم في الكتب والمناهج التي يتم تدريسها في مراحل التعليم المختلفة داخل إسرائيل.
وأفاد تقرير لجنة “بيتون” الصادر في فبراير 2016 تحت عنوان “تأصيل هوية يهود إسبانيا والشرق في منظومة التعليم الإسرائيلية”، أن “هناك إشارات قليلة جداً إلى اليهودية القرائية في نظام التعليم. في التاريخ في الفصول الدراسية لا يتم التركيز على هذا الموضوع، وفي دروس الكتاب المقدس لا توجد مناقشة للتفسير القرائي…”.