بعد عامين من الشد والجذب، يبدو أن خطة حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا لترحيل طالبي اللجوء غير القانونيين لرواندا، قد بدأت تأخذ أولى خطواتها الجدية للتطبيق على أرض الواقع.
ولاجتياز آخر العراقيل القانونية أمام رئيس الوزراء ريشي سوناك، أقر البرلمان في 23 أبريل/نيسان الماضي قانونا يتيح للحكومة البدء في نقل هؤلاء المهاجرين إلى رواندا.
وبينما سال كثير من الحبر في مناقشة الفوائد المحتملة التي قد تجنيها لندن، لم تُسلط الكثير من الأضواء على دوافع كيغالي للانخراط في هذه الخطة.
لماذا رواندا؟
توجهت أنظار لندن نحو رواندا لامتلاكها تجارب مختلفة في هذا النوع من “الاستضافة”، فوفقا لمرصد الهجرة التابع لجامعة أوكسفورد فإنه في الفترة بين عامي 2013 و2018، تم إرسال نحو 4 آلاف من طالبي اللجوء الإريتريين والإثيوبيين من إسرائيل إلى رواندا وأوغندا في إطار خطة “ترحيل طوعي” سرية.
كما تنخرط رواندا منذ 2019 في برنامج مع المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين والاتحاد الأفريقي لاستقبال اللاجئين وطالبي اللجوء الأفارقة المحتجزين في ليبيا ريثما تتم دراسة ملفاتهم والبحث في تسوية مناسبة لأوضاعهم، بجانب اتفاق مماثل مع الاتحاد الأوروبي يتوقع أن يشمل ما يزيد على 4 آلاف من هؤلاء بحلول عام 2026، كما عرضت كيغالي اللجوء على أفغان فروا من بلادهم عقب تمكن حركة طالبان من استعادة حكم البلاد في صيف 2021.
ويعود تبني بريطانيا هذه السياسة إلى رئيس وزرائها الأسبق بوريس جونسون، إذ تم الإعلان في أبريل/نيسان 2022 أن أي طالب لجوء يدخل المملكة المتحدة “بشكل غير قانوني” من دولة آمنة بعد 1 يناير/كانون الثاني من نفس العام يمكن إرساله إلى رواندا، حيث تتم معالجة طلب لجوئه هناك.
وفي حالة قبول اللجوء فسيُمنح وضع اللاجئ في رواندا، وإن تم رفضه فيمكنه التقدم بطلب للاستقرار فيها أو طلب اللجوء في بلد ثالث آمن دون التمكن من العودة إلى المملكة المتحدة.
وتستهدف لندن من هذه الخطة ردع الراغبين في الوصول إلى أراضيها عبر القوارب الصغيرة القادمة من القناة الإنجليزية، كما أن الحكومة تؤكد أنها ستخفض المبالغ الهائلة المنفقة على هذه الفئة، حيث يكلف نظام اللجوء في المملكة المتحدة ما يقرب من 4 مليارات جنيه إسترليني، بما في ذلك نحو 8 ملايين جنيه إسترليني يوميا على الإقامة في الفنادق.
الإنسانية والنقود
وتروج كيغالي لهذه الخطة باعتبارها جهدا يصب في صالح إبراز التضامن والتعاون الإنساني، حيث صرحت المتحدثة باسم الحكومة الرواندية يولاند ماكولو أن بلادها وقعت الاتفاقية لأنها أعطتها الفرصة “لاتخاذ إجراءات مبتكرة” لحل واحدة من أكبر الأزمات في العالم، معتبرة إياها خطوة نحو معالجة “عادلة ورحيمة” لنظام الهجرة العالمي.
لكن هذا ليس كل شيء، فالاتفاق يوفر تدفقات مالية كبيرة ستصب في رواندا عبر صندوق مخصص لهذا الغرض.
ووفقا لتقرير صادر في مارس/آذار الماضي عن مكتب التدقيق الوطني، وهو هيئة مستقلة منوط بها مراقبة الإنفاق العام في المملكة المتحدة، فإن لندن ستدفع 120 مليون جنيه إسترليني بمجرد إعادة توطين 300 شخص، بجانب 20 ألف جنيه إسترليني لكل فرد يعاد توطينه في رواندا.
كما ستغطي وزارة الداخلية البريطانية تكاليف معالجة اللجوء والتكاليف التشغيلية والتي تزيد على 150 ألف جنيه إسترليني لكل فرد يتم نقله، وإذا قرر أحد هؤلاء الأفراد مغادرة رواندا، فستدفع لندن لحكومة كيغالي مبلغا قدره 10 آلاف جنيه إسترليني لمرة واحدة للمساعدة في تسهيل مغادرته الطوعية.
وبالاعتماد على أرقام وزارة الداخلية البريطانية التي تؤكد وصول 20 ألف مهاجر غير شرعي بين يوليو/تموز وديسمبر/كانون الأول 2023، تذهب تقديرات أجراها معهد “آي بي بي آر” البريطاني إلى أن التكلفة الدقيقة لتطبيق هذه الخطة ستتفاوت في الإجمال بين 1.1 مليار جنيه إسترليني إن قام كل المرحلين بالمغادرة فور وصولهم إلى رواندا، و3.9 مليارات إن استقروا جميعا لمدة 5 سنوات على الأقل، متوقعا تصاعد هذه القيمة مع زيادة الأعداد الوافدة على بريطانيا منذ بداية العام الحالي.
وفي مشهد عالمي، يبدو تصاعد أزمة الهجرة غير القانونية أحد أهم مظاهره، فإن الصفقة البريطانية الرواندية ستمثل عاملا محفزا للعديد من الحكومات لاحتذائها، مما يعني تدفق المزيد من الأموال إلى الدولة الواقعة في شرقي أفريقيا.
استثمار في المستقبل
ويتسم الجانب الاقتصادي المرتبط بالاتفاقية بأهمية بالغة بالنسبة لكيغالي، كما يرى الكثير من المراقبين، وهو ما عبر عنه المسؤول الكبير السابق في مجلس العموم البريطاني إيلوت ويلسون في مقال له بأن رواندا ستكون “سعيدة بتلقي مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية من بريطانيا في صندوق التحول الاقتصادي والتكامل”.
في هذا السياق ستضخ المملكة المتحدة 370 مليون جنيه إسترليني على الأقل في صندوق التحول الاقتصادي والتكامل المصمم لدعم النمو الاقتصادي في رواندا، حيث بدأت الدفعات في التدفق بالفعل على الخزينة الرواندية إذ دفعت الحكومة البريطانية 240 مليون جنيه إسترليني حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول من عام 2023.
ويذهب بعض الباحثين إلى أن هذا الاتفاق قادر على فتح الباب لفرص اقتصادية جديدة في رواندا، سواء من خلال مشاركة اللاجئين في سوق العمل المحلية أو عبر تطوير مشاريع ريادية وأعمال حرة، كما أن توفير الدعم والموارد للاجئين سيسهم في تعزيز التنمية المجتمعية في المناطق التي سيستقرون بها، وذلك من خلال مساهمتهم في الخدمات والبرامج المجتمعية.
الموافقة الرواندية على استقبال اللاجئين يصفها المدير المساعد للأبحاث في البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير جيراي أكسوي بأنها “استثمار في المستقبل”، حيث تُظهر العديد من الدراسات أن اللاجئين يبدؤون أعمالا جديدة، ويساعدون في إقامة روابط دولية، وتعزيز الابتكار، وبالتالي المساهمة في ازدهار بلدانهم الجديدة.
مكاسب سياسية ودبلوماسية
وتسهم هذه الصفقة في تعزيز دور رواندا كقوة قادرة على المساهمة الفاعلة في إيجاد “الدواء الناجع” لبعض الملفات التي تشكل صداعا مستمرا لصناع السياسة في المنظومة الغربية، وعلى رأسها الهجرة غير القانونية.
والاتفاقية البريطانية الرواندية ليست الخطوة الأولى في محاولات كيغالي لوضع نفسها كحليف للغرب لا يمكن الاستغناء عنه، فقد سبق لها أن نشرت قواتها في موزمبيق عام 2021 حيث نجحت في طرد مقاتلين متمردين من بلدتين حيويتين لمشروع شركة الطاقة الفرنسية العملاقة توتال، ما عزاه البعض جزئيا إلى الاتصالات الممتازة بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الرواندي بول كاغامي على إثر المصالحة بين بلديهما.
ومن خلال هذا الدور تأمل كيغالي في الحصول على دعم غربي لطموحاتها في توسيع نفوذها الإقليمي والقاري، الذي برز في السنوات الأخيرة عبر اتباعها الدبلوماسية الأمنية وتنشيط جهودها في مختلف مهام حفظ السلام وتوفير الأمن، حيث تمثل رابع أكبر مساهم في بعثات حفظ السلام الأممية.
ومن جهة أخرى، يحدو كيغالي الأمل أن تؤدي هذه الخطوات إلى تخفيف الضغوط الغربية عليها والمرتبطة بتدخلها في شرق الكونغو الديمقراطية عبر مساندة مجموعة “إم 23” المتمردة، المتهمة بارتكاب فظائع واسعة النطاق، بما في ذلك الذبح التعسفي للمدنيين والاغتصاب الجماعي، وهو الدعم الذي كررت رواندا نفيها له.
وفي هذا الأمر، تقول المتحدثة باسم حكومة رواندا يولاند ماكولو، في مقابلة خاصة للجزيرة نت، إن “على حدودنا هناك أكثر من 200 مجموعة مسلحة غير قانونية في الكونغو الديمقراطية يسيطرون على المنطقة منذ عقود، وأن الصراع النشط في المناطق المتاخمة لحدودنا يشكل تحديا أمنيا كبيرا بالنسبة لنا”.
وبالإضافة إلى التهديد الأمني، تضيف ماكولو “هناك أيضا تهديد لوحدتنا وتقدمنا، لذلك سنفعل كل ما في وسعنا لضمان عدم انتقال هذه التحديات إلى رواندا مهما كلف الأمر.. نسعى جاهدين كي لا ينتقل إلينا الوضع المتردي في الكونغو الديمقراطية والانقسام العرقي ويتحول لتهديد داخلي”.
وفي حديثها عن المجموعة “إم 23” ترى المتحدثه أن لديهم قضيتهم التي يقاتلون من أجلها، فيقولون إنهم يقاتلون لحماية مجتمعهم لأن مجتمعاتهم تتعرض للهجمات.
وكان من الملاحظ أنه منذ توقيع الاتفاقية البريطانية الرواندية ربيع عام 2022، تجنبت لندن توجيه أصبع الاتهام بشكل مباشر إلى كيغالي في ما يتعلق بالانتهاكات في شرق الكونغو الديمقراطية، على خلاف العديد من حلفائها الغربيين كفرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة.
تحسين الصورة
ويذهب الزعيم العمالي السابق جيرمي كوربين في مقال له إلى تفسير الموقف البريطاني بأن اعتراف لندن بهذه الانتهاكات من شأنه أن يفضح عدم شرعية سياستها بترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا.
وشهدت الاتفاقية البريطانية الرواندية العديد من العراقيل، حيث قضت المحكمة البريطانية العليا بالإجماع في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بعدم قانونيتها مستندة في حكمها إلى عدد من الحيثيات ارتبط بعضها بسجل حقوق الإنسان في رواندا، قبل أن يتم تجاوز هذه العقبة من خلال توقيع اتفاقية معدلة مع كيغالي أواخر عام 2023، وإتباع ذلك بقانون أقره البرلمان البريطاني يصنف رواندا باعتبارها بلدا آمنا للاجئين.
وتتهم العديد من المنظمات الحقوقية كيغالي بالقيام بممارسات تعسفية تستهدف المعارضين والمنتقدين، بما يتضمن الاعتقال التعسفي والتغييب القسري وسوء المعاملة في مرافق الاحتجاز، واستهداف الروانديين اللاجئين في الخارج بالتهديد أو القتل.
وفي حديثها عن مشكلة اللاجئين في رواندا، تقول ماكولو “لدينا أكثر من 130 ألف لاجئ، بعضهم يعيش هنا منذ أكثر من 25 عاما، رواندا ومواطنوها اعتادوا على استضافة اللاجئين والمهاجرين، ونعتبر أن ذلك واجب عالمي في الحقيقة، ويمكن وصف دولتنا بأنها من الدول التي لا تلمس فيها أي عدائية تجاه اللاجئين، لا سيما أننا نفهم ما الذي يعنيه أن يضطر الإنسان إلى الفرار هربا من الاضطهاد”.
وفي هذا الإطار، يرى بعض المراقبين أن رواندا ترمي من خلال اتفاقها مع بريطانيا إلى الحصول على مساندة من الأخيرة للتأثير إيجابا في تحسين صورتها الدولية، والتخفيف من الانتقادات الموجهة لسجلها في التعاطي مع حقوق الإنسان، ولا سيما تجاه المعارضين، والفارين خارج البلاد.