انتظرت طويلا، على أمل أن يخص أحد الكتاب الكرد، الذين كانوا على صداقة وصلة ووصال مع المرحوم، بكتاب أو مقال على أقل تقدير، ولكن لم ينصفه أحد.
لذا قررت أن أنقل لكم، بامكانياتي اللغوية المحدودة، لمحة مختصرة جدا، عن سيرته الذاتية، والتأثير المباشر الذي تركه، على المجتمع الكردي، ثقافياً واجتماعيا وسياسيا. في يوم ميلاده 15/5/2014.
هو الابن البكر للمرحوم الحاج محمد عباس، الذي وضع التعليم من أولويات حياته، فحمل الراحل صبري الراية وكان أهلا لها بكل جدارة، لقد استطاع أن يجعل التعليم والمعرفة هاجس أغلب العوائل الكردية، بفضل تواصله الشخصي مع المتعلمين في المجتمع الكردي، من ديريك في أقصى الشرق، لغاية عفرين في أقصى الغرب، فكانوا نوابا عن حركة ثقافية تنويرية حقيقية، لمجتمع يرسخ تحت وطأة الجهل وطغيان التخلف، وقد بان تأثيرهم بشكل فعليّ على الأجيال اللاحقة، التي تنافست أفرادها على درجات التحصيل العلمي، وأضحى الكرد قدوة ورموزاً للعلوم، بالنسبة لباقي أطياف المجتمع في المنطقة الكردية، بل وتفوقوا علميا على باقي أجزاء كردستان.
لم يكن التعليم هو جل اهتمامه، بل أعار اهتمامه إلى الجانب الاجتماعي أيضا، ووطد العلاقات الاجتماعية بين العوائل والعشائر بمختلف المناطق، فكانوا على انسجام ووحدة حال، منقطعة النظير في تلك الفترة. تقدم للكلية الحربية بدمشق، ورغم اجتيازه بنجاح كافة الفحوصات والشروط المطلوبة، رفض طلبه أمنيا، ليفقد بذلك حلمه بأن يكون طيارا حربيا، بل وكان سببا لملاحقته لاحقا وسجنه.
معركته الكبرى كانت مع السياسة والساسة الكرد في ذلك الحين، فلم يكن مقتنعا بالنهج الذي كان ينتهجه الأحزاب الكردية، والمطالب الهزيلة المحصورة بحقوق المواطنة، بل كان يرى في ذلك قضاء على الحلم الكردي، وموت بطيء للشعور القومي، واضمحلال للحس الوطني على المدى البعيد، وهو ما نحن عليه الآن فعلا.
بعد أن سدت أبواب الإصلاح بوجهه، عن طريق (جبهة المعارضة والذي كان يترأسها المرحوم كنعان عكيد آغا) واقتناعه تماما بأن الحزب لن يعود إلى سابق عهده موحدا، وأصبح مخترقا، بما فيهم الحزب الشيوعي، توجه لتشكيل حزب ينادي بحق تقرير المصير، كحق شرعي لشعب يعيش على أرضه التاريخية، ولكن وبالرغم من السرية التامة، والنخبة المخلصة، تم الإيقاع بهم بفترة قصيرة من تشكيل حزب (روژا كرد) ليجد نفسه في غياهب السجون، يواجه تهمة الخيانة العظمى، على خلفية تشكيل حزب انفصالي، وتهمة التخطيط لانقلاب عسكري، على خلفية التقدم للكلية الحربية.
استنفرت أهالي الجزيرة كردا وعربا لإنقاذه، فاقل عقوبة كانت تنتظره آنذاك هي الإعدام، لحسن الحظ تمكنوا من تهريبه لخارج الحدود، ليستقر به المطاف بأنقرة.
بعيدا عن الوطن، لم يكن أمامه خيارات كثيرة هناك، فتفرغ لدراسة الحقوق، قسم القانون الدولي، على أمل أن يدافع يوما ما عن قضية أمته بالمحافل الدولية، قبل وبعد تخرجه تعرض لمضايقات وتحقيق وتعذيب، من قبل الميت التركي، تفوق بكثير مما تعرض له في السجون السورية، فاضطر على مغادرة تركيا، واستقر به المقام في بلجيكا، وتفرغ للكتابة هناك.
بعض من مجاله الثوري في أنقرة:
في فترة إقامته هناك في أنقرة استطاع أن يلم حوله طيف واسع من طلبة كلية الحقوق وكلية العلوم السياسة وغيرها من الكليات النظرية في جامعتها، وكان يحض هذا الطيف على الخروج بمظاهرات مناوئة للاستعمار، مناديا بتحرير الشعوب وبحق تقرير مصيرها بنفسها. في العديد من المناسبات التي كانت الشعوب تثور في العديد من بقاع الأرض لاسترداد حقوقها من الدول المحتلة لها، كان يحفز هؤلاء للتظاهر دعما للثائرين الرازحين تحت الاحتلال، ولم يقتصر هذا على أنقرة فحسب، بل كانت جامعات إسطنبول، وإزمير من أوائل من يستجبن لها. كان، رحمه الله، مؤثرا قويا على هذا الطيف من الطلبة، حينها أحس الأمن التركي بخطورة وجوده هناك فاتخذ بالمضايقات عليه، لولا صعود الطيف المعادي للهيمنة الاستعمارية في أروقة الدولة في تركيا وقتها لكان مصيره مجهولا، حتى اللحظة، وبفضل هذا الصعود الناشئ والذي قُضيَ عليه بانقلابين عسكريين في تركيا حينها، اضطر أن يغادرها مرغما تاركا خلفه ماضٍ مليء بالنضال من أجل حرية الشعوب المضطَهدة.
أما على صعيد القضية الكردية فكان له باع طويل؛ حيث التم حوله لفيف من طلبة الكرد، وكانوا يعدّون أنفسهم لمستقبل يضمن تحقيق ما يصبوا إليه الحراك الكردي ليس في هذا الجزء فحسب، بل في بقية الأجزاء. فكان أداؤه ممنهجا بدقة بالغة؛ ولمنهجيته ودقته فيها فأبدى، رحمه، تأثيرا كبيرا على فكر وحركة هؤلاء الطلبة لنيل الشعب الكردي في هذا الجزء ما يمكن نيله من حقوقه. كان، رحمه، حذرا في هذه الناحية، وكان يأخذ بجميع أسباب الحذر كي لا يقع هو والملتفين حوله في شرك الأمن التركي. وبعمل مدروس حرك القضية الكردية هناك بشكل لا يعطي مبررا للأمن من استغلال هذه الناحية لزجه ومن التم حوله في السجون، وعمل ذلك ببراعة عندما ألقى هذه المهمة على أعتاق طلبة الأتراك من مشاركيه في الفكر والعمل، هكذا استطاع أن يعلو بالأصوات المنادية بالحرية للكرد باللغة الكردية؛ لكن بأداء تركي لعبارة “ز كوردا ره آزادي”. هكذا قضى المرحوم أيامه الدراسية في أنقرة متابعا ومشاركا في تحقيق ما يمكن تحقيقه لقضيته الكردية، علاوة على مناصرة الشعوب المظلومة.
كان له رغبة شديدة لزيارة مسقط راسه، وتمّ التخطيط لذلك هذا الصيف، ولكن وافته المنيّة، وانتقل لجوار ربه يوم الجمعة ١٧ تشرين الثاني لعام ٢٠٢٣.
ناضل بصمت ورحل بصمت، حتى اللحظة الأخيرة كان على يقين بأن كردستان قادمة.