اللغة تحمل دوما سمات التراث وكنت قد تناولت في مادة سابقة السياسة الثقافية من منطلق الفكر القومي مقارنة بالفكر الوطني والمؤسساتي وسأحاول في كتابتي هذا التطرق الى اللغة وخط الكتابة والعلاقة بين تأسيس الدول والكيانات السياسية الوطنية. الوطنية لاحقة محبوبة لقلوب الكتلة الواسعة من عموم الشعب لما فيه من تجرد وسعة في المنظور العام لشعور المواطن العادي بالانتماء الى جغرافية سياسية معينة. منطلقا مرة اخرى من دولة العراق، تلك الواحة الثقافية التعددية البديعة، بلغاتها المتعددة ولهجاتها البديعة هنا نجد ان للهجة طعم جديدا في البصرة والموصل والعمارة وطبعا اللهجة البغدادية ثم نرى لهجات اللغة الكردية والتركمانية والسريانية. العراق متحف الثقافات وملتقى الحضارات والأمم. سأحاول طرح الموضوع منطلقا من المجتمع العراقي لما في كلمة “العراق” الجغرافية محتوى شامل تنصهر في بوتقته كافة ابناء النسيج السكاني العراقي من قوميات وعقائد واتجاهات فكرية اجتماعية، ادبية، سياسية ودينية انتجتها حوار حضاري انساني سلمي مستمر على ثراه منذ الألف السنين. الشعوب تغير ديناميكيا هذا التغير اما يكون زمانيا أي تتغير اللغات واللهجات وتموت. كلمات تزول بينما تظهر كلمات جديدة أخرى. أي اللغة مثل الكائنات الحية لها دورة حياة.
هذا شمل خط الكتابة كذلك أي ان لغة ما قد يكون كتبت بخط غير ما هو عليه الان كاللغة التركية الحديثة مثلا. تتغير لغات الشعوب اثر دخولها دين جديد كالمستعربين من الشعوب الإسلامية وحتى مسيحيي الشرق المتحدثين بالعربية. الاحتلال عامل اخر من عوامل تغير اللغة وهذا نراه اليوم في الدول التي نست لغاتها الوطنية وتستعمل لغة المستعمر خاصة في القارة الامريكية من الإنكليزية والفرنسية والاسبانية. الهجرات الكبيرة تؤدي أيضا الى تغير اللغات وكذلك الحروب لذا نرى مثلا لغات غريبة عن بيئتها ك الرومانية الهنغارية الفنلندية ولغات أخرى في اوربا. كما ان هيمنة قوم ما على السلطة والحكم تغير لغات الناس ان كان تقربا بلغة الحاكم او بالقوة. كذلك نرى ان الكيانات السياسية قد تفرض لهجة معينة وتحولها الى اللغة الرسمية للدولة بهدف توحيد اللهجات وتسهيل التواصل بين أبناء الوطن الواحد كتوحيد اللغة الألمانية وانتخاب لهجة اللغة الفرنسية. يبقى ان نعلم ان لغة النص المقدس الأكثر تأثيرا على الناس في جميع الأديان حيث استخدمت حصرا لرجال الدين في العصور القديمة. نرى كذلك ان هناك عقائد منعت أبنائها من القراءة والكتابة كي تبقى اللغة المقدسة حصرا بيد رجال الدين كما كانت عليها في حضارات العراق القديم. هذا نرى ان معظم الأديان تستخدم اللغة كأساس للتعبد.
العراق ومنذ تأسيسه كدولة حديثة بعد الحرب العالمية الأولى وتكوين كيان سياسي اعتمد مبدأ التعددي في التكوين فكانت تسمية الدولة ب” الدولة العراقية ” جامعة وشاملة بالقياس مع بعض الدول الحديثة التي الحقت باسمها كلمة “العربية” حتى بعد الجمهورية وابان سيطرة الأحزاب القومية السلبية على سدة الحكم. لا ريب ان مجمل تشكيلات البرلمان الوزارات في الحكومات العراقية في العهد الملكي منذ تأسيسها كانت تعكس تركيبة المجتمع العراقي واتجاهاته المختلفة اذا استثنينا الخط الفكري الماركسي اليساري الذي استثني وابعد عن المشاركة في الحكومات المتتالية ابان العهد الملكية حيث كان الحزب محذورا. رغم وجودها الفعال بين ابناء العراق. هذا الحزب انتشر مع نهايات الحرب العالمية الاولى خاصة في مناطق التماس مع الجيش السوفيتي على خط الحدود العراقية الايرانية حيث مدينة خانقين وانتشر الفكر اليساري في كوردستان انطلاقا من المدن الكوردستانية في ايران الى مدينة السليمانية و حلبجه متجها الى الغرب حيث مدينة اربيل وفي الجنوب العراقي كان للفكر اليساري الاثر الاعظم في توجهات الثقافية لابناء الجنوب المحافظ والمتدين حيث نرى ان الجغرافية الفكرية اليسارية انتشرت في مدن كالناصرية والعمارة وحتى العتبات المقدسة في كوفة، كربلاء والنجف. بقى ان نعلم بان التوركمان لم يتاثروا بالفكر اليساري بصورة عامة وبقوا محافظين على فكرهم المحافظ والتقرب من الفكر العثماني وبالبعض منهم توجه الى فكر التجديد “الكمالية” الذي حمله مصطفى كمال المعروف بكنيته “اتاتورك” والقسم الاخر تبنى الفكر القومي السلبي المسماة “الطورنية” نسبة لبحيرة طوران في أواسط اسيا حيث الموطن الأصلي للعرق التركي. اما في إقليم كوردستان ففي مناطق بهدينان فكان التوجه الفكري القومي الكوردي اكثر انتشارا وبقى الفكر اليساري منحصرا بين ابناء الطائفة الايزيدية على الاكثر في حين كانت في منطقة كرميان منحصرا بالطائفة الكاكائية المتصوفة والمثقفين من الكورد والتوركمان.
ان اتجاهات الفكرية والسياسية لابناء الدين المسيحي بكل طوائفه انقسمت بين كل تلك الافكار وباتت حاضرة بين معظم الاحزاب السياسية من يسارها الى يمينها حيث يفتخر الحزب الشيوعي العراق بمؤسسه الشهيد يوسف سلمان “فهد”. كان لمؤسسي الفكر القومي من المسيحيين خاصة في سوريا ولبنان الاثر الاعظم في اتجاه مسيحيي العراق الى الفكر القومي العربي والاشتراكي الذي حاول جاهدا ربط اللغات السامية عموما بالقومية العربية وبذلك اصبحت شعوب العراق القديم جزء من “الامة العربية” بمساعدة من آثاريين عراقيين حاولوا جاهدا الخلط بين اللغة والقومية “انظر الى توجهات الاستاذ احمد سوسة في العراق” متناسين بان فقط المسيحين يتحدثون بالسريانية، الكلمة استخدمت للدلالة على جميع اللهجات، ولذا أرى بان اللغة ليس الا لغة دين كما عليها اللاتينية في الغرب والتي اندثرت وماتت وبقت فقط في النصوص المقدسة واليوم لا يوجد الكثيرين مما يجيدون هذه اللغة. ولا اعتقد بوجود علاقة لها بلغة الشعوب العراقية القديمة ك الاشوريين والسومرين والاكدين واهل بابل ولا حتى ب الحضارة الحثية في الأناضول وهذه الشعوب لم تكن مسيحية لان وببساطة هذه الحضارات جاءت قبل ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام بألاف السنين. التاريخ يخبرنا بوجود اليهود في العراق القديم حيث تم سبيهم مرتين من ديارهم في فلسطين. لا ريب ان اللغة السريانية المستخدمة فقط من قبل مسيحي الشرق لها جذورها في الآرامية الشرقية.
اما الف باء الكتابة او الخط فذلك موضوع اخر ليس له علاقة باللغة أي ان لغة أي شعب يمكن كتابتها باي و الف باء. لا يجوز الخلط بين الخط الذي يكتب به لغة ما وأصول الاثني لتك الأقوام والشعوب وكما اسلفت بالإمكان استخدام الخطوط لكتابة أي لغة ولأي شعب. الخط المسماري القديم استخدم في الشرق بصورة عامة من قبل جميع شعوبها دون استثناء.
رموز الكتابة الصورية الفرعونية
تطور الخط من كتابة صورية ومسمارية الى مجرد خطوط ونقاط ويعود الفضل الى الفينيقيين في اكتشاف الكتابة اللاتينية الحديثة المستخدمة في معظم لغات الغرب. كما ان الكتابة العثمانية أي الخط كانت بالأبجدية وتغيرت الى الخط اللاتيني بعد إعلان مصطفى كمال أتاتورك النظام الجمهوري اثر انهيار الدولة العثمانية عام 1922 مما أدى الى صعوبة فهم الجيل الجديد للنصوص القديمة رغم ان بعض الكتب قد ترجمت كتابة الى الاحرف اللاتينية. وكما هو معروف ان نصوص القران العربية انزلت شفويا على رسولنا الكريم وبلهجة قريش وليس مكتوبا لذا كان هناك كتبة للقران الكريم وحفظة. ويذكر التراث الإسلامي ان للقران قراءات متعددة نظرا لان المسلمين جميع لم يفهموا اللهجة القريشية آنذاك. يعزى جمع الآيات في قران متكامل الى الخليفة عثمان ابن عفان رضي الله عنه وكتب باستخدام الخط الارامي ان كانت من النصوص العبرية في التوراة أو الآرامية من الانجيل حورت تلك الحروف فيما بعد وكونت الأساس للكتابة الكوفية الغير منقطة والغير مشددة التي أضيفت اليها لاحقا في العهد العباسي. اما ما نشاهده اليوم هو كتابة للقرآن وما يسمى بالخط العثماني ويعزى التسمية الى احد الخطاطين وكان يسمى عثمان وهو الأكثر رواجا بين المسلمين اليوم رغم وجود كتابات بخطوط أخرى واعتقد ان هناك قران في السودان لا يزال يكتب بخط اليد واعتقد انه يسمى ب “سعفان” ومن المعروف تاثر الكتابة العربية الحالية بمعظم اشكال خطوطها بالخط الفارسي و الهندي السنسكريتي في كتابة الخط العربي. اليوم نرى الشباب يتواصلون على شبكة الإنترنت باستخدام الاحرف اللاتينية للكتابة العربية، الفارسية والكردية وريما لغات أخرى ك اليابانية والصينية كذلك.
كتابة كوفية غير منقطة من الأندلس
لا ريب ان مهد الديانة المسيحية تقع في فلسطين وتاريخيا انتشرت الى اقصاع الدنيا كدين ولا توجد هناك لغة مسيحية مقدسة كما هي عليها في اليهودية والإسلام. اذ كان الناس يتحدثون بالعبرية في عهد ظهور المسيح وان كانت هناك لغة رسمية فقد كانت لغة المحتل الروماني آنذاك. أي ان العبادات المسيحية يمكن اجرائها باي لغة كانت. الا انه ومن فلسطين اتجه احد الحواريين الاثنا عشر الى الجنوب الى سيناء مصر حيث اقدم الاديرة والكنائس “المرقصية” نسبة الى اسم الحواري مرقص. حيث بدا انتشار المسيحية بين أقباط مصر. لكن كدين وليس كلغة. هؤلاء الذين يعتبرون انفسهم ولحد يومنا هذا الأقرب تعاليما إلى تعاليم سيدنا المسيح ولم يجري عليها ما جرى عند انتشار المسيحية فيما بعد في الغرب. انتشر الدين المسيحي في الجزرة العربية و افريقيا كذلك حيث كانت هناك طوائف يهودية قد سبقت المسيحين في الانتشار في الجزيرة واثيوبيا . لا توجد للديانتين أي اثر في الوقت الحاضر في الجزيرة العربية. بينما اتجه حواريون اخرون شمالا الى انطاكية وقبرص وصولا الى القسطنطينية و روما حيث يعتقد ان القديس بطرس نشرها ولاحقا انتشرت نور الديانة المسيحية في كافة انحاء أوربا و العالم بعد اكثر من نصف دهر على بزوغها في بيت لحم في القارة الأوربية ومن ثم في معظم انحاء العالم. اتجه الفكر المسيحي في أوائل السنوات الى سوريا الحالية والى الأناضول حيث الكنائس في مدن تركيا الحالية في مدن مثل حكاري ونصيبين و ماردين ، طور عابدين ومدن أخرى كثيرة دليل عل انتشار المسيحية في هذه المناطق ومن ثم انتشارها جنوبا الى العراق ومعظم الكتابات الدينية والاشعار التي وصلتنا بالآرامية وتعود الى شعراء وعلماء دين من هذه المنطقة. وللمزيد حول هجرات المسيحيين الطوعية والقصرية انظر الى كتاب العراق الشمالي لمؤلفه الاستاذ شاكر خصباك.
وهناك اساطير كثيرة حول الموضوع وكيف وصل اول صورة لسيدنا المسيح الى المنطقة والتي تعتبر اصل جميع ايقونات الكنائس القديمة التي صورت المسيح في جميع الكنائس رغم ان الصورة تغيرت لاحقا و لست بصددها ها هنا. وهناك انتشار مسيحي بين الأرمن كذلك وطبعا بين الروم حيث كانت انطاكيا والقسطنطينية حاليا استانبول من اهم الحواضر المسيحية لمئات السنين. بقت المسيحية ديانة للرهبان والناسكين سنوات طويلة وبقى النص الديني المقدس يكتب ويرتل بالارامية القديمة لغة سيدنا المسيح وبعيدة عن لغة العامة. الا انه يعتقد بان اللغة لا تزال حية يتحدث بها بعض مسيحيي تركيا في جنوب شرق البلاد بينما احتفظ الأرمن بلغتهم ولحد يومنا هذا وزيارة الى كهوف ومغاور الشعوب الاناضولية القديمة وجبال كوردستان حيث الاديرة والكنائس خير دليل على ذلك. نرى كذلك انتشار مسيحي في الشرق في الحدود المتاخمة لدولة سوريا الحالية حيث انتشرت الديانة المسيحية وقصة الملك النعمان بن المنذر واعتناقه للمسيحية ومن ثم الغدر به وقتله من قبل كسرى معروفة. لذا نرى ان الحفريات الاثارية في المنطقة تدل على وجود اثار للأديرة وكنائس حتى في المناطق المحاذية لمدينة المقدسة “نجف الاشرف”. لا ريب لا يمكننا الحديث عن وجود اللغة الارامية بين ابناء الشعوب الاناضولية القديمة قبل الميلاد او حتى شعوب وادي الرافدين القديمة. ثم جاء السلاجقة فأسسوا دولتهم في المنطقة على اسس دينية بحته كمثيلتها التركية العثمانية المغولية الاصل. هنا يجب التأكيد على حقيقة مفادها ان الدين المسيحي لم ينتشر كلغة بل بقى النص المقدس يترجم الى لغات الشعوب التي دخلت المسيحية وهذا عكس ما نشاهده في انتشار الإسلام واللغة العربية المتلازمين حيث النص القرآني العربي المقدس لا يترجم.
الصورة من الانترنت
هذا الارث الثقافي الديني واللغوي الغني في منطقة ما يسمى ب “الهلال الخصيب” استغل من قبل الفكر القومي العربي السلبي في بلورة “رسالة خالدة” انيط منحصرا للعرب فقط بحيث اصبح الغير عربي في المنطقة مضطرا الانشاد بمفاخر الامة العربية والادعاء بالانتماء الى القومية العربية لا لشيء وانما لكونه منتميا ثقافيا إلى لغة تلك الامة أي انه يعيش في وطنه الأصلي لكن يجيد التحدث بلغة العرب.
وكان مقولة :
“كل من تكلم العربية، عربي”.
سائدة في أجواء المد القومي العربي. هنا يجدر الإشارة الى ان مؤسس البعث ميشيل عفلق مسيحي رغم ما اشيع لاحقا باعتناقه الإسلام وتسمية ابنه ب محمد وكذلك نرى بان رجال الحزب في القيادة كانوا مسيحيين، شبلي شميل، شبلي العيسمي ، الياس فرح وفي لبنان، أنطوان سعادة، وهو أي عفلق طبعا متاثر بافكار الفاشية الإيطالية وقد نسخ أفكارهم بالكامل وترجمتها الى العربية وكنت قد كتبت عن الموضوع بإسهاب في مادة سابقة . لكن حين وصلت الفكرة الى العراق كان العرب بالدرجة الأولى ومن كافة الطوائف يسعون لحمل فكرها القومي.
اللغة الدينية المقدسة أي النصوص في لغة القران الكريم انتشرت بين امم لم تعرف العربية قط مع انتشار الاسلام في اسيا وشمال افريقيا. هذا ما نشاهده اليوم في اكثر الدول الإسلامية الغير مستعربة “هناك مصطلحات يطلق على المتحدثين بالعربية وهما عرب العاربة والعرب المستعربة” . اما شعوب دول ك تركيا و ايران وبعض الدول الافريقية بقت محافظة على لغاتها القومية كذلك دول أخرى مثل باكستان وأفغانستان وبنغلادش ماليزيا والفلبين و بوسنيا وجميع مسلمي الشرق الأدنى وحتى مسلمي الصين و روسيا ودول بحر قزوين ودول اسيا الأخرى. اما دول شمال افريقيا فأنها استعربت تماما وتعد العربية ثقافتها الاصلية اليوم. لكن الجدير بالذكر ان الامبراطورية العثمانية كمثيلتها الفارسية لم تكن ثقافية بمعنى الكلمة حيث لم تتمكن من نشر اللغة التركية حتى في تركيا الحالية أو في ايران حيث ملايين الاكراد والعرب والسريان والارمن والشركس و الارناؤوط والاظ يتحدثون بلغاتهم القومية في تلك الدولتين لحد يومنا هذا. الا ان انتداب الاستعماري للدول الإسلامية بعد انهيار الدولة العثمانية نشر المستعمر لغاتها بين تلك الدول وكان اشدها وطئه في دول المغرب العربي حيث الفرنسية والإيطالية لغت المستعمر تلك الدول كانت تتحدث بلغاتها من امازيغية وبربرية ولغات أخرى اندثرت واذا عدنا إلى التاريخ نرى بان الساسانيين لم ينشروا الفارسية ولم تكن الدولة السلجوقية كذلك قومية بل كانت تتسامح كذلك حتى مع جميع الاديان من مسيحية وبوذية والدليل وجود اثار في كهوف اناضول تجمع رفاة مسيحيين بجانب المسلمين والبوذيين المغول القادمين من اواسط اسيا. اما جبل نمرود، في تركيا الحالية، فعلى قمتها تماثيل للالهة الغربية اليونانية يواجه الشرق والآلهة شرقية تواجه الغرب. في حين نرى ان الاستعمار الفرنسي كان الاكثر ثقافيا حيث تحول جذري للغة شعوب عديدة في افريقا الى اللغة الفرنسية وقد اضمحل لغاتهم الوطنية لحد يومنا هذا. كانت الانكليزية لغة رسمية في الهند ابان 150 عاما من الانتداب البريطاني ولا تزال اللغة منتشرة في الهند وبنغلاديش وباكستان وتحول دول ك استراليا وكندا، جزئيا، وحتى الولايات المتحدة الى دول ناطقة باللغة الانكليزية اثر سيطرة العنصر الانكلو- ساكسوني مقاليد الحكم في تلك البلاد وانزواء اللغات القومية لشعوبها الاصلية وتهميشها الى درجة اختفائها تماما. كما كانت للغة الاسبانية الاثر الاعظم في زوال لغات شعوب القارة الامريكية الجنوبية ولا يزال اكثر من نصف مليار يتحدثون بها رغم انها لغة المحتل. لكن اثر اللغة العربية لا تزال باقية في المفردات والنطق والحروف اللغة الإسبانية وجدران قصور الأندلس تزينها نصوص من القران واشعار عربية و مقولة ” ولا غالب الا الله ” .
ان سيطرة لغة الحاكم ليس غريبا فنحن غيرنا لغاتنا عبر التاريخ واختفت لغات كالسومرية والاشورية واللغة الفرعونية ولغات حضارة السودان واثيوبيا ولغات اخرى كثيرة تماما بينما بقت نصوصها شاهدا عليها محفورة على الصخر والرخام والفخار ناهيك ان هناك مفردات من تلك اللغات لا تزال تستخدم في لهجات محلية او على شكل مفردات في اللغة المحكية. هناك مئات اللغات التي اندثرت تماما ولا نجد لها اثرا فمثلا في رومانيا يتحدثون لغة غريبة على المحيط السلافي حيث تحيط رومانيا دولا تتحدث لغات تنتمي الى العائلة السلافية ولكن الرومانية تنتمي الى اللاتينية وهي الاقرب الى اللغة التي كان الرومان يتحدثون بها في روما. طبعا هناك تفسيرات تاريخية لتحول شعب رومانيا الى اللغة الرومانية وهجر لغاتها الام الداجية مثلا. ان ما احاول طرحه هو عدم ارتباط اللغة المتداولة لشعب ما مع اصولها الاثنية والعرقية وارتباط اللغة بلغة الكيان السياسي الحاكم أو النص الديني المقدس او اللغة الثقافية السائدة راجع مادتنا حول اللغة الثقافية في مدينة كركوك.
مما سبق يمكن الاستنتاج بان اللغة مكتسبة والاوطان تغيرت لغات شعوبها ولكن الوطن كجغرافية ثابتة يبقى وطنا. بينما نرى ان شعوب هاجرت اوطانها واليوم يستوطنون أوان احتلوها وربما بات شعوبها الاصلية اقلية مضطهدة. ناهيك عن الهجرات الكبيرة عن طريق الحروب أو الازمات الاقتصادية أدت الى انتشار الشعوب بعيدا عن موطنهم الأصلي أي ان ليس كل متحدث بالعربية عربي النسب وليس كل من تحدث التركية تركي وكذلك ليس كل ن تحدث الاسبانية اسبانيا لذا نرى ان شعوب القارة الامريكية المتحدثين بالإسبانية ينعتون انفسهم بأسماء أوطانهم كقولنا مكسيكي، شيلي، ارجنتيني، كوبي اما برازيل فتحدث البرتغالية وهي كذلك لغة المستعمر.
هناك عدد كبير من الشعراء والادباء الذين يكتبون بلغات ليست بلغة امهم الأصلية بل تعلموها لاحقا في المدارس وفي البيئة والمجتمع. هذا ينطبق على ثقافات معظم دول العالم ولا ريب ان اصول الاثنية للكاتب ليس له أي علاقة بإجادته احدى اللغات. هذا الاتجاه أي كون الكاتب لا ينتمي الى اللغة التي يكتب بها محور من محاور التناقض لدن القوميين المتعصبين لقومهم ولغتهم. انظر مثلا ادباء العراق من أمثال نسيمي، فضولي، الزهاوي ، الرصافي ، عبد الرزاق عبد الواحد، لميعه عباس عماره،، بلند الحيدري ،زهدي الداوودي ، حسين مردان، سركون بولص ، صلاح فائق ، جان دمو وعبد الطيف بندر اوغلو وحتى البياتي الذي ينتمي الى عشيرة بيات المغولية ومئات الاخرون. ناهيك عن ذلك نجد اسماء اللغويين من امثال نفطوية وسيبويه والفراهيدي وابن سينا ينتمون الى مجاميع عرقية لا يزال يدار نقاش وجدال على اصولهم الاصلية رغم تقديمهم خدمات جليلة للغة العربية. ناهيك عن المنتمين إلى الديانات الاخرى كأدباءنا من اليهود والمسيحيين والصابئة والايزيدية والكاكئين والشبك ويمكن رؤية هذا بين معظم ادباء الأقطار العربية ك مصر و سوريا وأدباء المغرب العربي و المنفى لهم دور كبير في انتاج الادبي بلغات اوطانهم الجديدة والتعبير عن واقع حياتهم بلغة بيتهم الجديدة موضوع جدير بالدراسة والتمعن خاصة هؤلاء المتواجدون خاصة في فرنسا ودول اوربية أخرى.
الدولة القومية في واقع الحال تلفظت انفاسها الاخيرة مع انهيار الرايخ الثالث في المانيا النازية وبقت تردداتها الزلزالية تسمع هنا وهناك في الغرب والشرق ومع الأسف لحد يومن هذا. الدولة القومية تعتمد على اسس تمجيد ماضي الامة والمبالغة في قوة الامة العسكرية وإمكانية الفكرية لشعوبها ومدى هيمنتها وسيطرتها على الامم الاخرى أي هي “امبراطورية” التفكير ان كانت في بريطانيا او في اليونان او ايطاليا او اليابان وتركيا او حتى في ايران. طبعا سينعكس هذا المفهوم على مجمل النشاطات الانسانية لتلك الامة وبين صبح وضحاها يتحول كل شيء الى عربي حتى “الارض” تبدا بالنطق بالعربية مثلا. الجدير بالذكر ان هناك العديد من الدول يتكلم أبنائها عدد من اللغات خاصة في و اوربا ك سويسرا ، بلجيكا ، السويد ، اسبانيا ، رومانيا ودول أخرى كثيرة تعددي القوميات والثقافات.
الدولة القومية التي تنطلق من افكار قومية نرى امتدادها في مجمل الحركات السياسية القومية في اوربا اليوم. الجدير بالذكر ان الفكر القومي السياسي الأوربي السلبي وجد ضالته في المهاجرين كي يلقي اللوم عليهم في كل ما يصيب المجتمع من ويلات حتى لو كانت “ازمة اقتصاديه عالمية ” فان المهاجر المعذب يقف ورائها. عزيزي القارئ التاريخ يذكرنا بان كانت الهند قد عانت ما عانت من ويل الانتداب البريطاني حتى بدا الشعب الهندي يعزون الخلاف بين اسماك البحر من اعمال الانتداب أي يقف ورائها البريطانيين. نرى كذلك تأثير الاستعمار الثقافي الفرنسي في دول المغرب العربي ودول افريقية أخرى هاجرت تماما لغاتها وبات الفرنسية لغتها الوطنية. لا ريب ان الاتحاد الأوربي قد جمع شعوب الدول الأوربية وقسمها الى مناطق ثقافية وبقى الوطن الأوربي للجميع أي انك نرى احد الدول الاوربية في الاتحاد فيها اكثر من منطقة او حتى إقليم ثقافي وبهذا نجح في إعطاء الحقوق الثقافية للمجاميع العرقية والاثنية المختلفة.
مجتمعات الدول الاوربية تحمل صفات عددية ايجابية ولكن الصفة السلبية القومية منها ترتبط دوما بوجود نسبة لا تقل عن 10% من حملة الفكر القومي السلبي المتعصب للغة قوم او لحضارة قديمة كانت واندثرت وتنعكس تلك النسبة في معظم الانتخابات البرلمانية بين فترة واخرى. ان حملة تلك الافكار يحاولون دوما تجديد اسماء احزابهم ويختارون اسماء حزبهم بما يتناغم والروح القومية العاطفية. هذا الاتجاه القومي جاء الى الشرق مع نهايات الحرب العالمية الاولى في عملية تخريبية ساعدت في انهيار الدولة العثمانية ولكن الفكر القومي العربي الذي وجد اسسه في الفكر الفاشي الايطالي جدد جلده بتطعيم الفكر الاسلامي والرسالة المحمدية الخالدة لضمان التايد الشعبي الواسع في المجتمعات العربية. هذا من ناحية ومن ناحية اخرى تزاوج مع الفكر الاشتراكي حاله حال الحزب النازي” الحزب الاشتراكي القومي الالماني” أي حزب ادولف هتلر. انتشرت الفكرة أي تفتيت الدولة العثمانية انطلاقا من الحجاز ابان الحرب العالمية الاولى بقيادة ضابط المخابرات البريطاني توماس أدورت والمعروف ب لورنس العرب.
لا بد من الاشارة الى ان انتشار الفكر القومي في الشرق لم يقتصر على العرب بل انتشر الى الاتراك والاكراد والفرس. ولكل قوم تجربته القومية الفاشلة في السلطة والحكم ولكننا يجب ان لا ننسى بان الفكر القومي سيبقى لدهور عديدة وينمو كالفطر بين الحين والآخر ثم تختفي لتعود بهيئة جديدة وملبس جديد. ان تركيب الثقافي التعددي للمجتمعات البشرية عامل اسسي وضمان لسيادة روح التسامح بين البشر ولا يمكن في أي حال من الاحوال وحتى في المستقبل ان يسود فكر قومي ويحكم منفردا ويهمش الاخر المختلف. ناهيك بان الإنسان بنفسه لا يختار قومية عند الولادة كما لا يتمكن من اختيار وطنه وزمن ولادته.
ان تجارب القومية الفاشلة في الحكم تجربة انسانية يجب ان يأخذ بعين الاعتبار من قبل الشعوب التي تناضل من اجل نيل حقوقها وانشاء دولتها المستقلة. فهي من ناحية مظلومة ومهمشة من قبل سلطة قومية متسلطة ولكنها تدعوا الى انشاء سلطة قومية رافعا شعارا قوميا وعلما قوميا وحتى يردد اغاني قومية مهمشة تماما وناسية وجود شعوب اخرى تعيش معها جنبا الى جنب. ان الدولة القومية يرأسها قائد قومي ومن الطبيعي ان يفضل قومه على الجميع ناسيا الوطن لان الوطن فيه قوميات متعددة وهذا الفراغ يؤدي لاحقا الى زيادة الشعور القومي عند ما يسمى ب الأقليات. ان رئيس الدولة يجب ان يكون وطنيا ويمثل كافة شرائح وقوميات المجتمع. يجب ان لا ننسى ان اسماء العديد من دول العالم تمثل قوميات معينة كفرنسا والمانيا وبريطانيا وتركيا بينما هناك اسماء اخرى تمثل جغرافية سكانية او سياسية او مكانية ك العراق مثلا.
ان تأسيس أي كيان سياسي على اسس قومية سيؤدي عاجلا او اجلا الى نشوء صراعات طائفية وعرقية بين أبناء الشعب التعددي ويتحول المظلوم بين يوم وضحاها الى متسلط جلاد يهمش ويقتل وينهش بالأقوام الاخرى. ان تجارب الانسانية كثيرة فربما العودة الى صحف التاريخ تقية وضمان لعدم تكرار الماسي مرة اخرى. لا ريب ان الفكر القومي يرى في انتشار قومه في المعمورة عاملا توسعيا أي اينما وجد احدهم من قومه فهناك يمتد حدود دولته القومية وكنت قد اشرت الى العديد من الحواضر والمدن غيرت قومياتها تاريخيا وما كان يوم ما عاصمة للأرمن مدينة وان في تركيا الحالية لا يوجد فيه اليوم الا القليل ممن يزور تلك المدن من الارمن وهذا حال العديد من مدن الدنيا. ناهيك عن التغيرات الاثنية فان هناك عوامل اخرى سياسية ودينية لانصهار بعض الشعوب وزوالهم واختفاء لغاتهم وجزء كبيرا من ثقافته انظر الى دول شمال افريقيا مثلا فاللغة المصرية الفرعونية قد انمحت من بكرة ابيها الا بعض الكلمات في اللهجة المصرية واسماء بعض المناطق والحواضر وحل محلها اللغة العربية. هذا طبعا حال جميع الدول العربية ما عدا دول الجزيرة العربية. تاريخيا لم يكن أي انتشار عربي أو هجرات قبل نزول الرسالة المحمدية الا حالات انفرادية. ان انتشار لغة قوم ما له ارتباط بوجود كيان سياسي كما اشرت سابقا فلغة وثقافة الحاكم تسود دوما.
اما السلطة الوطنية، الغير قومية، فتنطلق من مبادئ توحد شعوبها في قاسم مشترك يعتز به كل الاقوام وقد يكون ذلك عاملا مرتبطا بالجغرافية أو ما يسمى ارض الوطن ويرفع راية تمثل الجميع وليس فقط حزبا واحدا أو فئة معينة. وهنا تجدر الإشارة بان العراق كان يمكنها تغير علمها مع سقوط النظام لكن قادتها الجدد حوروا العلم القديم قليلا ولا يزال العلم العراقي يترجم اشعار صفي الدين الحلي وكان علما للوحدة العربية الثلاثية ومن ثم الثنائية على أساس ان الوانها كانت مرفوعة في علم الثورة العربية الحجازية ضد الدولة العثمانية. الوطن يوحد الناس ذو الآمال المستقبلية المشتركة مهما كان انتمائهم القومي او العقائدي. تلك الاوطان التي تحتضن جميع القوميات وبمختلف عقائدهم في بوتقة حضارية واحدة هي أوطان المستقبل. لذا يجب مراعات وجود شعوب يتكون من عدد من القوميات والعقائد وعلى دساتير تلك الدول عدم ذكر تلك القوميات وان تم تعدادها في الدستور فلا يجب ان تهمل قومية او عقيدة. ختاما اعيد ما ذكرته أعلاه ان الشعوب قد تغير لغاتها واوطانها ويبقى العيش المشترك والحوار الحضاري المبدأ الأساسي لبقائنا احياء على الثرى لحد يومنا هذا.
ان اي تفرقة عرقية او فصلا عنصريا يفضل قوم على اخر سيؤدي حتما إلى انفصال وتفتيت تلك الدول في المستقبل. وان مستقبل الإنسانية مرتبط بحتمية العيش المشترك لجميع شعوب المعمورة في سلام ووئام وفي وطن كبير اسمه الثرى دون حرب ونزاعات والا لا يرى النور أحفادنا في المستقبل على ما نسميه اليوم الكرة الأرضية.
د. توفيق آلتونجي
صحيفة المثقف