المطلق في المعرفة، جدلية خاطئة لا تناقش، مع ذلك طمح إليها معظم العلماء والفلاسفة والمفكرين، وحاولوا بلوغ كنهها؛ رغم معرفتهم التامة باستحالتها، لكن فقهاء الدين أو المبحرين في فضاءات التصوف، حصروها في المطلق الخالق؛ مرسل النصوص. كما وتبنتها بعض المدارس الفلسفية في كلية قوة كونية؛ بصفة الإله أو الآلهة، على أن المطلق يحكم الكون ويتحكم في إرادة الإنسان. ومن رحم الأخيرتين خرجت المدارس الصوفية، بعضها تشددت على مفهوم التكتم عند بلوغ الكمال، وهي ما تسمى بمرحلة (الإبدال) وهذه تسبق مرحلة الفناء في الله.
وفي المقابل حاور في مفهوم عدمية الكمال؛ وناقشها معظم الفلاسفة ضمن إطار الأبعاد الإنسانية، وتناولها الروحانيون لاهوتيا، كحقيقة إلهية حاضرة لا تقبل الجدال، ومن خلالها عملوا على دمج الذات الطامحة إلى الكمال مع الذات الإلهية الموصوفة، وتحت غطائها عرض البعض نفسهم حملة صفات المطلق الإلهي؛ وممثلي القوة الميتافيزيقية على الأرض، وبها قربوا ذاتهم من المطلق المرفوض علميا والمقبول لاهوتياً.
مع ذلك ظل الإنسان المنطقي يرجح، في هذا المنحى، مفهوما يتلاءم وكلية الكون، وهو أنه لا علم ولا دين يعرف جوهر الروح ونشأته، واستمراريته، وأزليته، أو ديمومته، والمكشوف فقط من خلال المطلق في المعرفة، أي الإله، أو في البعد الأخر الروح الخالد، أو العقل الكلي، وهو ما لن يبلغه، ولن يعرف، حتى وبأقل سماته، في الأبعاد الفكرية الحالية، والطاقات المعرفية العلمية أو الميتافيزيقية الموجودة. والجدلية ذات علاقة بمعرفة الإله، ووجوده أو عدمه، والإيمان به وبالتالي بالروح أو تناسخه، وهي ذاتها مجادلة في ماهية الإله، وكليته، وبالتالي قبول إلهية النصوص أو رفضها، وهل هي خالقة أم مخلوقة؟ وهل هي من الخالق أم من المخلوق؟ وهل هي مطلقة أم قابلة للتعديل والتطوير؟
فبعض الديانات الكردية القديمة وكما وصلتنا بعض مفاهيمها، كانت تجاوب على هذه الأسئلة من المنظورين، المادي واللاهوتي، أو كما ورد عند الحلاج في منطق الفصل بين اللاهوت والناسوت، أو كما دمجهما محي الدين بن العربي. وبعض هذه المفاهيم الصوفية، أو عند أصحاب الديانات الباطنية، لا تزال حاضرة وبقوة، المؤمنة بالتقمص، وخلود الروح، كالأزداهية، رغم اختلافها عن الديانات اللاحقة، أو المقالة أنها خرجت من أحضانها، والمتطورة نسبيا؛ مقارنة بمفاهيم، كالعلاقة بين الإله والإنسان (بالإمكان العودة إلى الأبحاث العديدة المنشورة حول هذه الجدلية) كالزرادشتية والمزدكية والمانوية (والمنمنمة أن الإسلام أخذ من الزرادشتية عن طريق سلمان ( المقال الفارسي) الكثير) وبالتالي فقد كانت آلهة الأديان الجديدة ومطلقهم في تغيير مع الزمن، يتلاءمون والتطور الحضاري، وهي ما كانت تؤدي إلى انبثاق أديان من رحم سابقتها مع كل طفرة حضارية، إلى درجة أن العديد من كهنة الزرادشتية والمزدكية، تقبلوا الديانات الإبراهيمية الفارضة مطلقها، كمفهوم أحدث في ماهية الإله، والبعض أبدعوا في الفقه الإسلامي، وفي تطوير المذاهب، والتصوف وطرقها إلى درجة تم تكفير العديد منهم، وخاصة بعدما انتبهوا إلى مطلقه وحاولوا تطويرها لتتلاءم وحضارتهم، والمؤدي إلى تباطئ التوازن ما بين التطور العلمي والمطلق الروحي، وبالتالي ومنذ سيادة الجانب الفكري الجامد التجسيدي غابت الحضارة عن منطقتنا، وسايرتها منطق العنف والإجرام باسم الإله الكوني، يمثله الإله الأرضي، وتم تغييب السلام في الأديان.
أياً كانت الجدلية، فالجاري تعاكس الحضارة، ولا بد من البحث عن مخرج للتحرر الفكري من مفهوم الإيمان بالنقل، وكسر طوق المطلق الإلهي المتمثل بمطلق النص، وتقبل التطور الفكري؛ العلمي واللاهوتي، ومعالجة منطق الروح كمصدر للإلهام والتوجه الإنساني نحو الرقي؛ بمسارات العلم، والبحث فيما إذا كان الروح مصدر طاقته الفكرية، وماهي علاقة الجسد أو أعمال الجسد به، والتقرب من جدلية الإيمان أن الروح يتعذب في الحياة مرة ثانية بمنطق علمي، والاقتناع بأنها غير قابلة للإثبات أو عدمه، مثلها مثل استحالة التأكيد فيما إذا كان الروح خالد أم لا بعد فناء الجسد، ولا انبعاث له.
والمعتمد في اللاشعور الإنساني، أن التقدير هو للروح، والروح جزء من القدرة الإلهية الكلية، والتي تحل في المخلوق، ويبقى هناك حاكما إلاهيا، إلى أن ينتهي أجله، أو عمره الزمني، فتعود إلى أصلها، كجزء من الكل المصدر، الذي لا زمان له، كما للمخلوقات الكونية.
والقدرة الإلهية الكلية، حيث اللا مكان واللا زمان واللا معرفة، خارجة عن مجالات الإثبات وعدمه. وبما أن الروح لا تلمس ولا تعرف، ولن تعرف بقدرات العقل البشري، كما ذكرنا، فيمكن القول إنه جزء من الإله المتحكم والمهيمن والعارف، ومن قدراته أو قدرة الروح الكلية أو كما يقال عند بعض الفلاسفة العقل الكلي الإلهي.
الروح تعرف العقل ولا يعرفه العقل، مفهوم يكاد يكون مفروغاً منه، وكل ما يقال عن الإله من خلال الأديان ونصوصها محركات عقلية إنسانية غير كاملة، تعكس ضعف العقل أمام الروح. ولربما ولهذا ولخلق الروح من العدم وعودته ربما إلى العدم أو على الأقل غيابه عن الحواس، يدفع بنا إلى بعدين: أما خلود الروح، وهي أعلى من التقمص، بل تحتضن مفهوم التقمص في ذاته، فكلية الإله لا يتقمص، ومثلما كليته خارج أبعاد المعرفة، هي كذلك أجزاءه، أو أن الروح يخلق من العدم وينتقل إلى العدم، وهي تعكس بمفهوم علمي إلى عدمية آلهة الأديان، وليس الخالق الكلي، مع عدمية المادة المحتضنة له، وبعدمه تنهدم الأديان، وخاصة الإبراهيمية، وتتهدم مفاهيمها، وبالتالي تصبح البشرية أمام معضلة الخلاف مع السقف الفكري الذي وضع الأديان بجدلية المطلق، وإشكالية الصراع مع حماتها، ولاستمراريتها مع الحضارة لا بد من تطوير مفاهيمها، ومعظم التأويلات الحديثة لنصوصها لا تتعارض وهذه، وهذا ما تم في عصر التنوير، وعلى أثرها ظهرت الحضارة الأوروبية.
هذه المفاهيم بشكل أو أخر تعكس الكثير من مسيرة التعامل الإنساني أو إضاضه، بين الشعوب والقوميات والأديان والمذاهب، والصراعات التي لا نهاية لها، والمتحكمة بها سلطات مستبدة، وبأقذر الأساليب للحفاظ على المفاهيم الجامدة، وتعميقها كثقافة، وفرضها كأنظمة أبدية. ولهذا فمواجهتها أو محاولة تغييرها أو التلطيف فيها تعتبر من قبل اللاهوتيين كفرا، ومن قبل السلطات الطاغية خيانة وطنية، وفي الحالتين يوزعون العقاب على المجتمعات ما بين الجمود الفكري والتخلف عن الحضارة، وبين تصعيد الصراع بين شرائح المجتمع الواحد أو المجتمعات، والمؤدي إلى المآسي، وحاضرنا في منطقة الشرق الأوسط خير مثال، مثل ماضينا وماضي أوروبا في عصر الظلمات.
فنحن الشعب الكردي عانينا ونعاني مثل غيرنا من الشعوب من هذه الأفة، متغلغلة في كل مفاصل حياتنا الاجتماعية؛ ولها عمق تأثير على حركنا الثقافي؛ ومهيمن على واقعنا السياسي. فلم يكتفِ حراكنا المقتنع بها التعامل مع المجتمع، والمتحرك في الساحة الداخلية، كقابض للمطلق في المعرفة، بل بثتها بين المجتمع وغرزتها؛ إلى درجة أن الخلافات والصراعات باتت من مسلماتنا اليومية، لأن كل جهة تؤمن أنها المطلق الأصح، وهي ذاتها من بين أشد المؤثرات سلبا على ماضينا، وتؤثر على حاضرنا؛ خاصة عندما عبث البعض من باحثينا، وعلى أسسها الضحلة، بتاريخنا، ومن جهة أخرى، وعلى أثرها بلغنا أعلى مراحل التشتت، وهذه تعني الضعف داخليا وخارجيا، فأردتنا سذاجتنا هذه، قبل كل شيء، في هوة التبعية للأخرين.
تبنت قبائلنا سابقاً، مثلنا حالياً، منطق المطلق في القوة والهيبة قبل المعرفة، وهي الثقافة التي بثتها بيننا السلطات الحاكمة، عزلتها إلى درجة لم تكن تعرف للروح الوطنية معنى، إلا في واحات معزولة، وكانت تقضى عليها سريعا وبوحشية، وغيبت عنهم عمق المعرفة المقامة عليها في الماضي حضارات لها أصول كردية. والمؤسف له أن أجيال حاضرة من بعض عائلاتنا لا تزال تعيش تلك الضحالة المعرفية، تعيدها وتتفاخر بها بسذاجة، بل وتسخر جهود لإحياء تلك الثقافة الموبوءة بكل تشوهاتها ودون تشذيب، وتسخر لها معظم ما لديها من إمكانيات، وتهدر جل طاقاتها في خلق شيئاً من اللاشيء وأحياناَ من العدم، وتتفاعل معها عمليا شريحة واسعة من حراكنا السياسي والثقافي، كواقع، بل وكوباء لا خلاص منه. وهذه دلالة على أننا بعيدين عن مواكبة ثقافة العصر، وأن الوطن غائب، رغم كل ما يقال، مقابل الحزب أو العشيرة أو العائلة، ولا نتهاون في اجترار الماضي كما حرفه لنا الأعداء، بلا تنقيح وتعديل، ودون أن نشعر أننا نطعن في تاريخ أمتنا ونجزمها، ونبعد الوطن ونقرب الحزب أو العشيرة أو العائلة. وبالتالي نبقى كحراك كردستاني، دون سوية العلاقات السياسية الدولية، نتصارع على اللاشيء وبعنجهية الروح الكلية، أو كما ذكرنا المطلق في المعرفة.
ولعمق تأثير مفهوم الكمال، أو المطلق في المعرفة، السلبي على الروح الكردية، وقدرة القوى المهيمنة على تغذية هذه الأفة في فكر مجتمعنا، أصبح منطق الرفض وتضخيم الذات مسلمة راسخة في ذهنية شريحة واسعة من حراكنا الكردي، بل وبدأ المجتمع يتبناها بأغلبية واضحة، إلى درجة لم يعد أحدنا يقبل حتى الحوار مع الكردي الأخر المخالف له، ولم يعد لدينا حكمة أو قدرة على إيجاد نقاط التقاطع في قضية الوطن، بل وأصبح كل تقارب لا بد وأن يسايره الشكوك والحذر وعدم الثقة. وهو ما أدى بالأمة الكردية إلى غياب الثقة بالذات، والعيش على الضحالة من الماضي المحرف من قبل الأعداء، بتضخيمه لا تشذيبه، والتعتيم على المنير فيه والقابل لأخذ العبر منه، وتشكيل أطلال وهمية نتباهى بها، أو تجسيد تاريخ الأمة في شخصية أو حزب، والتركيز على مبدأ الخلاف أو أنا المطلق في الصح أي في المعرفة، علما أن كل الأطراف على قناعة تامة أن بلوغ الهدف لن يتم ما لم تزال هذه المفاهيم أو يتم تدويرها وتلطيفها، وإلا فالكل خاسر؛ كما خسرنا على مر التاريخ، وبقينا دون العالم بلا دولة ووطن يجمعنا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
17/1/2019 م