(اصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة)
هذه المقالة تتبنى ما طرحته في كتاباتي السابقة وتعيد ما اكدت عليه في سياقات مختلفة. اسأل القراء الأوفياء الذين يتابعون أعمالي مسامحتي ازاء الالحاح في التأكيد، فالحاجة تدعوني لاعادة النظر في هذه القضايا بين الحين والآخر، نظرا لاستمرار تراجع جودة التعليم العالي وتجاهل مسألة الاصلاح، وغياب النقاش حوله بين الأكاديميين والتربويين.
تراجع التعليم وسبل تطويره
في ظل الأوضاع الراهنة بالعراق، أصبح من المألوف في بيئة متأرجحة تسودها ظواهر الفساد، أن نشهد تراجعا في مهام الجامعات بتنمية الإنسان. لم يعد الالتحاق بالجامعة مؤشرا للنجاح كما كان في السابق، بل تحول إلى مجرد مراحل انتظار للحصول على وظيفة قد لا تتصل بالمؤهلات الأكاديمية المكتسبة، مما افضى الى تدني القيمة الأخلاقية والمعنوية للشهادات الجامعية، والى سيطرة نوع من الأمية المخفية وتزايد الخسائر في العملية التعليمية، وبالتالي تعقيد مسيرة الفرد العراقي نحو الانخراط في مجتمع المعرفة.
عند تقييم حال التعليم العالي والجامعات، ومع الأخذ في الاعتبار تأثيرات العزلة والحصار الذاتي والهجرة والإرهاب وعدم الاستقرار، نجد واقعا مؤسفا يتسم بنقص الإمكانات البشرية والمادية ومن مشكلات عديدة وتحديات كبيرة تحد من فعاليته وتعيق تقدمه، وهذه التحديات مرتبطة بالوضع العام للمجتمع العراقي الذي يحمل عبءً تاريخيا يعيق تطوره نحو مجتمع المعرفة وإنتاجها، ومن ثم تحويل هذه المعرفة إلى قوة دافعة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي. ومن ابرز هذه التحديات، تطوير قدرات الأفراد وأدائهم، وهو ما يقع ضمن مسؤوليات الجامعات التي يجب أن توفر الأدوات والأنظمة المستندة إلى تكنولوجيا المعرفة لمساعدة الانسان العراقي على دخول القرن الحادي والعشرين والمشاركة في انتاج المعرفة العالمية.
تطوير التعليم العالي يتجاوز الإصلاحات الطفيفة، إذ يستلزم تحولا شاملا وعميقا في نظام الجامعات والتعليم العالي. ينبغي ان يقوم هذا التحول على اسس علمية رصينة توازي المعايير الدولية المعتمدة في الأوساط الأكاديمية المتقدمة. يجب أن يتسم هذا الإصلاح بالنزاهة والموضوعية، وان يشمل إزالة العناصر البالية من النظام الحالي. الاصلاح يعني تفكيك القديم وبناء الجديد، ولإنجاز هذا الإصلاح، يجب الاستعداد لتحمل تبعاته السياسية والاجتماعية والمالية، التي قد تكون ثقيلة، وهذا يتطلب عزما وشجاعة، وبالطبع، فهما شاملا للواقع الأكاديمي العالمي ومتطلبات سوق العمل والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
هل الأولوية لاصلاح التعليم أم الاصلاح السياسي؟
عند التطرق لموضوع إصلاح التعليم، يواجهنا البعض برفض إمكانية تحقيقه قبل إصلاح النظام السياسي. يرى هؤلاء ان أي محاولة لاصلاح التعليم دون تغيير النظام السياسي ستكون بمثابة “ترقيع” لن يحلّ المشكلة بشكل جوهري. في المقابل، يعتقد آخرون أن إصلاح التعليم ضروري لخلق جيل جديد قادر على المطالبة بالتغيير السياسي. فبرأيهم، لا يمكن بناء نظام سياسي ديمقراطي فعّال دون تعليم نوعي يُنشئ مواطنين فاعلين وواعين.
فما هو الصحيح؟ هل إصلاح التعليم يسبق إصلاح النظام السياسي أم العكس؟
لا يمكن الجزم بأيهما يأتي أولا، الإصلاح السياسي او إصلاح التعليم، فهما مترابطان بشكل وثيق. فمن ناحية، يعد التعليم عنصرا أساسيا في أي إصلاح سياسي ناجح، حيث يوفّر للمواطنين المعرفة والمهارات اللازمة للمشاركة الفعالة في الحياة السياسية. من ناحية أخرى، لا يمكن إصلاح التعليم بشكل فعّال دون وجود بيئة سياسية داعمة. فغياب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية يعيق تطوير نظام تعليمي مبتكر وفعال.
باعتقادي ان إصلاح التعليم يمكن أن يأخذ الأولوية على الإصلاح السياسي في العراق. واستند في هذه الحجة إلى عدة نقاط رئيسية:
1. التعليم هو أساس التغيير:
يعد التعليم اداة قوية لتحقيق التغيير الاجتماعي والاقتصادي. من خلال تزويد العراقيين بمهارات ومعارف أفضل، يمكنهم المساهمة بشكل أكثر فاعلية في مجتمعهم واقتصادهم. كما يمكن للتعليم ان يساعد على تعزيز التسامح والتفاهم بين مختلف الفئات في العراق، ولفهم خطورة الفساد وإدراك أنه آفة متعددة الأوجه، تخلف وراءها ندوبا عميقة في مختلف جوانب المجتمع، وهو امر ضروري لبناء مجتمع ديمقراطي مستقر.
2. جيل متعلم ضروري للاصلاح السياسي:
لا يمكن تحقيق إصلاح سياسي حقيقي بدون جيل متعلم ومنور. ان العراقيين المتعلمين هم أكثر قدرة على التفكير النقدي واتخاذ قرارات مستنيرة بشأن مستقبلهم. كما يمكنهم المساهمة بشكل أكثر فاعلية في العملية السياسية ومحاسبة الحكومة.
3. التعليم يساعد على تقليل التوتر الطائفي:
يمكن للتعليم أن يلعب دورا هاما في تقليل التوتر الطائفي في العراق. من خلال تعليم جميع العراقيين عن تاريخهم وثقافاتهم المختلفة، يمكن للتعليم أن يساعد على بناء جسور التفاهم والاحترام بين مختلف الفئات.
4. إصلاح التعليم يحظى بدعم شعبي:
يسود الرأي ان إصلاح التعليم هو احد أهم القضايا بالنسبة للشعب العراقي. هناك دعم شعبي واسع النطاق لبرامج تهدف إلى تحسين جودة التعليم.
خلاصة القول ان إصلاح التعليم لا يمثل بديلا عن الإصلاح السياسي، بل هو ضروري لخلق الظروف المواتية للإصلاح السياسي الحقيقي.
هل الأولوية لاصلاح التعليم الاولي أم التعليم العالي؟
اصلاح التعليم الاولي والتعليم العالي يمكن ان يكونا متوازيين في الأهمية، ولكن بالرغم من ان العديد من الخبراء يرون ان إصلاح التعليم الأولي يجب أن يكون له الاولوية لاعتقادهم أن الأساس القوي الذي يبنى في المراحل الاولى من التعليم يمكن ان يؤدي الى نتائج أفضل في المراحل التعليمية اللاحقة. بالاضافة الى ذلك، التعليم الاولي يعد الطلاب للتعلم المستمر ويساعد في تطوير المهارات الأساسية مثل القراءة والكتابة والحساب. الا ان اصلاح التعليم العالي يمكن ان يتحقق بصورة منفردة لكونه لا يتطلب مثلما يتطلبه التعليم الاولي من وقت طويل ومرادف لاصلاح المجتمع والعائلة والنظام السياسي، بالرغم من ان هذه عناصر مهمة تؤثر في سرعة او فاعلية تحقيقه، وبالتأكيد فأن مجرد الشروع باصلاحه سيحفزعمليات مشابهة لاصلاح قطاعات الدولة الاخرى والنظام السياسي ككل، ونظرا لان له تأثير مباشر على الابتكار والتنمية الاقتصادية، فلا يعد مجرد خطوة نحو تحسين النظام التعليمي فحسب، بل هو استثمار في مستقبل البحث العلمي والابتكار والتقدم الاقتصادي للبلاد. يمكن للجامعات المُحدثة ان تنتج خريجين مجهزين بالمهارات اللازمة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، مما يساهم في تعزيز القدرة الاقتصادية والتنافسية العالمية للبلاد، فالتعليم العالي يعد الطلاب ليس فقط للمهن المتخصصة، بل يعلمهم كيفية التفكير النقدي وحل المشكلات والابتكار. هذه المهارات ضرورية لتطوير منتجات جديدة وخدمات طبية وهندسية وتقنيات يمكن ان تحدث ثورة في الزراعة والصناعة والبيئة وتساهم في النمو الاقتصادي. علاوة على ذلك، البحث العلمي الذي يحدث في الجامعات يمكن ان يؤدي إلى اكتشافات وابتكارات جديدة تساهم في تحسين جودة الحياة ودفع عجلة التقدم العلمي. الجامعات التي تركز على البحث تعد مراكز للابداع والتفكير الريادي، وتعزز الروابط بين الأكاديميا والصناعة، مما يساعد في تسريع وتيرة التحول الاقتصادي.
بالإضافة إلى ذلك، سيمكن اصلاح التعليم العالي من تحسين جودة القوى العاملة، مما يعزز الانتاجية ويساهم في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. الجامعات المتميزة تعد الطلاب ليكونوا مواطنين فاعلين ومسؤولين، قادرين على المشاركة بشكل إيجابي في المجتمع.
لذلك، يعتبر إصلاح التعليم العالي استثمارا حيويا يُمكن ان يحقق عوائد طويلة الأمد للمجتمع ككل، ويساهم في تحقيق التنمية المستدامة والشاملة. في الحصيلة، يمكن للتحسينات في التعليم الأولي أن تعزز جودة التعليم العالي، والعكس صحيح. المهم هو اصلاحات تعالج التحديات في كل مستوى من مستويات التعليم.
بعد ان ادراكنا اهمية وضرورة إصلاح التعليم العالي، يتعين علينا الآن تحديد العناصر الأساسية لهذا الإصلاح، والتي أعتقد أنها تتمثل في النقاط التالية:
1. تطوير المناهج وطرائق التدريس والتخلص من اسلوب التلقين وحشو المعلومات واعتماد التفكير النقدي معيارا رئيسيا في القبول والتدريس والبحث العلمي. وهذا يعني التحول من التعليم الى التعلم والتأكيد على نشاط الطالب وانتاجاته من خلال اعادة انتاج معارف الاخرين وابتكار اخرى جديدة، اي تحويل الطالب من دوره السلبي بتلقي المعلومات فقط الى دور ايجابي يعتمد بدرجة كبيرة على استنباط المعلومات بنفسه وبمشاركة زملائه وتوجيه واشراف استاذهم، وحيث يتطلب منه (اي الطالب) اتقان جميع ما اكتسبه من مهارات الدروس.
2. اعادة هيكلية الجامعات بما يساير التطور العالمي في الادارة الجامعية والتنظيم الاداري للجامعات ومنع الفساد. وبالرغم اني لا ارغب هنا من اقتراح نظام اداري واكاديمي معين الا اني ارى اهمية في نظام ادارة الجامعات يتضمن لمجلس امناء بالاضافة لمجلس اكاديمي ومجالس استشارية خارجية، ودمج الجامعات القريبة من بعضها وتقليل عدد الكليات في الجامعة الواحدة.
3. نظام فاعل لضمان الجودة والاعتماد الاكاديمي، يمكن ان يكون عبر تأسيس هيئة مستقلة لضبط الجودة مرتبطة بمجلس الوزراء. وهذا النظام يحتاج الى ادوات تقييم انتاجية لكي توفر اجابات واضحة لما هي رؤية الجامعة والاهداف التي تسعى لتحقيقها؟ كيف يمكن قياس نجاح الجامعة؟ ما هي انظمة التقييم وقياس النوعية والجودة؟ وما هي المواضيع التي تسعى الجامعة لتحقيق الصدارة والتميز فيها؟ والتقييم يبنى بالاساس على توفير اجابات شافية للاسئلة التالية: ماذا تحاول أن تفعل الجامعة؟ لماذا تحاول أن تفعل ذلك؟ ما هي الطريقة التي ستتبعها؟ لماذا تفعل ذلك وبهذه الطريقة؟ لماذا تعتقد ان هذه هي الطريقة المثلى للقيام بذلك؟ وهل تعرف الجامعة كيف يتم التحسين؟
4. تنمية مستوى كفاءات ومؤهلات الموارد البشرية ومنها اكتساب مهارات تقنية متقدمة وتعزيز المهارات الأساسية وتنمية المهارات الشخصية وتعزيز المهارات اللغوية والحصول على شهادات احترافية بحيث يكون هدفها تحسين الاداء والابتكار وتعزيز قدرة المنافسة.
5. تعزيز تنافسية الجامعات من خلال ربط سياساتها وسلوكياتها بمتطلبات سوق العمل واحتياجات المجتمع العراقي، بدلا من التركيز الحصري على ابتكار برامج تماثل تلك المطبقة في الدول المتقدمة.
6. تطهير الجامعات من الفاسدين وانصاف المتعلمين وحملة الشهادات المزورة والمتهربين من العمل.
7. الإدارة اللامركزية للجامعات والمرونة التنظيمية والهيكلية وضمان الحرية الاكاديمية. ان تطبيق مفهوم استقلالية الجامعة يعتبر الضمانة الرئيسية لاداء الاستاذ لمهماته الاكاديمية وكذلك للتخلص من قبضة الثقافة البيروقراطية، فالاستقلالية تشجع الاختلاف في المناهج الدراسية بين الجامعات المختلفة وبما يتناسب مع قدرات كل جامعة وامكانياتها البشرية وحاجة مجتمعها، وفي هذه الوصفة يكون لقيادات الجامعات والكليات والاقسام حقوق كاملة في الادارة، وعندئذ يكون حجر الاساس في ادارة الجامعة هو التدريسي، والمرونة التنظيمية والهيكلية لمختلف مؤسساتها هو جوهر ادارتها.
8. التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة لكون التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة أداة استراتيجية لتعزيز قدرات العراق في مجالات التعليم والبحث العلمي. من خلال تنفيذ مشاريع بحثية وبرامج تدريسية مشتركة، وعقد مؤتمرات وندوات علمية، وتأسيس مراكز أبحاث مشتركة، تتيح هذه الشراكات تبادل المعرفة والخبرات وتطوير المهارات وتعزيز الابتكار وبناء علاقات دولية قوية.
9. زيادة مصادرالتمويل والانفاق بسخاء على البنية التحتية للجامعات ومؤسسات التعليم الاخرى، وإقامة المشاريع التعليمية سواء الدراسات الأولية، أم الجامعات، أم مدن العلم (التي يمكنها من جذب أفضل العقول من الخارج) أم مشاريع البحث العلمي والتطوير، اذ يصب كل هذا في تنمية الموارد البشرية التي هي أساس التنمية الاقتصادية واستثمار عقول الشباب العراقي لمواجهة تحديات العصر والاستجابة لمتطلباته. ان اي اصلاح بدون توفير اموال جديدة وكافية لا يمكن ان يحقق الغاية منه.
10. برنامج ابتعاث واسع النطاق. الشهادات العليا وخصوصا الدكتوراه من الجامعات العالمية الرائدة ضرورية لتطور التعليم ولاقتصاد البلدان النامية، لذلك ركزت هذه البلدان خصوصا بلدان جنوب شرق اسيا وبلدان الخليج العربي والصين على تمكين ابنائها من الدراسة في الخارج.
11. تأسيس مجلس للتربية والتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار والتطوير مرتبط برئاسة الوزراء، بحيث يمثل هيئة مستقلة ذات طبيعة استشارية للتفكير الاستراتيجي في قضايا التربية والتكوين والبحث العلمي، وآلية لرصد عمل وتطور المنظومة التربوية.
هذه هي المكونات الجوهرية لاصلاح التعليم العالي، وهي نفس العناصر التي تناولتها في مقالاتي السابقة حول الاصلاح وشددت على أهميتها في سياقات متعددة. بالطبع، هناك جوانب أخرى قد تكون ذات أهمية بالغة للتدريسيين الذين تعاملوا مع تحديات التعليم ومشكلاته في الجامعات العراقية. ومن هنا، تبرز الحاجة الى تأسيس لجنة عليا مختصة بتحديد المعايير الرئيسية واعداد خطة متكاملة للاصلاح.
والخلاصة، لقد أصبح ضروريا اصلاح نظام التعليم العالي والبحث العلمي بشكل شامل لمواكبة متطلبات القرن الواحد والعشرين، فالتأخر الزمني وضعف الجودة يعيقنا عن التقدم في هذا المجال، وان مسألة العلاقة بين التدريب وسوق العمل هي المسألة الأساس في أي مشروع للاصلاح الجامعي، بالاضافة الى ان عملية الاصلاح والتطوير وتغيير القوانين غدت حتمية لا مناص منها، ونتطلع من خلال هذه العملية لمستقبل باهر للتعليم العالي والبحث العلمي في العراق.
***
ا. د. محمد الربيعي