تقيّيم الأوضاع السياسية والاجتماعية في كردستان.. بين الحين والآخر.. يتطلب متابعة ميدانية وتشخيص أبرز المظاهر الجديدة.. التي لها حتماً امتدادات سابقة وجذور قديمة ايضاً.. لهذا سأتطرق في هذه المتابعة.. الى أبرز ما اعتقده مهماً في هذه المرحلة.. والتنبيه لخطورته.. خطورته الراهنة والمستقبلية..
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن..
هل حقاً هناك الجديد في الوضع الكردستاني؟
الجديد الذي يتطلب الاثارة والتوقف عنده وتفحص نتائجه.. أم اننا نبالغ ولا نرى الاّ الوجه الآخر السلبي والمدان من الاحداث.. ولا ننظر للجوانب الإيجابية و”المنجزات” المحققة في خضم المعادلات الصعبة.. التي تفرضها السياسات الدولية والإقليمية.. والتي قد لا تتفق مع المتطلبات والشروط والأهداف المحلية في غالب الأحيان.. وتتعارض معها.. وتفرض اراداتها.. وحلولها.. شئنا أمْ ابينا.. والوضع.. كل الوضع يتطلب مسايرة وتواطئ.. وسياسات انتهازية ـ منفعية.. لا يمكن الفكاك من طوق دوائرها وخطوطها الحمراء المرسومة للعب..
هو لعب بنار السياسة.. السياسة التي تخلى فيها لاعبوها عن مبادئهم واخلاقهم.. وتحولوا الى وصايا وجبابرة مستبدين.. يفرضون قناعاتهم وتوجهاتهم على الناس والمجتمعات.. التي يتحكمون بها.. ويصادرون إرادتهم.. ولا يبالون بمستقبلهم.. ويقامرون بحياتهم.. بعد أنْ رضخوا لرغباتهم الدنيئة.. ودخلوا في نطاق صفقات مافيات مذلة لهم ولـ “حكوماتهم”.. من قبل المافيات الأكبر.. المتحكمة بالأوضاع الإقليمية والدولية..
والعراق.. وحكومة الإقليم في كردستان تحديداً.. ليست استثناءً من هذا التحليل.. وهذه الاستنتاجات.. بعد أنْ أصبحت منطقة الشرق الأوسط.. ساحة للصراعات الدولية والإقليمية.. ساحة خاضعة لمنطق القوة في العلاقات بين الدول.. يفرض الأقوى شروطه على الأضعف.. وفق معادلات محسوبة النتائج مسبقاً.. على الرقع الجغرافية.. التي أصبحت تدار من قبل الجيوش وشبكات أجهزة المخابرات.. المستخدمة للتكنولوجيا العسكرية المتطورة.. لتتحكم بإرادة الشعوب.. من خلال واجهات سياسية.. وكتل بشرية متعبة ومشتتة ومسحوقة فاقدة للإرادة ومستسلمة..
واجهات سياسية محلية.. افتقدت لدورها التاريخي.. تخلت عن أهدافها.. ورضخت للضغوط والاغراءات.. واجهات على شكل حكومات ذيلية ذليلة.. تصم آذانها عن متطلبات الجمهور العريض وحاجته الملحة والضرورية للخدمات والأمان.. وتعمي عيونها.. وتغض النظر بلا خجل عن.. معاناة الناس والمحن التي تواجههم.. وافرازات الواقع المريرة وكوارثه ومظاهر فساده المتفشية في كافة المجالات والمؤسسات الرسمية..
هو فساد مستشري داخل هياكل الأحزاب المتعفنة.. التي تحول دورها من مدافع عن مصالح الجماهير الى آلة قهر تضاف الى آلة الدولة القمعية.. دولة الفساد.. الدولة الفاشلة والمغتصبة من قبل عصابات سياسية ـ دينية.. تتحكم بها عوائل وقبائل عشائرية.. تحمل مفاهيم ما قبل الدولة.. ولا تملك اية تصورات مدنية علمية.. وتفتقد لمواصفات القيادة الوطنية.. ناهيك عن اية قدرات للتخطيط او اهتمام جدي بالمستقبل.. تنفذ سياسات معادية للجماهير.. ولا تنسجم مع ابسط مفاهيم الوطنية والمواطنة..
امام هذه المعضلات ينبغي ان لا نضيع الفرص.. ولو للحظة.. للتنبيه.. ودق ناقوس الخطر المحدق بالجميع.. ولا يجوز أن نتساهل أو نبقى مجرد مشاهدين على مآل الاحداث.. التي تحمل بين طياتها المزيد من الكوارث والمخاطر.. ستفوق آلامها ما مرّ من محن وأوجاع.. رغم بشاعتها..
خاصة وإنّ المتربصين بالأجواء.. باتوا يتمركزون بيننا و”بموافقتنا” بحكم ملابسات السياسة المعقدة.. ومتطلبات الصفقات الاقتصادية والتجارية.. التي دخل في قوامها السياسيون الفاشلون.. الذين كانوا وما زالوا طرفاً منتجاً للخيبات والكوارث..
ولم يتوقفوا أمام أخطاء السياسة ومنزلقاتها الدامية.. لتقييمها وأخذ العبر منها.. وبالتالي معالجة مظاهر الفشل والاخفاق.. وإنتاج الفكر والمعرفة المطلوبة للبناء.. والتخلص من عقد الفشل.. وتراكمات العنف.. واستمرار حالة التراجع في الوضع الاجتماعي.. والعودة للدين.. الدين بمظاهره الشكلية الوضيعة.. المتشبثة بالعنف والقسوة والتطرف المشبع بالأحقاد التاريخية.. وليس الدين الرحمة والعدالة والسلام والمحبة والتآخي بين البشر..
لهذا سنتطرق في الاسطر التالية.. الى أهم ما يمكن قوله في هذا المجال.. عبر فقرات تشمل:
أولا.. تفشي مظاهر الفساد في كردستان..
ثانياً.. خطورة العنف الديني المنتج لداعش الكوردية..
ثالثا.. خطورة التدخل العسكري التركي وأبرز مستجداته ودوافعه وأهدافه..
أولاً ـ بالنسبة للفقرة الأولى..
يمكن القول.. ان الفشل السياسي في إدارة كردستان.. المستند على حكومة تجمع بين إدارتين شبه مستقلتين.. ما زال يفرض نتائجه المخيبة للآمال على الأوضاع الهشة وغير المقبولة في كردستان.. منذ أذار 1991 في اعقاب الانتفاضة الجماهيرية الكبرى.. وما اعقبها من تطورات.. انتجت حالة استثنائية جديدة في الإقليم.. افرزت إدارتين وسلطتين متخاصمتين.. في نطاق ما سمي بحكومة إقليم كردستان..
وهي تسمية دستورية وقانونية على الورق.. لا تجد لنفسها واقعاً حقيقياً على الأرض لحد هذه الساعة.. هي حكومة مفتقدة للملامح.. تتحكم بها أحزاب متخاصمة عبر ادارتين.. لم يجري بينهما توحيد للأجهزة العسكرية والأمنية والمالية.. تمارس سياسة تطبيق الصفقات التجارية والاقتصادية والاتفاقات الانتهازية مع الأحزاب والحكومات المركزية المتعاقبة على السلطة في بغداد.. وتمد خيوطها الى دور الجوار.. وتتعداه الى بقية الدول المتنفذة في العراق.. ومجموعة من الشركات الكبرى.. في مجال النفط والطاقة وبقية أوجه التجارة الدولية..
ورغم مرور أكثر من ثلاث عقود ونصف.. من الزمن.. على هذه المتغيرات في أوضاع كردستان.. وتحول الأحزاب المناهضة للدكتاتورية البعثية.. الى سلطة فعلية ومع حجم الإمكانيات الاقتصادية والزراعية والتجارية الهائل.. ناهيك عن حجم الواردات من استخراج وبيع النفط والغاز وبقية الثروات الطبيعية والمائية..
مازالت الأوضاع البائسة هي السائدة.. ومن المعيب ان يجري الحديث عن الإنجازات الشكلية المتمثلة بهياكل الاسمنت والابراج التي اخذت تنتشر بشكل عشوائي وفوضوي وتهدد المعالم الجغرافية الجميلة لطبيعة الجبال الساحرة..
في الوقت الذي كان فيه الاعلام الديماغوجي الحزبي.. يبشر منذ سنوات بتحويل كردستان الى دبي ثانية.. وكأن دبي وما فيها.. هي امثولة العصر والزمان.. يجب الاقتداء بها.. ومع كل هذا الهراء الإعلامي.. فإننا لا نجد في كردستان اليوم..
الا المزيد من مظاهر الفساد والفشل الاقتصادي والاجتماعي.. والأرقام التي تؤكد حجم المديونية المرعب بعد ان جرى استدراج القوى المتنفذة في السلطة في الادارتين.. الى مشاريع اقتصادية وتجارية رهنت مصالح ومستقبل الإقليم لصالح الدول والشركات العالمية.. وربطتها من خلال مؤسسات الإقليم الصورية والشكلية.. التي تعود لأشخاص وعوائل في الادارتين.. عبر سلسلة اتفاقيات ومراسيم.. جرى الاعداد لها خلف الكواليس.. في الغرف المعتمة كما يقول المثل..
وجرى إخراجها والاحتفاء بها في الاعلام.. كمنجز لصالح الجماهير.. في الصالونات الفارهة.. لتنطلي الخدعة على من لا يدرك خطورة هذه التوجهات.. وخطورة هذه الاتفاقيات المزركشة.. المصبوغة بالشعارات القومية ومصالح الشعب الكردي اولاً.. ناهيك عن بقية الجمهور المشارك للكرد في الإقليم وبقية ارجاء العراق ثانياً.. ممن سيتحملون أعباء ووزر هذه الاتفاقات المذلة..
كما جرى.. اثناء محاولات تشكيل اول حكومة عراقية.. بعد اسقاط النظام الدكتاتوري.. وتكرار نفس السيناريو.. عام 2010 اثناء تشكيل الحكومة العراقية الثانية للمالكي، وربط ذلك بمكاسب اقتصادية ومناصب سياسية، ترجمت من خلال اتفاقية أربيل.. ببنودها المعلنة والسرية.. بين تلك الأطراف في حينها..
وكما تكرر ايضا في زمن اعداد حكومة مصطفى الكاظمي.. حينما جرى الاتفاق على تحمل بغداد للديون البالغة 30 مليار دولار.. المترتبة على حكومة إقليم كردستان للشركات الاجنبية العاملة في مجال التنقيب عن النفط واستخراجه من 2014 ـ 2018، مقابل دعم ترشيحه كرئيس لمجلس الوزراء في الانتخابات الصورية المعلنة..
وهناك من زاد في الوضوح وسرب المزيد من المعلومات للإعلام وربط هذا الاتفاق بين مسعود البارزاني والكاظمي.. إثر لقاء جمع بينهما.. وأضاف لموضوع النفط مبلغ 736 مليون دولار هو رواتب البيشمركة التي تم الاستجابة لها وصرفها.. كمستحقات للبيشمركة فوراً..
بالرغم من أنّ الإقليم.. قد شهد حتى الآن وما زال يشهد.. تحولات سياسية لا يستهان بها.. تمحورت بتغيرات في الخارطة السياسية.. نجمت عن تصدعات وانسلاخات تنظيمية.. تمثلت بتشكيل حركة التغيير كمعارضة لبعض الوقت.. لكنها قررت المشاركة في الحكومة.. وترك ساحة المعارضة..
وهكذا كان الحال مع من كان يتبع برهم صالح.. الذي سعى لتشكيل كيان سياسي خاص به.. لكنه عاد لصفوف الاتحاد.. في سيناريو مشابه.. لما حدث في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني وتشكيل حزب الشعب عام 1980 بقيادة سامي عبد الرحمن.. الذي عاد ثانية بعد عقد من الزمن لصفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني..
وبالرغم من حدوث عشرات المظاهرات الاحتجاجية ضد الفساد المستشري فيه.. وما له صلة مباشرة بتأخير وقطع وسرقة رواتب الموظفين.. من قبل سلطات الإقليم.. تحت ذريعة العمل بنظام ادخار الرواتب والاستقطاع.. كما هو معلن لأكثر من مرة منذ عام 2014 ولحد الآن.. وغيرها من الأزمات الأخرى..
وما عرف عن الكرد وأهل السليمانية تحديداً.. كشعب متمرد لنْ يركع بسهولة، ويمتاز بثقافة عالية، وهذا ما يجعله يخرج بمظاهرات احتجاجية غاضبة باستمرار ضد السلطات الحاكمة.. وهو امر لا نستبعد حدوثه وتكراره اليوم.. او في المستقبل القريب.. بحكم الحاجة للإصلاح والتغيير.. واحتمالات اللجوء لجولات جديدة من العنف والصراعات المحلية.. المقترنة بالتدخلات الاقليمية والدولية..
التي تشهد هي الأخرى.. حالات من الصراعات المحتدمة.. تفرض ملابساتها.. المزيد من الضغوطات على الأطراف المحلية في إقليم كردستان.. وامتداداته بين إيران وتركيا وسوريا.. التي تحولت حدودها الجغرافية لساحات قتال.. منذ عقدين من الزمن..
وما تفرضه بالقوة متطلبات السياسة الدولية.. لصالح الدول الإقليمية.. المتربصة بالوضع في كردستان العراق.. وما تمتلكه من قدرات وامكانيات عسكرية.. يشكل تهديداً متوقعاً.. يسعى لتفكك الكيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي للإقليم.. في حال تطور الأمور نحو المزيد من العنف والدخول في اتون حرب كارثية جديدة.. تشمل عدة بلدان في الشرق الأوسط.. وهو احتمل كبير ما زلنا نتمنى استبعاده لكنه يفرض نفسه في كل يوم عبر المزيد من الاحداث التي تقصر المسافة وتقودنا لحافة الحرب المحتملة..
وهذا ما يستهله الفساد السياسي والاجتماعي في الإقليم.. المقترن بنمو الظاهرة الدينية في كردستان ومحيطها من جهة.. المرافق لجملة التحركات العسكرية الكبيرة لتركيا.. ودخولها في ارجاء واسعة من مناطق كردستان كما سنبين لاحقاً..
منوهين لمخاطر الترابط الثلاثي.. الذي يربط بين ـ الفساد والتطرف الديني والتدخل العسكري التركي ـ في صيغة علاقة لا يجوز الفصل بينها.. واستبعاد صفحاتها المشتركة والمتشابكة.. عند استقراء ملامح الأوضاع وما ستفرزه في المستقبل..
ونأمل أن يستوعب من يدير دفة السلطة.. هذا التنبيه..
كما نأمل ان تستوعب بقية الأحزاب.. ما يدور حولها من احداث معقدة.. بات من المطلوب تحديد الموقف ازاءها..
نأمل أيضا أن ينتبه الجمهور الواسع.. من أبناء هذه البلدان.. وفي المقدمة منهم أبناء كردستان.. الى ما يدور من مخططات تمس حاضرهم ومستقبلهم كمواطنين وبشر.. مازالوا يفتقدون للمواطنة والحياة الحرة الكريمة..
وينتبهوا الى انّ البعض ممن ينادون بالدفاع عنهم.. سيقامرون بهم.. ومستقبلهم.. في نطاق اتفاقات قادمة.. مع احتدام حالة الصراع.. وتحولاتها في الشرق الأوسط وهو احتمال نعيش ليس ارهاصاته الراهنة اليوم.. بل المقدمة للدخول في فصول جديدة من المخطط.. الذي يجمع ما بين الاحداث وحالة الصراع في غزة ـ فلسطين مع إسرائيل.. وانتهاء بـ اوكرانيا وروسيا وبقية الصفحات القادمة في أماكن أخرى من جغرافية العالم.. الذي يشهد تحولات الانتقال من عالم القطب الواحد الى تعدد الأقطاب.. لكنّ الأزمات سترافقه لعقود قادمة من الزمن.. لأنها لا تنفصل عن طبيعة المجتمع الرأسمالي المنتج لها..
سأكتفي هنا بالحديث عن الأوضاع في كردستان.. لأنوه الى أهمية ما يكتبه المنتقدون للأوضاع الشاذة السائدة فيها اليوم واخص بالذكر الكتابات الناقدة والجريئة للدكتور آلان نوري.. وما ورد في كتاب المحامي محمد صالح آميدي الصادر عام 2014 بعنوان (الفساد في إقليم كردستان وآليات المعالجة)..
وكذلك الى العديد من الكتابات لمثقفين باحثين.. من الذين لم يساوموا.. ومارسوا النقد ونبهوا وحذروا.. ممن جرت ملاحقة البعض منهم وتصفيتهم..
كما انوه الى البعض ممن مارس الكتابة وعمل العديد من حلقات البث في البرامج الخاصة وكشف عن تفاصيل الفساد في المجال السياسي وما تشهده أروقة ودهاليز السجون والمعتقلات من تجاوزات تعيد بالذاكرة لما كان يمارس في العهد البعثي المقبور وللأسف.. الأسف الشديد.. بالاعتماد على الجيل الجديد من خدام ومرتزقة سلطة البعث.. من أبناء الجحوش ورؤساء العشائر.. الذين أصبحوا كوادر في صفوف الحزبين.. وفي مؤسسات الإقليم المختلفة..
دون ان نغفل.. وهذا هو الأسوء تحول كردستان الى ملاذ للبعثيين والقتلة.. من ضباط الامن والمخابرات ممن جرى اسكانهم وتوظيفهم ودعمهم من قبل مؤسسات الإقليم بما فيها مؤسسات الأمن والمخابرات.. بحجة الاستفادة من خبرتهم ومعلوماتهم.. التي جرى توظيفها في مجالين محددين هما:
1ـ كيفية تشكيل جهاز سلطة قوى ومسيطر.. يعتمد على القوى الأمنية والمخابرات..
2ـ كيفية التغلغل في الأوساط الحزبية.. واختراق الأحزاب الأخرى.. والقوى والاوساط الشعبية.. ومعرفة طبيعة تفكيرها.. وتوجهاتها.. وتفكيكها وتخريبها.. والتصدي للاحتجاجات المحتملة..
بدلاً من التفكير بمعالجة المشكلات الراهنة.. وإجراء الإصلاحات الممكنة في مؤسسات الإقليم.. وتوفير الخدمات للمواطنين.. وتسخير واردات النفط للتنمية لتطوير الصناعة والزراعة.. ومعالجة جوانب الخلل والنواقص.. وتوفير الخدمات التعليمية والصحية.. وخلق مقدمات بناء الدولة المدنية.. دولة المواطنة بمستحقاتها الشاملة..
وهذا يتطلب مراجعة جدية جريئة.. والتخلص من أعباء الفشل ونتائجه.. بالعودة الى ممارسة سياسة تجعل من اولياتها:
تصفية مظاهر الفساد.. ومعالجة موضوع المديونية المتفاقمة.. وجدولة المشاريع والاتفاقات غير المجدية.. وتعديلها أو الغائها.. ووضع أسس جديدة لبناء الدولة المدنية ـ بمشاركة المؤسسات والجهات التي لم تنغمس بالفساد.. ولا تعتمد على العلاقات الحزبية البائسة.. المنتجة للفساد والخراب والدمار.. بعد أن تحولت أحزاب السلطة.. الى مؤسسات مالية وشركات تجارية.. تمارس القمع ضد الجماهير المطالبة بحقوقها..
وإقرار الموازنة المالية.. واعلانها.. وتوضيح طبيعة الالتزامات المالية للإقليم.. وعدم ربطها بالأشخاص والجهات الحزبية.. والتوقف عن الاقتراض غير المجدي.. ومعالجة مشكلة المديونية بعد أن بلغت رقماً مخيفاً ومعيباً.. يشكل عبئاً اقتصادياً جائراً سيمتد تأثيره إلى الأجيال القادمة..
وفي هذا المجال لابد من التصدي وبشدة لبقية مظاهر الفساد الذي يشوبه اي النقص.. وقلة الإدارة.. بل الاستهتار والسرقات.. والسعي الجاد للتحقيق في طبيعة هذه الديون.. والتحري عن طرق صرفها ومبرراتها، والجهات التي تمّ الاقتراض منها.. وتحديد المدة الزمنية لإنجاز المشاريع المتوقفة والمتلكئة والتركيز على المشاريع الضرورية والمنتجة.. وفق خطط تنموية مقبولة وناجحة..
ولأجل تحقيق وإنجاز هذه المهمة لا بد من التخلص من أعباء وسوء الادارتين الفاشلتين.. في أربيل والسليمانية.. وتوحيد الجهود ومعالجة ظاهرة الانقسام والفساد.. اللذان ينخران المؤسسات العسكرية والأمنية في الإقليم ووزارة الدفاع في بغداد..
وما يرافقها من مهازل فضائية.. وتلاعب بالمخصصات المالية.. ومقاييس التجنيد والتوظيف والترقيات وفقدان المهنية.. وضعف في الأداء والكفاءة.. وضعف الانضباط وعدم الشعور بالمسؤولية.. والهروب من المواجهة.. وعدم الاستعداد للتضحية وحماية المواطنين والدفاع عن مصلحة الوطن إن تطلب الموقف في اللحظات الحرجة.. كما حدث في مرحلة التصدي لداعش من انهيارات وهزائم يندى لها الجبين.. اسفرت عن كل تلك الجرائم البشعة.. التي ارتكبتها جحافل دولة الخلافة الإسلامية الاجرامية ـ داعش..
وتواصلت مهزلة الفساد في الصفحات التالية للحدث.. تحت ستار التصدي للدواعش وتحرير المدن بمشاركة أفواج الحشد الشعبي.. التي هي امتداد لظاهرة الجحوش المزمنة في كردستان والعراق..
لتشكل استنزافاً لمالية الدولة.. من جراء تفاقم الفساد.. وفتح المزيد من الطرق والابواب للنهب والسرقات بحجة التصدي للدواعش والحاجة للسلاح والعتاد. والمزيد من الصفقات المساهمة في تحويل المال العام إلى الجيوب الخاصّة للمسؤولين والكوادر ومجموعة من الضباط..
الذين تحولوا الى مرتزقة.. يخططون للمزيد من الفساد.. في المؤسسات العسكرية والأمنية.. بدلاً من أداء دورهم المطلوب في مكافحته..
وانعكس هذا بشكل واضح في الموقف المخزي امام الدواعش في الموصل وسنجار وبقية مناطق سهل نينوى.. تمثل كما شاهدنا في بقية فصوله.. تواطئاً بين التشكيلات العسكرية للجيش والشرطة العراقية ومعها قوات البيشمركة.. التي انهزمت بدون اية مقاومة.. وسلمت الموصل وسنجار وبقية مدن سهل نينوى للدواعش.. بتلك الصورة الكاريكاتورية المخزية..
وجاءت كل هذه الاحداث المتسلسلة بعد موجات العدوى من الفساد المستشري في الأوساط السياسية والحزبية.. وفي صفوف القوات المسلّحة ككلّ.. لتؤكد ان شفا الانهيار أمام زحف بضع مئات من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية الاجرامية ـ داعش على مناطق شاسعة.. في نطاق جغرافية الموصل.. وهي ثاني أكبر محافظة بعد العاصمة بغداد..
لتؤكد إن ظاهرة الفساد.. في العراق والاقليم لا تنفصل عن نهج قيادات المسؤولين.. في مؤسسات الدولة والأحزاب.. واستمرار الخلافات المفتعلة بين بغداد واربيل.. على الرواتب والحصص المالية وهي تفاصيل ساهم فيها بدور فاعل الفساد الإعلامي بشكل مخطط له.. للتغطية على الجرائم والاخطاء السياسية القاتلة..
التي مهدت الطريق وعبدته لقوى داعش.. لكي تمارس دورها المرسوم لها.. وفقاً للاستراتيجيات الدولية والاقليمية المتصارعة فيما بينها.. والتقت خيوطها مع القوى المحلية المتعفنة في العراق وكردستان.. لتنسج لنا تلك اللوحة القبيحة.. التي ما زلنا ندفع ثمنها لليوم..
وسنبقى ندفع الثمن أغلى وأغلى.. انْ لمْ ننتبه لبقية فصول المخططات.. التي تدور من حولنا.. وفي محيطنا المتأزم الذي يشهد المزيد من التوترات والصراعات المحتدمة..
ــــــــــــــــــــ
28 آب 2024
ـ القسم الأول.. من ابعاد مثلث الخطر.. يعقبه حلقتين مكملتين.. عن العنف الديني المنتج لداعش الكردية.. وخطورة التدخل العسكري التركي الذي تحول لقوة احتلال..