غالبية البلدان التي شهدت التغييرات الجذرية، عن طريق تنفيذ إنقلاب عسكري أبيض أو دموي والبيان رقم واحد، أو إشعال ثورة مدنية أو عسكرية حقيقية، أو إنتخابات ديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، عندما تخفق حكوماتها وتجد ذاتها في مآزق وأزمات متتالية، وترى شعبها يعيش في اليأس ويتجه نحو الهاوية، أو تتدهور الأمور الخدمية أوالمعيشية أوالسياسية أوالأمنية. تفكر مرة أخرى في اللجوء الى التغيير وتلجأ للإنقلاب على الإنقلابيين، أو ثورة على الثوريين، أو الى إنتخابات جديدة لتحقيق المأمول.
في العراق الذي تدهورت فيه غالبية الحالات بطرق غير متوقعة من أحد، بسبب السياسات الهوجاء. وتعرض كرامة الانسان الى الانتهاكات، وإفتعال الأزمات بدوافع حزبية وطائفية ومذهبية ودينية وقومية، وفي خضم التطورات السريعة في المنطقة، والمشهد السياسي المربك ومطباته الظاهرة والخفية، والجولات السرية والعلنية للمسؤولين الأجانب في العراق والمنطقة، والتركة الثقيلة والمعقدة التي خلفها حيدر العبادي الذي فاق كل رؤساء الحكومات العراقية في الكذب والمراوغة والتوتر والاضطراب، والتراجع عما إتخذه من قرارات وما أعلنه من مواقف، وما صدر عنه من أقوال عن كل الأمور. تتبادر إلى الذهن العديد من الأسئلة، ومنها: هل يعيد التاريخ نفسه في العراق؟ وإن أعاد نفسه هل يكون بشكل أحسن أم أقذر؟ وهل يفكر العراقيون أو بعضهم في تكرارعملية التغيير؟ خاصة وأن كل أسباب التغيير لا تزال قائمة. الفساد والفشل والفقر وسوء الخدمات والفساد والمحسوبية وهدر المال العام، وإنتشار السلاح وضعف قدرة الدولة على فرض الأمن والقانون وتنفيذ الدستور، وعدم تقديم أي منجز، والتعامل بفوقية مع أجزاء مهمة من الشعب.
التغيير الذي حصل في العام 2003، لم يكن نتيجة لإنقلاب أو ثورة أو إنتخابات، بل كان نتيجة لإحتلال خارجي. رغم ذلك فرح به الكثير من العراقيين وسموا الإحتلال تحريراً، ولكن فرحهم لم يستمر، ولم يقطفوا ثمار التغيير بعد نضجها، بل أصبحوا وقودا لنار حامية، وضحايا لنفاق سياسي مذهل يفوق كل أنواع النفاق.
العراقيون يعرفون الداء ولكنهم لايعرفون من أين يأتوا بالدواء، والأوضاع الآن لاتتحمل الحلول التخديرية أو الترقعية لتحقيق مأرب خاصة. لذلك يتعثر التفكير عندهم تحت ظلال السحب الداكنة ودخان الألغاز والنداءات والآهات. لايوجد في الأفق شيء يوحي بأن هناك مشروع وطني جامع يمكنه إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر إنتخابات ديمقراطية. ولايوجد ثوار يمكن الإعتماد عليهم في قيادة وإشعال ثورة.
العراقيون لايفكرون، قطعاً، في تسليم بلدهم الى محتل جديد. لأنهم لايضمنون أن التغيير الجديد، أي الإحتلال الجديد، لو حصل، سيسد الطريق أمام الخوف ولايأتى بشخص أكثر حماقة من بول بريمر الكذاب ليحكم البلد ويسمم الحياة السياسية وينهب ما تبقى. ولا يضمنون أن الحكومة التي تأتي ستكون مختلفة عن الحكومات التي حكمت بعد التغيير الأول، ولاتكون غنيمة لسياسيين إنتهازيين يتم تدويرهم لتكريس الإنقسامات، ولا يضمنون عدم تكرار استسلام جماعي آخر لليأس، وعدم الإنغمار بتعاسات تفتك وتفكك وتمزق الحرث والنسل.