يسعى المرء وبكل ما أوتي من قوة للحفاظ على نفسه واهله ؛ وممتلكاته وحمايتها من الاخطار , وهذا السلوك وهذه النوازع النفسية اشبه بالفطرة الانسانية ؛ فالإنسان مجبول على حماية نفسه والدفاع عنها , لذا جرت السيرة العقلانية لبني البشر على ذلك , فلا يقدم على الموت او التهلكة الا من كان احمقا او ساذجا او مريضا او مؤدلجا او مغيبا عقليا او مخدرا … الخ ؛ نعم هنالك استثناءات سوف نذكرها في محلها , ولان الانسان يحتاج الى الشُّعور بالاطمئنان على نفسه أو ذريَّته أو أمواله ؛ يعمل على حماية نفسه وامواله وذويه من خلال الابتعاد عن مواطن الخطر والنأي بالنفس عن موارد الهلاك , لذلك أكدت آيات القران الكريم على وجوب حفظ النفس وعدم القاءها في التهلكة , وقد جاء في الآية 195من سورة البقرة : (( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )) و التهلكة هنا لا تقتصر على هلاك النفس فقط ، بل تمتد في معناها إلى كل أشكال الإضرار بها او بمتعلقات الانسان الاخرى ، اذ يجب الابتعاد عن الأمور التي تتسب في إيذاء الناس لأنفسهم او الحاق الضرر بما يملكون ؛ لذا رسخت الآيات القرآنية والروايات الإسلامية هذه المفاهيم في عقول المسلمين ، حتى يحافظ الناس على أنفسهم مما يؤذيهم بشكل عام … , بل عد الفقهاء حفظ النفس من اهم مقاصد الشريعة الاسلامية ؛ ومما سبق تعرف ان السيرة العقلانية و مقاصد الشريعة الاسلامية تدعونا الى السير على نهج التقية وعدم القاء النفس في التهلكة , والتي شرعت لحفظ المؤمنين والاشخاص الضعفاء من بطش الكفار والمجرمين الاقوياء , وتعتبر حادثة الصحابي عمار بن ياسر من الشواهد الكثيرة على ضرورة لزوم التقية عند الشعور بالخطر , بل ان النبي محمد امتدح تقية عمار , اذ قال له : ((إِنْ عَادُوا فَعُدْ )) , و قال السرخسي الحنفي في معرض حديثه عن تقيّة عمّار بن ياسر بإظهار كلمة الكفر بعد الإكراه عليها مع إطمئنان قلبه بالايمان : (( إلّا أن هذا النوع من التقيّة يجوز … )) , ونظير هذا هو ما حصل في بدايات أمر الدعوة إلى الدين الجديد في مكّة ، فقد اتّفق الكلّ على بدء الدعوة إلى الإسلام سرّاً ، وصرّح أرباب السِّير وغيرهم بأن النبي محمد لم يجهر بالدعوة إلى الإسلام إلّا بعد ثلاث سنوات على نزول الوحي ، لان الخوف من قائد المشركين أبي سفيان وأعوانه من المشركين كأبي جهل ونظرائه كان قائماً على أصل الدعوة وأنصارها في ذلك الحين ، فكان من الحكمة أن يلتزم النبي محمد واتباعه بالتقية والحذر , وهكذا كلّ دعوة إلى الحقّ في مجتمع متعسف ظالم ؛ لابدّ وأن تكون في بداياتها غريبة ومحاربة ومحاصرة ، تلازمها التقيّة حتّى لا يذاع سرّها وتخنق في مهدها , ويقتل دعاتها وهم في بداية أمرهم .
وقد حذر النبي محمد المسلمين والمؤمنين من التهور وتعريض انفسهم للذل او تحميلها ما لا تطيق ؛ اذ قال : (( لا ينبغي للمؤمن – وفي حديث اخر : لا ينبغي لمسلم – أن يذلّ نفسه ، قالوا : وكيف يذلّ نفسه ؟ قال : يتعرّض من البلاء لما لا يطيق )) اذ ان اقتحام الصعاب ومواجهة الاعداء الاقوياء من قبل الناس العزل والضعفاء ؛ مما يوجب الذل والهزيمة واهدار الكرامة , وقد نصح العقلاء والحكماء الناس بعدم التكلم بالحق من موقع ضعف , اذ عندها الحق لا يطبق والمتكلم به يقتل او يشرد او يعتقل ويعذب كالأسير .
واما الاحاديث والروايات الواردة عن ال البيت بشأن التقية ؛ قد بلغ رواتها الثقات عدداً يزيد على الحد المطلوب في التواتر , وقد تجد في جملة من الروايات ما يدلّ على عمق تاريخ التقيّة في الحياة البشريّة ، باعتبارها المنفذ الوحيد المؤدّي إلى سلامة الإنسان ازاء ما يعرضه للفناء ، أو يقف حجراً في طريق تحقيق مصالحه المشروعة وحماية امواله وممتلكاته , و وصِفت التقيّة في جملة من الأحاديث بأنّها ترس المؤمن ، وحرزه ، وجنته ، وإنّها حصنه الحصين ونحو هذه العبارات الكاشفة عن أهميّة التقيّة.
وسأكتفي بذكر البعض منها : عن أبي عمر الأعجمي ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « يا أبا عمر ، ان تسعة أعشار الدين في التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له » ومما لا شكَّ فيه ان هذا الحديث يدعو الى التقية ، فهو ناظر من جهة إلى كثرة ما يبتلى به المؤمن في دينه ولا يخرج من ذلك إلّا بالتقيّة خصوصاً إذا كان في مجتمع يسود أهله الباطل والقهر والظلم ؛ ومن جهة اُخرى إلى قلّة أنصار الحقّ وكثرة أدعياء الباطل حتّى لكأن الحقّ عشر ، والباطل تسعة أعشار ، وعليه فلا بدَّ لأهل الحقّ من مماشاة أهل الباطل في حال ظهور دولتهم ليسلموا من بطشهم وبغيهم … ؛ بل وصل الامر بالإمام جعفر الصادق ان يتبرأ من المؤمن الذي لا يلتزم بالتقية بل ويخرجه من دائرة الموالاة لهم بل ويلعنهم احيانا وعلى رؤوس الاشهاد , وقد قرن الامام الصادق بين ترك التقية وبين التعرض لاعتداءات السفلة والجهلة والظلمة ؛ اذ قال : (( ليس منّا من لم يلزم التقيّة ويصوننا عن سفلة الرعية)) وقد شرع الائمة من ال البيت التقية لكل ضرورة واباحوها لكل شيء يُضطرّ إليه , ومما يؤكد ذلك روايات ال البيت ومنها رواية الامام محمد الباقر : ((التقيّة في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له )) نعم تنتفي التقية ولا يجوز العمل بها , اذا وصل الامر الى ازهاق الارواح وقتل النفوس ؛ اذ قال الامام محمد الباقر : (( إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة )) وكذلك قال الامام جعفر الصادق : (( إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة )) فإنما شرعت التقية لئلا تراق الدماء , فالعمدة في تشريع التقية حفظ النفس وصيانتها من الهلاك , فأن شعر المرء بدنو الاجل منه فلا تقية , اذ يجب عندها الدفاع عن نفسه والمجاهرة بمعارضة الظالمين والجلادين وعدم التسليم لهم كالعبيد الاذلاء ، الا ان ذلك لا ينفي العمل بالتقية لأجل حفظ الاعراض والاهل والاموال ايضا , كما مر انفا .
وطالما حذر ال البيت اتباعهم من المؤمنين والمسلمين من التعرض للمجرمين ومخاصمة الظالمين واعلان الحرب على الحكام والطغاة والجلادين , وقد ارسل الامام جعفر الصادق رسالة الى اصحابه , جاء فيها : (( … وعليكم بمجاملة أهل الباطل ، تحملوا الضيم منهم ، وإيّاكم ومماظتهم … )) وبالجملة ، فان مخالطة أهل الباطل والجور واصحاب القوة والنفوذ والسطوة والسلطة عند غلبتهم ضرورة لا بدّ منها ؛ وقد نهجها من قبل مؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف وغيرهما كما جاء في الآيات القرآنية .
ومع كل دلائل السيرة العقلانية وبيان مقاصد الشريعة الاسلامية الواضحة وتعليمات وارشادات ال البيت المشددة والتي تدل على ضرورة الالتزام بالتقية والعمل بالحيطة والحذر ؛ عند ظهور اهل الباطل وانتصار المجرمين وتمدد الظالمين و بروز سطوة وغلبة الجلادين ؛ يصر بعض الجهلة والمرتزقة من رجال الدين على مخالفة هذه السيرة العقلانية ومعارضة تلك المسيرة الدينية , وتعريض الناس للخطر والضرر , من خلال تسويق الخطاب الديني المتطرف والخرافات والخزعبلات والدعوة للعنف الفوضوي والثورة العاطفية والتي تفتقد لكل عناصر القوة والمنطق والشرعية والواقعية , والتحدث بالموروثات الدينية التي ألصقت زورًا وبهتانًا بالإسلام والتي تعد من الأمور التي تؤدي الى هلاك الناس وابادتهم على ايدي الحكومات والطغاة .
وهذه التعليمات الدينية والتوجيهات الشيعية والتحذيرات التي هي اشبه بالأوامر السرية و الضوابط الامنية والتي صدرت من ائمة ال البيت وقادة وزعماء و وجهاء وعلماء وفقهاء الشيعة ؛ ان دلت على شيء فإنما تدل على الظلم الكبير والجور والبغي الخطير والاقصاء والتهميش والمحاصرة والمطاردة والتعذيب الشهير ؛ الذي تعرضت له الاقلية الشيعية في العالم الاسلامي وقتذاك , ولا نجانب الصواب ان قلنا ان الاقلية الشيعية تعتبر من أكثر الأقليات اضطهادا في العالم سواء في التاريخ القديم ام المعاصر , ونظرة خاطفة على اوضاع واحوال الشيعة في العراق والسعودية وافغانستان وباكستان والبحرين وغيرها خلال القرن المنصرم والقرن الحالي ؛ وما تعرضوا له من مضايقات واعتقالات واعدامات وتهميش ومطاردات وازمات وافقار … الخ ؛ تعطيك انطباعاً عن حقيقة الامر وعظم المأساة وهول المصيبة .
ومن الشواهد على ما ذكرناه انفا ؛ جرائم ومجازر الحكم السني البعثي التكريتي الصدامي بحق الاغلبية العراقية الاصيلة , ولعل مقولة رئيس الاستخبارات السعودية السابق بندر بن سلطان التالية ؛ تكشف لنا بعض المخططات الجهنمية بشأن ابادة الشيعة ؛ اذ قال : (( لن يكون ذلك اليوم بعيدا في الشرق الأوسط حين سيتولى مليار سني أمر الشيعة )) في إشارة إلى إبادتهم والقضاء عليهم , فقد ساعدت السعودية “داعش” في الاستيلاء على شمال العراق باعتبار ذلك جزءا من عملية أوسع لإبادة الشيعة وتحويل حياتهم إلى ما يشبه حياة اليهود في ظل النازيين الألمان … ؛ وقال رئيس المخابرات البريطانية الخارجية(MI6) ريتشارد ديرلوف : ((إن اللحظة القاتلة التي توعد بها بندر بن سلطان الشيعة قد جاءت، ليس من خلال عمليات الإبادة الشاملة لهم بواسطة العمليات الانتحارية فقط، حيث سقط منهم أكثر من مليون شيعي بالسيارات المفخخة والعمليات الإنتحارية منذ العام 2003 حتى الآن، بل بشكل خاص عندما ساعدت السعودية “داعش” للإستيلاء على شمال العراق(نينوى والموصل)، وعندما أقدمت “داعش” على قتل النساء والأطفال الشيعة و الإيزيديين وقتل طلاب الكلية الجوية (قاعدة سبايكر) في 10 حزيران الماضي ودفنهم في مقابر جماعية… ؛ ويتابع ديرلوف القول : في الموصل جرى تفجير المزارات الشيعية والمساجد، وفي مدينة تركمانية شيعية قريبة من “تلعفر” وضعت “داعش” يدها على أربعة آلاف منزل باعتبارها “غنيمة حرب”. وهكذا أصبحت حياة الشيعة فعلا في العراق، وكذلك العلويين الذين يعتبرون فرعا منهم في سوريا ،فضلا عن المسيحيين وأبناء الأقليات الأخرى، أكثر خطرا من حياة اليهود في المناطق التي سيطر عليها النازيون في أوربا اعتبارا من العام 1940... ؛ وقال ديرلوف : لا شك في أن تمويلا هائلا و متواصلا لداعش من السعودية وقطر قد لعب دورا محوريا في استيلائها على المناطق السنية في العراق، فمثل هذه الأشياء لا تحدث ببساطة من تلقاء نفسها، والتعاون بين أغلبية السنة في العراق و”داعش” لم يكن ليحصل دون أوامر وتوجيهات وموافقة الممولين الخليجيين )) والخطير في الامر ان الكثير من اتباع المذاهب والمدارس والحركات السنية ؛ يعتبرون الشيعة وغيرهم من الاقليات الاسلامية ( غير مسلمين وكفارا ) لاسيما عند الحركات الوهابية والسلفية والتكفيرية والارهابية … ؛ وعندما تشن السلطات السعودية حملات امنية تطارد فيها تلك الحركات في بعض الاحيان لا لأجل عيون الشيعة او لحقن دمائهم انما بسبب نشاطاتهم المعادية للسلطات السعودية في الداخل او لإحداثهم القلاقل في المجتمع السعودي او تنفيذا للأوامر الاستعمارية والاستكبارية الخارجية .
وقد تعرضت الاغلبية العراقية لعمليات الابادة والتعذيب والتطهير العرقي والطائفي ومجازر البعثية وجرائم الاجهزة القمعية الصدامية , ودفن ابناء الشيعة وهم احياء في المقابر الجماعية ؛ حتى الفرار لم يعد متاحا لهم بعد أن أغلقت البلدان المجاورة الحدود في وجوههم وتركتهم لمصيرهم المجهول – باستثناء ايران – ؛ابان عقد الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم ؛ وكل منظمات حقوق الانسان تعلم بذلك , وكانت هذه الجرائم المروعة تجري بعلم القوى الكبرى والدول الاستعمارية والاستكبارية والغربية , ولم يُحرك أحد ساكنا ، والتزم العرب والمسلمون قاطبة الصمت وكأن شيئا لم يكن , وربما أصبح موت الحيوانات أكثر أهمية من موت الشيعة عموما وابناء الاغلبية العراقية على وجه التحديد .
والى هذه اللحظة ثمة جرائم ومضايقات لا تحصى ترتكب يومياً في حق مسلمي الشيعة ؛ كل يوم وكل ساعة في الدول الاسلامية والعربية ، لا لسبب إلاّ لكونهم مسلمون شيعة مسالمون … ؛ واتخذ الاعداء والمجرمون والذباحون والارهابيون قتل الشيعة وسيلة للوصول الى الجنة ؛ وقتلوهم وعذبوهم بأقذر واشنع وأقسى الأساليب التي عرفها البشر.
ويعمل بعض الحمقى والسذج والجهلة والمرتزقة والعملاء من رجال الدين والمتعصبين والطائفيين ؛ على اثارة النعرات الطائفية وتأجيج مشاعر العداوة لدى الاخرين , واستفزاز المخالفين , وتحويل الشيعة الى اقلية محاصرة ومستهدفة اعلاميا وعسكريا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا … الخ ؛ بل والزج بأبناء الشيعة للاصطدام مع القوى العسكرية والامنية القمعية لهذه الدولة او تلك الجماعة , علما ان روايات ائمة ال البيت وسيرة قادة وزعماء و وجهاء المذهب ؛ تدل على ضرورة الابتعاد عن مزالق الهاوية ومواطن التهلكة , وعدم الاحتكاك بالظالمين والمجرمين والجلادين فضلا عن مجابهتهم ومقارعتهم من مواقع الضعف والهوان والانكسار ؛ او محاربتهم مع قلة العدة والعدد وغياب الناصر , وسقط الالاف بل الملايين من الضحايا الشيعة جراء تلك السياسات المنكوسة والسلوكيات الخاطئة والمسرحيات المكشوفة والمؤامرات السرية وفي كل زمان ومكان من البلاد الاسلامية ؛ ولكن ما ذكرناه انفا لا يعني انه السبب الرئيسي لما عانه ويعانيه الشيعة من قتل وتشريد وظلم ومحاصرة وتهميش … الخ , بل انه يمثل اقل من 30 % من الاسباب المؤدية لذلك ؛ اذ ان السبب الرئيسي بل لعله الاوحد في بعض الاحيان في قتل الشيعة وظلمهم وتهميشهم واقصاءهم , اجرام الحكام السنة الطائفيين والحركات والمذاهب والمدارس السنية المتعصبة والمتشددة ؛ والمستند على الفكر السني التكفيري وعلى فتاوى التكفير التي تدعو الى ذبح ونحر الشيعة , فلو وضع المواطن الشيعي نفسه في صخرة وعلى قمة جبل ؛ لوجد الحاكم السني المجرم والحركات التكفيرية الارهابية ألف سبب وسبب لقتله ونهب امواله واهدار كرامته ؛ والعجيب ان المنكوسين من المحسوبين على الشيعة , لم يكتفوا بهذا العدو التاريخي الشرس الذي لا يرحم صغيرا وكبيرا ويرتكب بحقهم ابشع المجازر والجرائم , فقد زادوا الطين بلة , عندما قاموا باستعداء القوى الدولية الكبرى وجيوش الاستعمار والاستكبار , فجعلوا الشيعة بين مطرقة النواصب المجرمين والتكفيريين الذباحين والسنة الحاكمين وبين سندان القوى الغربية والشرقية والدوائر المخابراتية العالمية والجيوش الاستعمارية والاستكبارية ؛ بحيث اصبح الشيعة في بعض الدول الاسلامية بأوضاع مزرية لا يحسدون عليها , اذ اعتبرهم البعض مواطني من الدرجة العاشرة , والغريب في الامر ان البريطانيين والتكفيريين يتفقون احيانا على الفتك بالشيعة واذلالهم والحاق الاذى بهم ؛ كما قد يتفق الصهاينة مع بعض الانظمة العربية لتحقيق هذا الغرض .
ولشدة غباء بعض المحسوبين على الشيعة , وانعدام وعيهم السياسي وعدم الاتعاظ بالتجارب التاريخية الطويلة والمتكررة ؛ انهم يطالبون وبكل حماسة بإقامة الدولة الدينية والتي ان كانت سنية ؛ شنت حكومتها حرب شعواء لا هوادة فيها ضد الشيعة وحرمتهم من ابسط حقوقهم , والشيء بالشيء يذكر عندما قاتل الشيعة مع الاتراك العثمانيين ضد الانكليز , غدر الاتراك العثمانيين بهم وقدموهم ككبش فداء , وفي اكثر من موقع وحادثة وهم في الرمق الاخير من إمبراطورتهم وسطوتهم الطائفية , او عندما فرح بعض الشيعة الاسلاميين بانتصار الاخوان المسلمين في مصر واستيلائهم على الحكم , وعندها قاموا بقتل الشيعة ومطاردتهم وتوعدوا الشيعة في كل انحاء العالم وراح ضحية هذه الحكومة السنية رجل الدين الشهير حسن شحاتة الشيعي المصري … الخ ؛ اما ان كانت الحكومة شيعية فهي مما لاشك فيه ستكون كخلية العسل اذ تصبح وكرا للزنابير , فما من دولة شيعية قامت الا وهجمت عليها فلول النواصب الحاقدين وشراذم التكفير المجرمين , وحاصرتها حكومات التسنن والتكفير وانظمة العمالة والخيانة ؛ وعليه لا يوجد خيار امن للشيعة افضل من الدولة المدنية المتحضرة , والحكومة العلمانية العادلة , والمشاركة الفاعلة في مجتمعاتهم واوطانهم والاندماج مع بقية الفئات والجماعات وعدم التميز عنهم في دوائر الدولة او الاماكن العامة مع مراعاة تميز الهويات والاستثناءات التي لا تتعارض مع الهوية الوطنية والقيم الحضارية المعاصرة والمثل الانسانية العامة ؛ وكذلك النظر بعين الاعتبار للنسب السكانية والهوية التاريخية الوطنية فليس من المنطقي والمعقول ان تحكم ايران الشيعية من قبل الاقلية البلوشية السنية وكذلك الامر في العراق والبحرين ؛ وهذا ليس من الطائفية بشيء بقدر ما هو استحقاق وطني وتاريخي و واقعي .
فعلى الشيعة في كافة انحاء العالم , التمسك بالمشتركات الوطنية والانسانية مع الاخرين , والابتعاد قدر الامكان عن اظهار التنافر والتناقض مع المخالفين والمواطنين , وابراز مشاعر الود والاحترام وعدم الاتصاف بالمشاعر السلبية والطائفية تجاه الغير , بشرط ان لا تكون هذه السلوكيات الايجابية من موقع الضعف بل من موقع القوة والاعتزاز بالهوية الشيعية الوطنية والاسلامية , والعمل على تهذيب المذهب من كافة الخرافات والخزعبلات والترهات وشجب تصرفات رجال الدين المنحرفين والمغالين والمنكوسين والطائفيين السلبيين … , وليس المطلوب إظهار تشيّع الشيعة، فهذا ظاهر إلى درجة الوجع، انما المطلوب أن يكون الشيعة مواطنين مندمجين في مجتمعهم ومقبولين من مجتمعهم بشكل كامل … ؛ ولقد كان هذا الخط دَيْدَن الأئمة وسياستهم ولم يكونوا في ذلك موالين للأنظمة … ؛ وقد كانت رسالتهم السياسية وارادتهم السياسية تقتضي هذا النوع من السلوك لأنه ليس المطلوب إحداث فتنة في المجتمع، بل من المحرم إحداث فتنة في المجتمع… ؛ وبحسب مراجعة أئمة أهل البيت شؤون خطهم السياسي في الأمة الاسلامية ، كان همهم الأول والأعظم دمج الشيعة في الأمة، وليس عزل الشيعة عنها , والدعوة للوحدة الاسلامية من خلال التأكيد على الاواصر المشتركة والتاريخ الواحد والدين الواحد , وكذلك يجب على الشيعة النأي بالنفس عن معارضة الانظمة الحاكمة بمفردهم , لانهم سوف يتهمون بالطائفية او العمالة او الخيانة والتخريب والغوغاء , او يتم القضاء عليهم بسهولة , والتكيف مع الانظمة ومد جسور التفاهم معها , بحيث لا ينظر هذا الحاكم او ذلك النظام السياسي الى الشيعة كعامل عدم استقرار ومعارضة او مصدر للخوف والتهديد .
وان كنا ندعو الى مصالحة الشيعة مع شعوب الدول الاسلامية والعربية وغيرها والتعايش مع سائر الجماعات والطوائف والمذاهب والاديان وعدم الاحتكاك السلبي معهم او اظهار مظاهر العداء والشجب والاستنكار لعقائدهم ومبادئهم وطقوسهم وسلوكياتهم , فمن باب أولى اننا ندعو الشيعة الى عدم الاصطدام مع القوى الدولية الكبرى واذنابها والدخول معها في معارك خاسرة , فليس من المعقول ان تتبرع الانظمة السنية بالأراضي الفلسطينية للصهاينة ثم يتفق الفلسطينيون مع الإسرائيليين وترحب الانظمة العربية والاسلامية بالتطبيع مع اسرائيل ؛ خوفا من ردة الفعل العسكرية الصهيونية والعقوبات الأمريكية والغربية وغيرها من المخاطر , ليأتي الشيعي المسكين والضعيف ليرفع لواء محاربة الكل ومقارعة الجميع وبيد شبه مشلولة , حتى شاع الآن مثلاً أن الوحيدين الذين يقفون في وجه تسوية الشرق الأوسط هم الشيعة ؛ هذا الأمر بمقدار ما يفتخر به بعض الشيعة وقصار النظر، يشكل خطراً حقيقياً على الشيعة , فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن يبدو الشيعة وحدهم في مقابل ما يسمى مشروع سلام الشرق الأوسط , أما أن يشاركهم فيه غيرهم وألا فلا داعي لأن يظهروا أنهم وحدهم «عشاق ليلى» ؛ إما أن يكون لهم شركاء في عشقها أو لا داعي لأن تكون معشوقة على الاطلاق , كما ذهب الى ذلك المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين – رجل الدين الشيعي اللبناني – , فالحوار مع الاخرين والهدنة مع القوى الدولية الكبرى وغيرها ؛ هو الطريق الاسلم للحفاظ على الطائفة الشيعية , و كان الفقيه محمد مهدي شمس الدين يوصي الشيعة على الدوام بأن : لا ينظروا إلى أنفسهم كفئة متميزة عن سائر شركائهم في الأمة والوطن ، وتالياً يجب أن يندمجوا اندماجاً كاملاً في محيطهم الوطني والقومي والإسلامي من خلال الانخراط في أرقى درجات الالتزام الأخلاقي بقضايا الوطن والمواطنين، والالتزام بحفظ النظام وطاعة القوانين … .
وعندما ندعو الشيعة الى التزام التقية والحذر وعدم القاء النفس في التهلكة , فهذا لا يعني التفريط بمصالحهم وامتيازاتهم وحقوقهم او اهمال هويتهم الدينية , او اهدار كرامتهم ؛ وانما تجنب الدخول في حروب خاسرة مع الاخرين الاقوياء , والحفاظ على نفوس الشيعة الضعفاء والعمل على تنمية قدراتهم واعداد العدة والعدد لمواجهة التحديات , والنأي بالنفس عن الازمات والحصار والمضايقات والمعتقلات , وتطوير واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بما ينعكس عليهم بصورة ايجابية , فليس من المعقول والمقبول ان يتبرع الشيعة بأموالهم وهم فقراء وان يقاتلوا الاعداء وهم ضعفاء وان يعارضوا الانظمة الحاكمة وصفوفهم مليئة بالخونة والعملاء , وان وقع المحذور لا سامح الله وتم جر الشيعة الى الحرب رغما عنهم , عندها لابد للشيعة من الاتفاق مع القوى الدولية الكبرى او الانظمة السياسية في هذا البلد او ذاك , والتسلح بأفضل انواع الأسلحة واحدثها والضرب بيد من حديد , والرد على الاعداء بنفس الاساليب والطرق , حتى وان كانت بشعة ومخالفة للقيم الانسانية والقانونية , لان الشر لا يدفع الا بالشر ولا يفل الحديد الا بالحديد , والمثاليات والشعارات الطوباوية لا تجدي في المعارك المصيرية ولا تنفع ؛ والا ما نفع حرب مع عدو يطلق صاروخ واحد يقتل فيه الف شيعي , بينما يطلق الشيعي الف صاروخ على العدو من دون وقوع ضحايا من الاعداء , فعندها تخسر الشيعة النفوس والاموال بينما يسرح العدو ويمرح وكأن شيئا لم يكن …؟!
وعليه امثال هذه الحروب تزيد من ضعف الشيعة وتقهقرهم , فلابد للشيعة من الضرب بقوة وعدم رحمة العدو والفتك به ؛ في حال فرضت الحرب عليهم فرضا , ومقاطعة الاعداء واتباع الطرق العلمية واتباع الوسائل الواقعية في التصدي لهم والحفاظ على النفس والممتلكات والثروات الوطنية , وتجييش الجيوش الاعلامية والالكترونية والثقافية لإظهار احقية القضايا الشيعية امام الرأي العام والدفاع عنهم وكشف جرائم ومجازر الاعداء .
ولم أر في حياتي أذكى من الشيعي الايراني , واكثر حذرا وحيطة منه , اذ لا تغره الشعارات والعنتريات ولا ينساق وراء العواطف والمظاهرات والاحتجاجات الشعبية , ولا يستجيب لدعوة المبارزة والتحديات من قبل الاعداء والمتربصين ؛ وانما يفكر بالحكمة والمصلحة ويعمل على حماية المصالح الشيعية الايرانية وحقن دماء الشيعة وعدم التفريط بحقوقهم والنأي بهم قدر المستطاع عن مواقع الخطر ومهاوي التهلكة , ويحسب الامر بالأرقام والإحصائيات وبميزان القوى والقدرات والكفاءات الواقعية وليس بالشعارات والانفعالات و(الهوسات ) , ولا ضير لديه ان قدم مصلحة الايراني على مصلحة الشيعي العراقي او الافغاني ؛ لذا تراهم في مواقع القوة دائما وان اظهروا الضعف احيانا .