كاتب فلسطيني
يوم الاثنين السابع من تشرين الأول تكون ملحمة طوفان الأقصى قد أتمت عامها الأول، بعبارة أخرى يوم 7 /10 /2024 هو اليوم 366 لطوفان الأقصى، عام أول مضى ليسجل تاريخ الصراع «العربي ـــــ الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي» أطول حرب تخوضها دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسها على أنقاض مدن الفلسطينيين وقُراهم عام 1948، لا يعني إحياء الذكرى عداً لأيام السنة، بل تعني قيم الإباء ورفض الاحتلال، وتعني الملاحم والبطولات والشجاعة والإقدام، والتضحيات الجسام، والصبر والصمود، والدم الذي سال بغزارة، وأرواح شهداء لنحو 42 ألف إنسان فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وآلام جرحى، وأوجاع منكوبين مشردين.
في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 فاجأتنا معركة «طوفان الأقصى»، رغم أننا واثقون أن يوماً ما لا بد آت يقتحم فيه رجال مقاومتنا الشجعان المستوطنات الإسرائيلية، ويجتازون خط الهدنة بعملية نوعية واسعة، تتجاوز مرحلة كانت العمليات الفدائية تنقذها مجموعات محدودة العدد، تتسلل مخترقة خط الهدنة في أسلوب حرب العصابات، «اضرب وانسحب»، لإيقاع خسائر بشرية أو مادية، لكن في ملحمة طوفان الأقصى اقتحمت المقاومة السياج الحدودي، والتحمت مع جنود العدو في مواجهة مباشرة براً وبحراً وجواً، في آن واحد هاجمت العديد من المواقع بمحيط الغلاف، قواعد عسكرية (قاعدة زيكيم العسكرية، وقاعدة رعيم العسكرية)، ومستوطنات محصنة (مستوطنات سديروت، وناحل عوز، وبئيري ،وكفار عزة، وكيسوفيم، ونير عوز، علوميم، ونتيف، وماغن)، ومعابر محروسة الكترونياً وتكنولوجياً، ومن قبل جنود حراسة ومراقبة، «معبر بيت حانون (إيريز)»، وقد سبق ذلك قصف شديد بآلاف الصواريخ.
سقطت المواقع الإسرائيلية في الساعة الأولى للهجوم، وتم تطهير المواقع العسكرية للعدو والسيطرة على المعابر واحتلالها لأيام، ــــــ حتى اليوم الرابع عندما أعلن جيش العدوان الإسرائيلي عن سيطرته على منطقة غلاف غزة، ويقول إنه لم يعد هناك أي اشتباكات مع مسلحين فلسطينيين ـــــ وتجول المقاومون في العديد من المستوطنات فارضين سلطتهم عليها ولو لهذه الفترة القصيرة زمنياً، الهامة معنوياً وعسكرياً وأمنياً، أربك ذلك أركان جيش الاحتلال، مفاجأة عاجلت الجميع، وأدهشت الفلسطينيين أنفسهم، ليس فقط في توقيتها، بل في تنظيمها وجرأتها، فطالما انتظرنا عملية مشهودة تصنع نصراً هاماً، وتؤهل للنصر النهائي، لا نسأل: أين؟. بل نسأل متى؟. قبل طوفان الأقصى بدا غلاف غزة كقلعة حصينة، أسوارها الالكترونية منيعة، يستحيل خرقها، إلا بمعجزة كمعجزة طوفان الأقصى، فرقته العسكرية ـــــ المسماة باسم الغلاف ـــــ نخبة جيش العدوان، منحت العدو ثقة وهمية بالقدرات، مقابل قدرات فلسطينية تبدو ضئيلة، عند المقارنة بين الجانبين، جنوب لبنان كان المرشح الأقوى للقيام بعملية مشابهة، وبدا رجال حزب الله أكثر جاهزية سلاحاً وتدريباً، وهدد الحزب مرات بنقل المعركة حال نشوبها في الجنوب اللبناني إلى الجليل ومستوطنات الجليل، وتم اسرائيلياً التعامل مع مثل هذه التصريحات على محمل الجد، واتخذت إجراءات وتدريبات لمواجهة مثل هذا الاحتمال، أما على الساحة الفلسطينية فقوبل الأمر من القيادة العسكرية الإسرائيلية بالاستهتار ولم تحاذر، رقم أن تقارير وصلت لأعلى مستوى أمني عن استعدادات للمقاومة الفلسطينية لاقتحام الأسوار.
في الذكرى السنوية الأولى معجزتان أنجزتهما المقاومة الفلسطينية، معجزتان أسقطت أسطورتين، تحققت المعجزة الأولى، بفضل الشجاعة والتخطيط والسرية، والابداع في التنفيذ، معجزة صباح يوم السابع من تشرين أول 2023، بمنجزاتها وتداعيات اقتحام غلاف غزة عندما هُزم الجيش الذي لا يُهزم هزيمة منكرة، على يد مئات من المقاتلين البواسل، وتحققت المعجزة الثانية بفعل الإرادة الصلبة، والصمود الفلسطيني الأسطوري لمدة عام، وسقطت الأسطورة صهيونية عن الحرب الخاطفة، حين عجز جيش العدو المدجج بالسلاح الأميركي المتطور أن يحقق أهدافه، رغم كل المجازر والتدمير الذي تعرض له القطاع المقاوم.
يحيي شعبنا الفلسطيني الذكرى، في ظل استمرار المأساة، وتواصل المجازر في الضفة والقطاع، بدعم وتواطؤ أميركي بارتكاب حرب إبادة جماعية، لم تعد خافية من حيث حجمها ونتائجها ودوافعها، والدور الأميركي حاضر دوماً كالعادة في منع اتخاذ قرار وقف إطلاق النار من خلال استخدام حق النقض الفيتو في مجلس الأمن.
ما بين 7/10/ 2023 إلى 7/10 2024 عام كامل، حافل بالأحداث والتطورات والمفاجآت، صبغ المشهد الفلسطيني واللبناني واليمني والسوري بالدم الزكي، ما أن مضى يوم الطوفان في السابع من تشرين الأول، حتى تلاه يوم آخر في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر يوم التطبيق العملي الحاسم لوحدة الساحات، والتعاون الاستراتيجي بين أطراف محور المقاومة، بدءاً بمشاركة المقاومة الإسلامية اللبنانية التي دلت في اليوم الثاني للطوفان أن منطقتنا ستكون على صفيح ساخن، زاده سخونة انضمام باقي محور المقاومة إلى إسناد فلسطين، وكانت الصواريخ الإيرانية البالستية المتطورة مساء يوم الثلاثاء 1/10 تعني أن الردع قد استعيد من جديد، بعد سلسلة اغتيالات طالت قادة المقاومة.
لقد برهن طوفان الأقصى أن شعبنا وقواه الحية قد طور حركة مقاومته تصاعداً وعنفواناً وصولاً إلى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ليكون يوماً مشهوداً لا ينسى، يوماً له أهمية كبيرة وتاريخية، فقد تبدلت معادلات الصراع والحرب، بما ينبأ بمستقبل قضيتنا الوطنية، وحتمية انتصار الثورة الفلسطينية، وتحقيق كامل أهدافها الوطنية، بهذا كان صباح الطوفان لحظة انعطاف تاريخية لمرحلة جديدة في مسيرة نضال شعب فلسطين. وهي نقطة تحول مسار استراتيجي لجيش الاحتلال في صراعاته بالمنطقة، ينتقل بموجبها من الاعتماد على المعارك الخاطفة إلى الحرب الطويلة.
في 9 تشرين أول/أكتوبر 2023، بدأ معظم مقاتلو المقاومة العودة إلى قواعدهم من المستوطنات الّتي استولوا عليها يقودون أسراهم من جنود العدو ومستوطنيه، وبكل الاعتزاز نحيي الذكرى الأولى ليوم الطوفان الذي حول أسطورة «الجيش الذي لا يهزم»، إلى جيش ينتقل من هزيمة إلى أخرى، في كل يوم يقع كيانه بما يسميه حدثاً أمنياً صعباً، أو يوماً صعباً على دولة «إسرائيل»، ويرد على الحدث الصعب بالجرائم ضد المدنيين محاولاً أن يدعي أن القتل والمزيد منه ومن التدمير هو صورة لانتصار، عام والمعارك البطولية مستمرة، لنقف على دروس المرحلة ونقيم مجرياتها ونتائجها والتداعيات الإقليمية لتصعيد العدوان، وتوسيع الهجمات الهمجية لتمتد إلى لبنان واليمن.
في هذه الذكرى مشهدان فلسطينيان، مشهد بطولات ومواجهات تحتاج إلى إنسان نوعي يقاتل من المسافة صفر، بجرأة متناهية يلصق عبوة شواظ على آليات الاحتلال المتوغلة، وينصب الكمائن وينجح في استنزاف العدو، ومشهد آخر للصورة المشرفة التي يقدمها شعبنا الفلسطيني للعالم، بثباته على خيار المقاومة، وبصموده ورفضه الاستجداء والمساومة على حقوقه الوطنية، تظهر صورة التفاف الحاضنة الشعبية حول المقاومة التي تحملت عبئاً ثقيلاً جراء استهداف المدنيين وتدمير منازلهم لكي تتخلى الحاضنة عن المقاومة، وأفشلت كل ما سعى له العدو من جعل قطاع غزة غير صالح للعيش، في مسعى إسرائيلي لتهجير سكان غزة، وبقي الشعب الفلسطيني ثابتاً متمسكاً بأرض وطنه، رغم كل ما عاناه الفلسطينيون في غزة الصامدة، من افتقاد للمكان الآمن، وتواصل القصف الشامل دون انقطاع والذي استهدف المدنيين العزل الآمنين في منازلهم، إلى الحصار بهدف التجويع، إلى استهداف سبل الحياة كافة من ماء وغذاء ودواء، إلى العمل المتعمد على انهيار المنظومة الصحية، صمد سكان القطاع ورفضوا المشروع الإسرائيلي الأميركي بالتهجير إلى سيناء، فقد كان اللجوء والتشرد في العام «1948» درساً قاسياً فاق التصور، أدرك الفلسطينيون أن لا هجرة مؤقتة، وأن المؤقت يصبح دائماً.
على الصعيد الدولي يتوقع أن يستقبل العالم العام الثاني لطوفان الأقصى، بالصمت والعجز، والموقف المتفرج على بث مباشر لأهوال مؤلمة لكل حس إنساني، والكارثة الإنسانية والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين واللبنانيين، ويتركون الأمور تتدحرج نحو حرب إقليمية تهدد الأمن والسلام ليس في المنطقة فحسب، بل تمتد تداعياتها إلى العالم كله.
صعّدت إسرائيل في الضفة الغربية ومدينة القدس حربها العدوانية بشكل غير مسبوق منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، من قبل جيش الاحتلال والمستوطنين معاً، وصلت إلى حد إلقاء الطائرات الحربية قنابل ثقيلة على البيوت السكنية الفلسطينية، وتأتي الذكرى الأولى لطوفان الأقصى على وقع اقتحامات يقوم بها الجيش الإسرائيلي لمدن وبلدات ومخيمات الضفّة الغربية، اعتقال واغتيال لمقاومين فلسطينيين مطلوبين لسطات الاحتلال، وتدمير يومي مكثف وممنهج للبنية التحتية، ولبيوت الفلسطينيين ، وتوسيع سياسة الاستيطان والضم عبر الرغبة الصهيونية في إحداث نكبة جديدة في صورة شبيهة بما حدث في عام النكبة 1948.
بعد كل ما جرى من آلام وتضحيات، سؤال نطرحه على أنفسنا: هل نعيد معركة طوفان الأقصى؟. فيما لم تحقق هذه المعركة القاسية أهدافها الوطنية وتضع الشعب الفلسطيني على الطريق إلى حريته واستقلاله؟. إسرائيل تقول لن تسمح بتكرار عملية طوفان الأقصى، لا على الجبهة الفلسطينية، ولا على الجبهة اللبنانية، وكل هذا العنف والإجرام والتدمير الوحشي لكي الوعي الفلسطيني واللبناني، ولردع أي فكر مقاوم، يفكر في المستقبل أن يقاوم الاحتلال. إن إحياء هذه الذكرى لهو دليل على تمجيد المقاومة والمقاومين، وللتأكيد على الثبات على المواقف والأهداف مهما بلغت التضحيات، ويخطئ العدو إن ظن أن الوحشية والإجرام والمجازر ستجعل شعب فلسطين يتخلى عن حقوقه الوطنية.
ونحن نبتدأ عاماً آخر من «طوفان الأقصى»، نقف في هذه الذكرى لاستخلاص الدروس ومتطلّبات المرحلة المقبلة،
مدركين أن العدوان على غزة لم يكن فقط لمجرد الرد الانتقامي على أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث تشير السياسة الإسرائيلية ــــــ الأميركية إلى محاولة فرض ترتيبات أمنية وسياسية، أو ما يسمى ترتيبات اليوم التالي التي تقود إلى تكريس الاستيطان والضم ومشروع اسرائيل الكبرى دولة يهودية، وحل القضية الفلسطينية في إطار حكم ذاتي محدود للسكان، مما يتطلب استراتيجية فلسطينية موحدة، وانتهاج سياسة تضع الشعب الفلسطيني على طريق الاستقلال والعودة.