بعد إنفصاله عن زوجته بساعاتٍ عثر على دفتر مذكراتها كتبت فيه
” إلى من ستدخل على حياته من بعدي :
–إعلمي أنه رجل مزدوج التناقضات، هو هادئ هدوء الليل، صاخبُ كـ موج البحر…
–لونه المفضل الأسود فلا تلوني عالمه بالأخضر والاصفر ، هو يكره الألوان الزاهية كثيرة الإشراقة…
–إنه رجل ذو رئتين سوداتيتين مولع ب السجائر فلا تقنعيه بالاقلاع عن التدخين كنوع من الحب و الشفقة ، هو لا يكترث لشى ، تقبليه على طبيعته..
مزاجه أسود اشبه ب رئتيه، يقلب صباحكِ إلى مأتم،
–لا تشاجريه مهما أستفزكِ، أحضري له قهوته السمراء بالقليل من السكر لتزول حدة غضبه،
أعترف لكِ
–إنه عصبي ب طباع نارية لكنه ذو قلب من جنة يغفر لكِ خطاياكِ بسرعة..
في داخله لين عظيم يخفيه بقناع القسوة، أنزعي ذاك القناع من على روحه، و داعبي الطفل المخبوء بين طياته،
–عادة في الظهيرة بعد أن يعود من العمل يزين وجهه بالعبوس، يقطب حاجبيه،
حاولي إضحاكه و أرسمي البسمة على ثغره، لا أنكرُ أن لديه ابتسامة تأسر القلوب و تسلب العقول، حرام عليه أن يدفنها..
–أعذريه هو فوضوي، رتبي أوراق عمله و كأنه ذاهب إلى المدرسة،
يحبّ زهرة الياسمين أعتني بها أسقيها و ضعيها على
واجهة المطبخ،
–لا تعبثي بعطوره وكتبه ، و مذكرات ذكرياته،
أتركي أشياؤه في أماكنها و لا تخلطيها بأشيائكِ،
تجنبي قدر الإمكان إثارة إزعاجه..
–في المساء ذهنه صاف كـ سماء بلا غيوم، يسرح كثيراً و يحدثكِ عن أحلامه،
أصغي له بجدية و إن بدت طموحاته عبثية،
–إذا أختلق معكِ مشكلة بدون أسباب، تأكدي أنه يواجه حزناً خانقاً ، أرغميه أن يفضفض فهو لا يجيد التعبير عما يُؤلمه سوى بإصراركِ…
–سيرجع أحياناً و وجهه مليء بالكدمات ربما دخل في عراكٍ مع اناس لمجرد انهم لا يروقونه فمزاجه سوداوى متقلب ، عالجي خدوشه و تعودي على حالاته تلك…
أحبيه كثيراً..
— و علميه.. علميه كيف يكتسب شجاعة الإعتذار للآخرين مثلما لديه شجاعة الخطأ بحقهم…
— و أخبريه أنني أردتُ أن أسمع منه كلمة “آسف ” عوضاً عن جملته الشهيرة “لم أقصد جرحكِ لكنكِ من أثرتِ غضبي
* “* أدرك الزوج حجم وجعها منه، عاد إليها و تصالح معها قائلاً :
” أنا آسف جداً و كلمة آسف قليلة بحقكِ “تزوج رجل من البدو فتاة من قبيلته ذات حسن وأدب وأخلاق ودين ومضى عام على زواجه ، ونشبت بينه وبين أحد أبناء عمومته مشاجرة كبيرة ، فقتله ، ورحل مع زوجته بعيداً عن القرية كما تقتضيه الأعراف القبلية ، وتوجه الى ديار قبيله ثانيه ، وكان صاحبنا دائم الجلوس عند الشيخ في مجلسه مثله مثل رجال القبيلة للسمر وتدارس مختلف الأمور وفي احد الايام مر الشيخ من أمام بيت صاحبنا، وشاهد زوجته فسُحِر بجمالها ، واستولت على لبه وعقله ، وخطرت له فكره شيطانيه ، وهي أن يبعد الزوج عن البيت ، لينفرد بالزوجة ، ويقضي منها وطرا ً .
فعاد إلى مجلسه ، وكان عامرا ً بالرجال ومن بينهم صاحبنا، فقال : ربعي !
علمت أن الديرة الفلانيه فيها ربيع ما مثله ! وأريد أن أرسل إليها أربعة رجال يرودونها، ويتأكدون من الربيع فيها ، واختار أربعة من الرجال ومن بينهم زوج المرأه الجميلة .
فسار الأربعة بكل طيب خاطر ، والمكان الذي ذكره يستغرق ثلاث أيام ذهاب الفرسان وإيابهم ، وعندما أرخى الليل سدوله وانتظر إلى أن تنام الناس ، سار إلى بيت جيرانه حيث لم يكن فيه سوى المرأه وحيده ، وكانت نائمة ، وقبل أن يصل ارتطم في العامود وأحدث صوتاً مرعبا ً لها ، أفاقت المرأه على الصوت .
صاحت : من بالبيت ؟!
الشيخ : أنا فلان شيخ العرب إللي أنتم نازلين عنده !
البدوية : حياك الله ! وماذا تريد يا شيخ العرب في مثل هذا الوقت ؟!
الشيخ أذهلني جمالك عندما رأيتك، وسلبت عقلي وقلبي مني ، وأريد قربك ووصالك !
البدوية : لا مانع عندي ! بشرط ، عندي لغز، إذا حليته أكون لك كما تريد !
الشيخ : أشرطي وتشرَّطي ، وجميع شروطك مُجابة !
البدوية : حتى لا يجيف اللحم ( أي يتحول إلى جيفة ) يرشون عليه الملح !
فمن يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد ؟!
ولك أن تستعين بمن تريد .
فإذا جئتني بالحل صرت لك كما تريد !
الشيخ : أنصفتِ ، وسآتيك بالحل في الليلة القادمة !
ذهب الشيخ الى بيته بخفي حنين ،وأمضى ليله يفكر بحل اللغز ولم يصل إلى نتيجة ، وثاني يوم وكانوا الرجال جالسين في مجلسه .
سأل الشيخ الجالسين وبصورة مفاجأة : حتى لا يجيف اللحم يرشون عليه الملح ! من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد ؟!
وكل من رد من الحضور كان رده على قدر فهمه وعلمه ، فلم يقتنع الشيخ برأي واحد منهم ، وكان أحد الرجال المحنكين الدهاة أصحاب الفطنة والحكمة والعلم والأدب والدين موجودا ً في المجلس ، لكنه لم يقل شيئا ، وانصرف جميع من في المجلس
إلا هو لم ينصرف ، فقد بقي في المجلس .
فصاح الشيخ في وجهه : أنت ما جاوبت على سؤالي !
قال له الرجل : أردت أن أكلمك على إنفراد ! فأصل اللغز بيت من الشعر قاله أبو سفيان الثوري ،والبيت هو :
يا رجال العلم يا ملح البلد
من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد ؟!
وإن لم يخب ظني فإنك ٌ راودت امرأة عالية المقام في الذكاء والعلم والدين والأدب عن نفسها ، فأرادت أن تصدك ولا تفضحك ، وأن تكسبك كأخ لها ولا تخسرك وتزيد إلى أعدائها أعداء أهلها عدوا بحجمك ومقامك ، وتحفظ بعلها إن غاب وإن حضر ، وقد قالت لك ما قالت ، وكأنها تريد أن تقول لك ولمن سمعك :
يا رجال العُرب يا ملح البلد
من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد ؟!
فهي تقصد : إن الرجل من القبيلة إذا فسد أصلحه شيخ القبيلة كما يصلح الملحُ اللحم! فمن يصلح الشيخ إذا الشيخ فسد ؟!
وكأن هذه الإجابه أيقظت ضميره النائم ، وقلبه الهائم ، وعقله الظالم ، وأصابه الخجل الشديد من فعلته الشنعاء ، وملأه الندم على ما كان منه المكائد والمفاسد !
وقال : أصبت كبد الحقيقة أيها المبجل ! فاستر عليَّ زلتي سترك الله في الدنيا والآخرة !
يقول الشاعر : يداوى فساد اللحم بالملح ..
فكيف نداوي الملح إن فسد الملح..
وأنا أقول:
من يصلح الولد إذا رب البيت فسد
من يصلح الرعية إذا الراعي فسد
من يصلح الجيل إذا المعلم فسد
من يصلح الناس إذا الحاكم فسد ؟؟
( جالس الحكماء ولا تجالس السفهاء فإن الحكماء عظماء )