الساسة الوطنيون و الحكومات الرشيدة لا تقدم على خطوة الا وهي تحسب لها ألف حساب , وتأخذ بعين الاعتبار الاثار والتداعيات التي تترتب على هذا الفعل الحكومي او ذلك القرار السياسي , ومن هنا تعرف سر احجام الكثير من الساسة والحكومات القوية على خوض المعارك واعلان الحروب , لانهم يعلمون علم اليقين , ان اثار الحرب قد تكون اشد تأثيرا واخطر فتكا من الحرب نفسها .
اما الجهلة والعملاء والامعات وانصاف الساسة والمثقفين ؛ لا يعيرون أية أهمية لما مر , فهم لا يعرفون لغة العلم وسطوة الواقع , ولا يستطيعون التحدث وفقا لمعطيات الدراسات والابحاث والاحصائيات العلمية والارقام الواقعية ؛ اذ لا يفقهون سوى الشعارات الطنانة والخطب الرنانة والادعاءات الطوباوية والمشاريع الوهمية والانتصارات الكاذبة , وتجيير التاريخ والدين والاعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية ومكونات المجتمع لصالح اجنداتهم الترقيعية والمشبوهة , وهم وعلى اختلاف اجنداتهم وتوجهاتهم السياسية والدينية والقومية والثقافية والاجتماعية يتفقون على هذا السلوك الهجين ؛ لان مخرج تلك الاحداث المتناقضة والمختلفة والمتتالية والمستمرة واحد ؛ الا وهو المستعمر الخبيث البريطاني ثم المحتل الامريكي الغاشم ؛ وهما الان يتقاسمان الادوار فيما بينهم في ادارة الملف العراقي .
نعم نحن نعترف ونعرف ان ظاهرة ( العشوائيات والتجاوزات ) ظاهرة سلبية تشوه معالم المدن وجمالية الاحياء والعمران , وهي من جملة المظاهر السلبية التي انتشرت ولا تزال تنتشر في العراق وقد تجاوزت الأنظمة والقوانين ؛ علما ان هذه الظاهرة منتشرة في الكثير من الدول بما فيها بعض الدول المتطورة , بل ان الكثير من احياء ومناطق بغداد وبقية المحافظات ,بدأت ك( عرصات ) ومناطق زراعية وتجاوزات ثم تحولت الى مناطق سكنية نظامية , وتم تطويبها فيما بعد … ؛ الا اننا ايضا نعرف الاثار الخطيرة التي تترتب على ازالة تلك العشوائيات والتجاوزات .
والحكومات العراقية المتعاقبة وطوال عقدين من الزمن ؛ لم تعمل على ايجاد حلول جذرية لازمة السكن بصورة عامة وظاهرة العشوائيات والتجاوزات بصورة خاصة , بل اقدمت على اجراءات تعسفية وقاسية وظالمة ومجحفة وخالية من الرحمة والإنسانية والعدالة إزاء شريحة اجتماعية تعاني من الفاقة ومن البطالة , علما ان الشرائح المتضررة من هذه الاجراءات اغلبها ان لم نقل كلها من الاغلبية العراقية المغبونة والمنهوب حقها .
يتم تدمير دور المواطنين البائسين وبيوت العراقيين المساكين في مناطق ( العشوائيات والتجاوزات ) والتي بنيت بالأموال الحلال وبعرق الجبين , وقد كلفت المواطن العراقي مبالغ طائلة واموال مهولة , فضلا عن الجهود المبذولة والاوقات والسنوات الطويلة التي ضاعت من اعمار العراقيين في سبيل انشاءها وايصال الخدمات اليها وبجهودهم الشخصية … ؛ في الوقت الذي يحتاج فيه العراق الى اكثر من 3 مليون وحدة سكنية , والشيء بالشيء يذكر , ذهب وفد من العراقيين القاطنين في مناطق ( العشوائيات والتجاوزات ) الى الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني , وبينوا له معاناتهم في انشاء تلك المناطق , وطلبوا منه تطويبها وايصال الخدمات اليها , ومما قاله الطالباني لهم وقتذاك : (( اذا تطلب الامر ان اخرج معكم شخصيا في التظاهرات التي تطالب بحقوقكم افعل ؛ فأنتم اصحاب فضل علينا , اذ من المفروض ان تقوم الحكومة بتوزيع الاراضي لكم وبناءها وايصال الخدمات اليها , وعلى الرغم من قيامكم بتلك المهمة الوطنية والانسانية بدلا عنا , تتعرضون للتهديدات الحكومية ودعوات الازالة)) …!!
وكالعادة جاءت الحلول الحكومية لتزيد الطين بلة , اذ قامت الحكومات العراقية بتوزيع الاراضي الشاسعة للمستثمرين وضمن صفقات فساد مشبوهة , اذ ان المجمعات السكنية العائدة للقطاع الخاص، لم تسهم في معالجة أزمة السكن بقدر إيجادها مقاطعات حديثة لعزل فئة من الناس عن بقية المجتمع، وصناعة تمييز طبقي ؛ فقد اصبحت سكنا للفاشينيستات والبلوكرات والكوفيرات وامهات الصالونات والاعلاميات والسمسارات … , فضلا عن الساسة وكبار المسؤولين والموظفين , بالإضافة الى اصحاب الاموال والنفوذ والفاسدين والمشبوهين ؛ وقد وصل سعر الشقة الواحدة في بعض المجمعات السكنية الحديثة الى 500 مليون دينار ؛ علما ان اغلب رواتب الموظفين لا تتجاوز ال مليون دينار شهريا , ولو فرضنا ان الموظف النزيه يدخر في كل شهر 500 الف دينار من راتبه , وعليه هو يحتاج الى 1000 شهر ليستطيع تجميع مبلغ شراء الشقة , اي اكثر من 83 سنة , وهي تقريبا تساوي فترة الشروع بتأسيس الدولة العراقية المعاصرة عام 1920 واستلام الغرباء والدخلاء والعملاء مقاليد الحكم والسلطة , الى حين سقوط نظام المجرم العميل الهجين صدام عام 2003 , يعني نفس الطاس ونفس الحمام …!!
فأصحاب الاستثمار هم من يحددون اسعار بيع تلك الشقق والمجمعات السكنية و بحسب امزجتهم واهوائهم و بأرباح خيالية من دون حسيب ولا رقيب …؟!
علما ان الدستور العراقي الحالي لسنة 2005 , قد اشار في المادة «30» منه الى ان : «تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين.. وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم» فالسكن وتوفيره واجب على الدولة تهيئته وهو من الضروريات ؛ وعليه يجب على الحكومة توفير هذا الحق لمواطنيها بالصورة الأمثل وبما يناسب العيش الكريم ؛ لان هذا الامر الحيوي , المفروض به ان يكون من أهم أولوياتها .
والعجيب ان هذا الاهمال المتعمد والحلول البائسة من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة ؛ يقابله تحدي كبير الا وهو ارتفاع معدلات الولادات وازدياد اعداد العراقيين , فقد وصل عدد سكان العراق الى اكثر من 41 مليون نسمة في نهاية عام 2021 ؛ مما أدى الى ارتفاع اسعار العقارات وبصورة جنونية وغير منطقية , اذ تتصدر مدن بغداد وكربلاء والنجف والبصرة والفلوجة والرمادي، سوق العقارات في العراق، حيث أصبحت أغلى ثمنا مما هو عليه أسعار العقار في مدن بدول مجاورة مستقرة سياسيا وأمنيا وتتمتع بخدمات كاملة، مثل إسطنبول وعمّان ؛ و حصل الأكثر من ذلك، فقد صار سعر الشقة في بعض مناطق بغداد أغلى ثمنا من منزل في أرقى مناطق المملكة المتحدة …!!
بينما هنالك دول من العالم الثالث وبإمكانيات اقتصادية وثروات وطنية لا تقارن بتاتا بما يملكه العراق ؛تمكنت من ايجاد حلول ناجعة لمشكلة السكن , فقد أنشئت بعض الدول مجمعات سكنية واطئة الكلفة , حتى حكومة اربيل المحلية استطاعت بناء بيوت حديثة وبمساحة 200 متر وبسعر لا يتجاوز ال 50 مليون دينار فقط , وقامت حكومة مصر بالاتفاق مع شركة أرابتك الاماراتية للمقاولات , لتنفيذ مشروع ضخم للإسكان فقد وعد هذا المشروع ببناء مليون وحدة سكنية بحلول عام 2020 بتكلفة تبلغ نحو 280 مليار جنيه (35.76 مليار دولار) ؛ وخصصت اقسام منهم للقاطنين في مناطق العشوائيات , بالإضافة الى توزيعها على المصريين وبالأقساط المريحة … الخ .
والعجيب ان الحكومات العراقية بعد عام 2003 لم تصحح القسمة الضيزى والمعادلة الظالمة , اذ طيلت 83 عام تقريبا من حكم الحكومات الغريبة والطائفية والعنصرية والعميلة والدموية ؛ تم توزيع الاراضي الشاسعة وقطع الاراضي والدور الحكومية على ابناء الطائفة السنية الكريمة وازلام وجلاوزة الانظمة القمعية , فكانت حصة الاسد ان لم نقل الحصة كلها من توزيع الاراضي والدور لهم , بينما حرم ابناء الاغلبية العراقية من تلك الامتيازات وعن عمد , وكل تلك الحكومات العميلة الحاقدة لم توزع شبرا من الارض للعراقيين الاصلاء باستثناء فترة حكم عبدالكريم قاسم الذي وزع بعض الاراضي في مناطق نائية وقتذاك وبمساحات صغيرة جدا على العراقيين الاصلاء , وقد سارت الحكومات العراقية بعد عام 2003 والمحسوبة على الاغلبية الاصيلة على نهج الحكومات البائدة , اذ لم توزع شبرا واحدا من الاراضي العراقية الشاسعة للعراقيين من ابناء المحافظات الجنوبية النفطية فضلا عن ابناء الاغلبية المغبونة , فكل شرائح وفئات الاغلبية من فقراء ومساكين وقاطنين في المناطق العشوائية وابناء ضحايا الارهاب او من ذوي شهداء الجيش والشرطة و الحشد والموظفين والشباب المتزوجين العاطلين عن العمل … الخ ؛ لم تحصل على قطعة ارض من الحكومات , نعم تم توزيع بعض الاراضي وبصورة غير عادلة وعبر صفقات فساد ومحسوبية وغيرها على بعض الموظفين فضلا عن الساسة والمسؤولين واتباعهم .
وقد شنت دوائر الحكومة خلال هذه الايام والاشهر المنصرمة حملات كبيرة لإزالة التجاوزات , وشملت دور المواطنين وبيوت العراقيين القاطنين في مناطق العشوائيات والتجاوزات , من دون تعويض عادل , والبعض من هذه العوائل المهددة بالإزالة , من ذوي الشهداء والضحايا والمرضى والمعاقين , ومن ضمن تلك المناطق المهددة بالإزالة , منطقة مخازن الاسمنت الكائنة في البلديات والتابعة لوزارة الصناعة , وقد استلم ملفها احد المستثمرين الكبار , وقد هدد الاهالي والبالغ عددهم اكثر من 500 عائلة منكوبة بالإزالة الفورية , وبعد التوسلات والمفاوضات قرر المستثمر اعطاءهم مبلغ 5 مليون دينار عن كل بيت , علما ان تكلفة انشاء البيت الواحد تتجاوز ال 50 مليون احيانا … الخ , ولك ان تتصور فاجعة هذه العوائل التي تطرد من بيوتها البسيطة ودورها المتواضعة فجأة ومن دون سابق انذار , فقد كان هؤلاء المواطنين يأملون بتمليك بيوتهم واعادة تنظيمها او ايصال الخدمات اليها من قبل الحكومة , الا انهم يصدمون بالواقع القاسي واهمال الحكومات وجشع التجار والمقاولين والمستثمرين الذين لا يعرفون معنى للرحمة او الوطنية او الانسانية , ولو انحرف شخص واحد من كل عائلة مطرودة من بيتها , نتيجة لتلك المقدمات الجائرة والظروف القاسية , علما ان عدد التجاوزات والعشوائيات يصل الى الاف الدور والبيوت , لأنتجت الحكومة لنا وبغضون سنوات معدودة الاف المجرمين والقتلة والسراق والمنحرفين … الخ , في الوقت الذي تعمل فيه حكومات البلدان المتطورة على معالجة كافة مشاكل المواطنين وتجفيف منابع الارهاب والجريمة وعلاج الظواهر السلبية والامراض النفسية بمختلف السبل العلمية والواقعية , يعمل هؤلاء الجهلة والعملاء على تكرار التجارب الفاشلة وتدوير الازمات والانتكاسات , والعمل على نشر الفوضى والاضطراب , وتطبيق الاجندات الاستعمارية والخارجية المعادية والتي تستهدف امن العراق والعراقيين , وتعمل على الحاق افدح الاضرار بالعراق وابناء الاغلبية والامة العراقية , فضلا عن نهب خيرات الوطن وثروات العراق , ورهن مقدراته بيد الاجانب والغرباء والعملاء , فهؤلاء هم من اتبعوا سياسة الافقار والتجهيل والتهميش والاهمال كما فعلها من قبلهم عملاء الحكومات البائدة ورجال المخابرات الاجنبية الهالكين في العقود المنصرمة من القرن الماضي .
والا بماذا تفسر استمرار سير الحكومات الحالية على نهج الحكومات البائدة , اذ قامت حكومات العراق بعد عام 2003 بتوزيع المساعدات للدول العربية وغيرها , بل وخصصت جزءا من الميزانية لبعض الدول , فضلا عن اقرار رواتب تقاعدية للمصريين والفلسطينيين ومن لف لفهما , بالإضافة الى اعطاء النفط شبه المجاني للأردن , ومن اخر المهازل تقديم مساعدات للسودان , وغيرها من الكوارث … ؛ يجري هذا و في كل ساعة يعاني العراقي من مختلف المشاكل والمنغصات اليومية , وفي كل شهر يتم ازالة بيت او محل او ( بسطة ) لمواطن بائس , وفي كل يوم ترتفع معدلات الفقر والبؤس والبطالة , وتزداد بمرور الوقت نسبة الجرائم والانتحار والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية وتتفاقم الظواهر السلبية , ومع كل تلك الماسي والبلايا تقوم الحكومات العراقية بإعطاء اكثر من نصف مليار دولار شهريا كرواتب لبعض مواطني دول الجوار والاقليم , ناهيك عن ضياع المليارات الطائلة بحجة الاستيراد من تلك الدول وغيرها …!!