البعثيون القيادة الكردية:
كان استمرار الحرب في كردستان يشكل أحد المخاطر الجسيمة على السلطة حزب البعث في أيامها الأولى، ولذلك فقد سعت هذه السلطة للتفاوض مع القيادة الكردية للوصول إلى وقف القتال، وقد أثمرت اللقاءات التي جرت بين قيادة حزب البعث وزعيم الحركة الكردية السيد مصطفى البارزاني إلى ما سمي باتفاقية [11 آذار للحكم الذاتي] .
تنفس البعثيون الصعداء في تلك الأيام، ووجدوا تعويضاً لهم عن العلاقة مع الحزب الشيوعي، وقد بدا في تلك الأيام وكأنه لا يوجد في الساحة السياسية غير حزب البعث والحزب الديمقراطي الكردستاني، وتعرضت العلاقة بين البعثيين والشيوعيين إلى الانتكاسة عند إقدام حكومة البعث على تفريق تجمع للشيوعيين يوم 21 آذار احتفالاً بعيد النوروز بالقوة.
كما تم في تلك الليلة اغتيال الشهيد [محمد الخضري] عضو قيادة فرع بغداد للحزب في أحد شوارع بغداد. ورغم إنكار البعثيين صلتهم بالجريمة، إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنهم كانوا هم مدبريها، وقد أتهمهم الحزب الشيوعي بالقيام بحملة اعتقالات ضد العديد من الشيوعيين في أنحاء البلاد المختلفة.
وفي 1 تموز عقد الحزب الديمقراطي الكردستاني مؤتمره العام،وألقى السيد [كريم أحمد] عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي كلمة في المؤتمر دعا فيها إلى إيقاف الإجراءات القمعية للسلطة ضد العناصر الوطنية، وركز على شعار الحزب الداعي للديمقراطية للشعب العراقي والحكم الذاتي لكردستان، مما أثار رد فعل قوي من جانب السلطة البعثية الحاكمة، وخاصة بعد أن قامت صحيفة الحزب الديمقراطي الكردستاني [التآخي] بنشر نص الخطاب.
لكن الغزل استمر بين قيادة حزب البعث وقيادة الحزب الشيوعي لإقامة جبهة الاتحاد الوطني على الرغم من الإجراءات الوحشية التي اتخذتها لقمع التجمع الذي أقامه الحزب في ساحة السباع بمناسبة عيد النوروز، وعلى الرغم من حملات الاغتيالات التي طالت العديد من الكوادر الشيوعية.
البعثيون والقيادة المركزية للحزب الشيوعي:
منذُ أن عاد البعثيون إلى الحكم عن طريق انقلاب 17 ـ 30 تموز 968 وقف الشعب العراقي من الانقلاب موقفاً سلبياً منهم، حيث كان مدركاً أن الوجوه التي جاءت إلى الحكم هي نفسها التي قادت انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، ولا تزال تلك الجرائم التي ارتكبوها بحقه وحق القوى السياسية عالقة في الأذهان.
كان همّ البعثيين آنذاك هو تثبيت حكمهم، وتبييض صفحتهم السوداء فلجئوا إلى اتخاذ بعض الخطوات لاسترضاء الشعب وقواه السياسية وبالأخص الحزب الشيوعي العراقي الذي يتمتع بتأييد ودعم جانب كبير من أبناء الشعب، حيث ركزوا كل جهودهم لجره إلى التعاون معهم وصولاً إلى التحالف، وإقامة الجبهة الوطنية معه، وكان من جملة تلك الإجراءات:
1ـ إصدار قرار بالعفو عن السجناء السياسيين في 5 أيلول 968 وإطلاق سراحهم.
2ـ إصـدار قـرار بإعادة كافة المفصـولين السياسيين المدنيـين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم في 12 أيلول 968.
3-احتساب مدة الفصل لأسباب سياسية قدماً لغرض الترفيع والعلاوة والتقاعد.
غير أن تلك الإجراءات لم تكن كافية لجرّ الحزب الشيوعي، والقيادة المركزية المنشقة عن الحزب، لتشكيل جبهة وطنية عريضة.
فقد كان المطلوب من حزب البعث تشريع دستور دائم للبلاد، عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة لمجلس تأسيسي، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وحرية الصحافة، وحرية النشاط الحزبي والنقابي، وهذا ما لم توافق عليه قيادة حزب البعث.
ولذلك لجأت القيادة المركزية [الجناح المنشق عن الحزب الشيوعي] إلى الكفاح المسلح ضد سلطة البعث، وجرى مهاجمة دار صدام حسين، وصلاح عمر العلي وإطلاق الرصاص على الدارين، لذلك قرر البعثيون العمل على اعتقال قيادة الحزب [القيادة المركزية] وكوادرها، وتصفية تنظيماتها.
وفي شباط عام 1969، استطاع البعثيون إلقاء القبض على زعيم التنظيم [عزيز الحاج] وأعضاء قيادته، وسيقوا إلى قصر النهاية، أحد أهم مراكز التعذيب لدى البعثيين لإجراء التحقيق معهم، وهناك أنهار عزيز الحاج، وقّدم اعترافات شاملة عن تنظيم حزبه مكّنت البعثيين من إلقاء القبض على أعداد كبيرة من كوادر وأعضاء الحزب، وجرى تعذيبهم بأبشع الوسائل من أجل الحصول على المعلومات عن تنظيمهم، حيث استشهد العديد منهم تحت التعذيب كان من بينهم القائدين الشيوعيين [متي هندو] و[أحمد محمود العلاق]، بينما انهار القيادي الثالث [بيتر يوسف] ملتحقاً برفيقه عزيز الحاج، مقدماً كل ما يعرف عن تنظيم حزبه، حيث كافأ البعثيون كلاهما بأن عينوهما سفيرين في السلك الدبلوماسي، في فرنسا والأرجنتين، وذهب ضحية اعترافاتهم عدد كبير من الشيوعيين الذين استشهدوا تحت التعذيب الشنيع، وزُج في السجون بأعداد كبيرة أخرى منهم .
وبذلك تسنى للبعثيين توجيه ضربة خطيرة للقيادة المركزية لم يتعافى الحزب منها إلا بعد مرور سنة على تلك الأحداث، حيث تسلمت قيادة جديدة بزعامة المهندس [إبراهيم علاوي]، وبادرت تلك القيادة إلى تجميع قوى الحزب، وتشكيل تنظيمات جديدة، وبدأت تمارس نشاطها من جديد.
إلا أن تلك الضربة كان تأثيرها ما يزال يفعل فعله، حيث فقد الحزب العديد من أعضائه إما قتلاً أو سجناً أو اعتكافاً عن مزاولة أي نشاط سياسي بسبب فقدان الثقة التي سببتها اعترافات قادة الحزب عزيز الحاج و بيتر يوسف وحميد خضر الصافي وكاظم رضا الصفار.
البعثيون والحزب الشيوعي:
التزم الحزب الشيوعي [اللجنة المركزية] جانب السكوت عما جرى، وتمسك بالهدنة المعلنة مع حكومة البعث، ثم بادر الطرفان البعث والشيوعي بالتقارب شيئاً فشيئاً بعد أن أقدمت حكومة البعث على تنفيذ جملة من القرارات والإجراءات التي أعتبرها الحزب الشيوعي مشجعة على هذا التقارب، وبالتالي التعاون والإعداد لإقامة الجبهة!!.
فقد أقدمت حكومة البعث على الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، ووقعت في 1 أيار 1969 عقدا مع بولونيا لاستثمار الكبريت وطنياً، كما تم عقد اتفاقيتين للتعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفيتي وبولونيا في 5 تموز 969، ومن ناحية أخرى قام الحزبان البعث والشيوعي بنشاطات مشتركة في اجتماعات مجلس السلم العالمي، وانتخابات نقابة المحامين عام 970، وسمح البعثيون للحزب الشيوعي بإصدار مجلة [الثقافة الجديدة]، كما تم تعيين الشخصية الوطنية المعروفة السيد[عزيز شريف] وزيراً للعدل في 31 كانون الأول 1969.
لكن تلك الإجراءات لم تكن لترضي الحزب الشيوعي الذي كانت له مطالب أساسية هامة تتعلق بالحريات الديمقراطية، وأعلن الحزب أن دخول السيد عزيز شريف الوزارة بصفته مستقلاً، وأن دخول أي شخصية وطنية في الوزارة ليس بديلاً عن حكومة جبهة وطنية، وأن تمثيل كل الأحزاب الوطنية في السلطة على أساس برامج ديمقراطية متفق عليها هو الطريق الصائب.
البعثيون يطرحون شروطهم للتحالف مع الحزب الشيوعي:
في العاشر من تموز تقدم حزب البعث بشروطه للحزب الشيوعي لقيام جبهة بينهما، طالباً من الحزب قبولها والإقرار بها كشرط لقيام الجبهة، وكان أهم ما ورد في تلك الشروط:
1ـ اعتراف الحزب الشيوعي بحزب البعث كحزب ثوري وحدوي اشتراكي ديمقراطي!.
2ـ وجوب تقييم انقلاب 17 ـ 30 تموز كثورة وطنية تقدمية!.
3ـ وجوب إقرار الحزب الشيوعي بالدور القيادي لحزب البعث سواء في الحكم أو قيادة المنظمات المهنية والجماهيرية!.
4ـ وجوب عدم قيام الحزب الشيوعي بأي نشاط داخل الجيش والشرطة!.
5ـ العمل على قيام تعاون بين الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وبين وحزب البعث.
6 ـ القبول بالوحدة العربية كهدف أسمى، ورفض الكيان الإسرائيلي، وتبني الكفاح المسلح لتحرير كامل الأراضي الفلسطينية.
ورغم أن شروط البعث كانت غير مقبولة من جانب قواعد الحزب الشيوعي، إلا أن الحزب أستأنف حواره مع حزب البعث من جديد، وما لبث الرئيس أحمد حسن البكر أن أعلن في 15 تشرين الثاني 1971 عن برنامج للعمل الوطني، عارضاً على الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني القبول به لإقامة جبهة وطنية بين الأطراف الثلاثة.
وفي 27 تشرين الثاني أبدى الحزب الشيوعي رد فعل إيجابي على البرنامج في بيان له صادر عن المكتب السياسي داعياً حكومة البعث إلى تحويل البرنامج إلى نص مقبول لدى جميع الأطراف التي دُعيت للعمل المشترك، ووضع نهاية حاسمة لعمليات الاضطهاد والملاحقة والاعتقال ضد سائر القوى الوطنية.
ثم جرت بعد ذلك لقاءات ومناقشات بين الأطراف دامت أشهراً حول سبل تحويل البرنامج إلى وثيقة للعمل المشترك دون أن تسفر عن توقيع أي اتفاق.
لكن البعثيين أصدروا قراراً في 4 أيار 972 يقضي بتعيين أثنين من قادة الحزب الشيوعي في الوزارة وهما كل من[مكرم الطالباني] الذي عيّن وزيراً للري، و[عامر عبد الله] الذي عيّن وزيراً بلا وزارة، إلى جانب وجود أعضاء من الحزب الديمقراطي الكردستاني سبق أن جرى تعينهم في الوزارة.
أحدث ذلك القرار انقساماً في صفوف الحزب الشيوعي، وتباعداً بين القاعدة والقيادة، فلم تكن تلك الخطوة مبررة من وجهة نظر كوادر وقواعد الحزب من دون أن يكون هناك برنامج متفق عليه يحقق طموحات الحزب في إيجاد نظام ديمقراطي حقيقي، وفرص متكافئة لكل حزب للقيام بنشاطاته السياسية في جو من الحرية الحقيقية.
إلا أن قيادة الحزب اتخذت قرارها بالموافقة على المشاركة في الحكومة بعد نصيحة قدمها لهم رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي [كوسجين]!. كان أمل الحزب الشيوعي أن تتحول هذه المشاركة إلى اتفاق حقيقي بين الأحزاب الثلاثة على برنامج يحقق طموحات الجميع، واقترحت قيادة الحزب على حزب البعث منح مجلس الوزراء صلاحيات أوسع لإدارة شؤون البلاد التي أحتكرها مجلس قيادة الثورة البعثي، كما اقترحت تعديل الدستور المؤقت بما يحقق السير بهذا الاتجاه، وطالبوا بإطلاق حرية الصحافة، وإصدار صحيفة الحزب بشكل علني، ووعد البعثيون بدراسة هذه المقترحات.
غير أن الأمور استمرت على حالها السابق أكثر من سنة، ولاسيما وأن ظروف البلاد كانت تستدعي التعجيل بهذا الاتجاه بعد اشتداد الصراع مع شركات النفط، وقرار حكومة البعث بتأميم شركة نفط العراق العائدة للشركات الاحتكارية في الأول من حزيران 1972، واستمرت العلاقات بين الحزبين على وضعها ذاك حتى وقوع محاولة ناظم كزار الانقلابية حيث دفعت حكام البعث إلى الاتفاق على برنامج للعمل الوطني.