ينحتون الصخر بدأب… انهم متظاهرو ساحة التحرير في بغداد من ابناء العراق, نساءاً ورجالاً, أزميلهم الصبر والمواظبة والثبات وقبل كل شيء حبهم لشعبهم ووطنهم.. تزنروا بمبدأية ابي ذرٍ الغفاري الذي دفع ضريبة تعجبه ( دعوته ) : ” ممن لا يجد قوت يومه, ولا يخرج شاهراً سيفه في وجوه الأغنياء ” نفياً في صحراء الربذة حتى وفاته شهيداً, وثورية وتصميم أرنستو تشي غيفارا على الكفاح واستشهاده في أدغال بوليفيا : ” ما دام هناك طفل لايجد كسرة خبز يسد بها جوع يومه “.
” هاجس العدل ” هو ما جمعهم بهاتين الشخصيتين الأسطوريتين.
تعالت اصواتهم بشعارات التغيير والأنحياز الى آلام الناس وحاجاتهم, لكنهم لم ينالوا تجاوباً حقيقياً حتى ممن يطلبون لهم السمّو ويدافعون عن حقوقهم… كذلك قدموا حلولاً للتغيير الى المسؤولين على شؤون المواطن.. لكنها لم تلق آذاناً صاغية, ولم تجد صداها في الأجراءات الحكومية بل إعطوهم الأذن الطرشة !
التضحية من اجل العدالة عبر التاريخ اتخذت اشكالاً متعددة بأختلاف ظروفها, واعلى درجاتها, اكتسبت منطقها من خلود شهدائها الذين تساموا على مذبح تحقيقها, فكان سبارتاكوس والمسيح وهيباتيا ثم كان الحسين بن علي, والحلاج وغيلان الدمشقي صاحب مقولة ” هلموا الى متاع الظلمة ” حتى يوسف سلمان فهد وغيرهم من المضحين الكُثرمن ضحايا الجور والظلامية… واليوم يجسدها هذا النفر القليل المثابر من الوطنيين الحقيقيين في ساحات التظاهر من اجل الحرية والكرامة والحقوق.
ورغم شيوع مظاهر الفوضى والفساد وتسلط تشكيلات مسلحة على الواقع السياسي ومحاولتها فرض اراداتها الفئوية المستبدة, تتواصل تظاهرات هؤلاء, دعاة احترام الحريات العامة وصيانة الحقوق, وهذا بحد ذاته قمة البطولة وعنفوان التحدي. وقد دفعوا مقابل ذلك تضحيات عزيزة من متظاهرين سلميين ودعاء, اختطفتهم قوى الظلام وغيبتهم في مجاهل زنازينها التي تشبه تلافيف عقولها الظلامية او سقطوا بنيران غدرها.
وكم تعرضوا لنقد واستهانة اوساط مختلفة, كان يفترض ان تكون داعمة لهم ؟ منها ما كانت مشاركة بالاحتجاجات الشعبية, وكانت جزءاً من مشروع التغيير لكنها انسحبت, وآثرت الجلوس على التل والتفرج عن بُعد والتزمت الصمت بأنتظار ما يأتي به القدر, بينما مضوا هم على طريق انتزاع حقوق شعبهم المشروعة.
بوثبتهم هذه, سجلوا في كتب التاريخ, الأسبقية في ألقاء الحجر في بركة السكون والخنوع وحركوا مياهها الراكدة, ثم كسرهم لحاجز الخوف الذي كان معشعشاً في قلوب العراقيين الذي ورثوه من ايام الارهاب السلطوي الدكتاتوري, ومخلفات حروب الطوائف البغيضة وذباحي الدولة الأسلامية وغطرسة المحتل, حتى اصبحت الأحتجاجات من أجل الحقوق والحريات وضد الفساد والفاسدين, واقعاً ومعلماً للرفض الشعبي في الواقع السياسي العراقي, أمتدت لتعم مختلف مدن البلاد ولتنقل جذواها الى منتسبي مختلف مجالات الحياة الاقتصادية للمطالبة كل بحقوقه الوظيفية, حتى باتت السلطات تتجنب قمعها كما تتمنى بعض أوساطها…
وبتبنيهم لفكرة ” النضال السلمي ” في عملهم الأحتجاجي, ووضعها موضع التنفيذ على أسس قويمة ثم جعلها ممارسة اسبوعية منتظمة لا تخضع للموسمية والرغبوية, مستمدة قانونيتها من بنود الدستور… وضربهم المثل الرائع في الحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة, المترافق مع دعواتهم الثابتة للحفاظ على تراث العاصمة ونظافتها واستعادة رونقها… رسخوا قيمة رفيعة في التعامل بين المحتجين اينما كانوا والجهات الامنية, تعتمد التفاهم والأبتعاد عن الصدام, من منطلق ان افراد القوى الأمنية جزء من ابناء شعبنا الذين يدافعون عنهم ويطالبون بتحسين ظروفهم المعيشية اسوة بباقي المواطنين, حتى باتت أوساط كثيرة من افراد هذه الأجهزة تنظر بعين الأحترام والتقدير لهذه المجموعة الصامدة من المتظاهرين.
ان قيمة اسمى الأفكار تكمن في تحويلها الى واقع مشرق وليس ببقائها في عقول المفكرين او في متون الكتب اوبين دفتي المجلدات, ولا ان تهوّم في عقول الحالمين او في فضاءات القاعات المغلقة او على مواقع التواصل الاجتماعي… فالأفكار الجيدة لن تكون مفيدة إلا بعد ان تترجم الى حقيقة على أرض الواقع لفائدة البشر… وهذا ما تحاول ان تفعله هذه النخبة الطيبة من بنات وابناء العراق, بتجرد وبشعور عالٍ بالمسؤولية.
طوبى لمن كان طليعة مضحية مقدامة… مشعل حرية… ومنبه ايقاظ !
” أسعد القلوب هي التي تنبض للآخرين ” !