لقد داب الفنان السويسري البرتو جياكوميتي (1901 ــ 1966) عبر مسيرته الإبداعية رساما ونحاتا ومصورا، وطباعا، عن التعبير بعمق، في مجمل اعماله النحتية عن نمط الحياة اليومية في اوربا خلال القرن العشرين، وقد حاول الانتقال بفن النحت الذي ميز عصر النهضة متجاوزا المفهوم الكلاسيكي للجمال ، عابرا به اشواطا بعيدة، نحو تصوير قلق الانسان وعذاباته وتشرده وضعفه الذي تسبب به جشع الراسمالية و محاولات هيمنتها المطلقة على نمط الحياة ووسائل العيش. وقد ابتكر وانتج اعماله النحتية الشهيرة مهموما بشظف العيش و فقدان اليقين الناتج عن الازمات الاقتصادية، وفواجع الحرب العالمية الثانية، وكيف انعكست على العلاقات الاجتماعية وعلى شروط حياة الكائن الإنساني جسدا وروحا.
لم يكن جياكوميتي سياسيا من أي نوع، كما لم تستهويه الأيديولوجيات، غير ان رهافة الحس الإنساني في أعماقه جعلت من انحيازه للإنسان محورا لمنجزاته الفنية المجسدة لبؤس الانسان وازمته الوجودية، واحتجاج صارخ ضد العنف المادي والمعنوي الذي يتعرض اليه. وقد كتب المفكر الوجودي سارتر عنه قائلا: “انه قضى في مشغله الباريسي ما يقرب من 40 عاما، يعيش ويعمل في ستوديو يملأه الجص، ومن وقت لاخر يعرض منحوتات اقرب الى الاشباح، مشوهه ولكنها قريبة الشبه به بل ربما تلك المنحوتات هي ذاته. هذا الفنان الذي يشبه اعماله، او تشبهه اعماله، يتحدث عن احساسه بالضياع حين نهشه العوز قائلا عن منحوتته الشهيرة الكلب/1951: “هذا انا، رأيت نفسي ذات يوم اتسكع في الشارع”. (1)
و حتى عندما تزوج بعد وحدته الطويلة، عاش مع زوجته في ذات المشغل مكرسا حياته لفنه، وعندما تحسنت ظروفه الاقتصادية بحصوله على المال من مبيعات لوحاته الفنية، كان يستلم اثمانها نقدا، واضعا إياها بين أوراقه وكتبه ومنحوتاته، يوزع منها بسخاء على معارفه المعوزين، وكثيرا ما تعرضت للتلف دون ان يعير لها أي اهتمام، زاهدا بالحياة، مترفعا عن وسائل الرفاهية التي كان يعيشها اقرانه من الفنانين والكتاب.
“وتبقى أشهر أعمال جياكوميتي منحوتته «الرجل الذي يمشي 1960»، والتي تصور رجلاً يمشي بخطوات عريضة ومتردّدة، ساقاه طويلتان وركبتاه تبدوان غير قابلتين للانثناء ، طريقة مشي الرجل تذكّر بشخص نجا للتوّ من كارثة إذ يبدو متجمّداً في منتصف خطوته الكبيرة والمتعثّرة، كأنما يريد أن يهرب من دائرة الفتك والدمار، لا يتقدّم على الإطلاق، إنه السير داخل الصمت المدوّي والقدر المحتوم؛ ذلك الشخص الطويل والنحيل مثل خيط يميل بجسده إلى الإمام وكأنه ينوء تحت حمل ثقيل وحركته توحي بالسير والتوقف معاً”(2)
تعتبر هذه المنحوته احدى ايقونات فن القرن العشرين التي تتصدر لسنوات طويلة صالات العرض في اهم واكبر المدن في قارات العالم، كما استضيفت في اكثر من بلد عربي، اضافة لاعمال عديدة لا تقل عنها اهمية وشهرة ، ابرزها ساحة المدينة 1948، ثلاثة رجال يمشون 1948 ، وتعرض حاليا في متحف لويزيانا في شمال كوبنهاجن مجموعة من اعماله، باعتباره من اعظم فناني القرن العشرين.
ان عالم منحوتات جياكوميتي التي تجسد فرادته وعبقريته، تتشكل من تكوينات بشرية في الغالب، تظهر هائمة على وجهها في اتجاهات مختلفة بلا هدف، معزولة عن بعضها، بأجساد بشرية عارية ونحيلة، طويلة او قصيرة بحجم كف اليد، اعناق مشرئبة، واطراف سائبة، والندوب والتشوهات التي يضعها على تلك الاجساد الجاثمة على قاعدة نحتية سميكة، تشير الى القبح والبؤس الذي عاشه شخصيا، وشاهده وهو يتجول في الحانات وفي ازقة الفقراء، على ملامح مواطني مدينة باريس ضحايا الصراعات والاستغلال والحروب في متنصف القرن الماضي.
البرتو جياكوميتي المولود في مدينة سويسرية على الحدود الايطالية، كان والده جيوفاني جياكوميتي رساما انطباعيا، درس الفنون الجميلة في جنيف، ثم انتقل لدراسة النحت في باريس عام 1922، وعده النقاد في بداياته فنانا سرياليا، ثم متحررا من تأثير المدارس الاخرى، و في الكتاب النقدي الذي الفه جان جينيه عن اعمال جياكوميتي، تم وصفه وجوديا، لان اعماله الاخيرة عبرت بجلاء عن قلق الوجود والعدم. وفي كل الاحوال، فهو يمثل علامة فارقة وظاهرة متميزة بين نحاتي عصره، وفي الفن المعاصر ايضا.
ان ثمة وشائج واضحة العيان بين مظاهر الموت والجوع والتشرد وانعدام الامل الماثلة امام انظارنا اليوم، مجسدة في أحوال ومشاعر البشر الأبرياء ضحايا ساحات الحروب المشتعلة بالنار والدمار، وبين التضاريس القاسية والمشوهة للنماذج البشرية المحملة بدلالات وابعاد نقدية فلسفية في منحوتاته الخائرة سكونا وحراكا.
(1) مقال جان بول سارتر بعنوان “البحث عن المطلق”، كتبه عام 1948- عن مقال هند مسعد (منحوتات جياكوميتي.. عالم تظهر فيه النفس البشرية هشة ومفككة) الجزيرة – 20/3/2018
(2) من مقالة الكاتب غيث خوري فِي صحيفة الخليج 5 فبراير 2017