القوميات في الشرق الأوسط، أمل التنوير وسط ركام الصراعات
لا توجد “قومية تنويرية” بالمعنى الحرفي، بل تصل إلى تلك المرحلة بعد المرور بمراحل متعددة من التشذيب الثقافي والوعي، تتحول من حالة قد تكون مشبعة بالمفاهيم العنصرية أو الانغلاق الفكري، إلى ما يمكن وصفه مجازًا بـ “القومية التنويرية”، وهي مرحلة متقدمة تعكس اندماجها مع القيم الحضارية والمبادئ الإنسانية. الحركة التنويرية، التي تقودها شريحة من المفكرين، تمثل القوة الدافعة التي تعمل على تنوير القومية بمختلف أبعادها، فتجعلها متناغمة مع ثقافات الشعوب الأخرى، وقادرة على تجاوز التعصب والانغلاق لصالح رؤى أكثر شمولية وإنسانية وعدالة.
رغم أنني استخدمت المصطلح سابقًا، إلا أنه لا يعكس تمامًا جدلية التنوير ولا السمات الجوهرية للقومية، إذ ما يوجد فعليًا هو شعوب وأنظمة واعية تأثرت بمفاهيم حراكها التنويري. هذه الأنظمة ترفع من وعي مجتمعاتها وتصقل مداركها لتجاوز الصراعات المذهبية والقومية.
الدول القومية الوطنية، كما نراها في المراحل المتقدمة من الوعي، يمكن أن يُضاف إليها وصف “التنويرية” رغم مجازية المصطلح. الأمثلة الأوروبية كألمانيا وفرنسا، واليابان، تُظهر سمات قوميات تنويرية حقيقية. هذه الدول نجحت في إضفاء طابع إنساني وحضاري على قومياتها، نتيجة لتمهيد استمر عقودًا طويلة، تم فيها تليين النزعات القومية العنصرية، وتشذيب ثقافة الأنظمة الدكتاتورية. هذه الأمثلة تُبرز كيف يمكن للقومية أن تتطور إلى قوة إيجابية متحضرة، تعمل على تعزيز قيم التسامح والعدالة والمساواة، وهي التي خلقت الحضارة الحالية، وتطورها.
وهو ما لم يبدأ بعد في شرقنا، الغارق في العنصرية وكراهية الأخر، كنا نأمل أن يكون الربيع العربي بداية مرحلة مماثلة للتنوير وإحداث تغييرات جذرية في الوعي الجمعي، لكن للأسف، هيمنة القوى التكفيرية والإسلام السياسي قضت على تلك الأحلام. هذه القوى لم تكتفِ بتقويض تطلعات الشعوب، بل قطعت الطريق على الشرائح الأولى من الحركات التنويرية، وخلقت عنصرية مرعبة تحت عباءة الإسلام السياسي، لا تقل بشاعة عن الأنظمة القومية العنصرية التي سادت لعقود وأغرقت قوميات الشرق في مستنقع التخلف والعنصرية. ومع ذلك، ورغم فظاعة هذه الأنظمة، لم تتمكن قوى الإسلام السياسي من القضاء على بقايا الحركات التنويرية أو طمس روحها بالكامل.
بالتالي، فإن الكوارث في شرقنا مرشحة للاستمرار لكن بشكل أكثر بشاعة. ففي الماضي، تم الترويج لمفهوم العروبة بشكل أيديولوجي مشوه، والعرب الأصلاء براء منه، إلى جانب سياسات التتريك والفرسنة تحت غطاء التشيع. أما اليوم، فإن جدلية إلغاء الآخر تستمر بغض النظر عن هوية القومية المسيطرة، سواء كانت الحاكمة أو المحتلة، لتتحول إلى جزء من ثقافة الأنظمة القمعية.
يكفي أن نستمع إلى المصطلحات المرعبة الغارقة في الكراهية، التي يطلقها أفراد المنظمات المعارضة السورية وخاصة الإسلامية التكفيرية المدفوعة بأجندات إقصائية ومدروسة بعناية، لنرى مدى عمق الأزمة. في ظل هذه الأجواء، يصبح من شبه المستحيل بناء أي وطن مشترك في شرقنا، حيث يبقى منطق “الأنا السيد” و”الآخر الموالي” مسيطراً على المجتمعات والعلاقات.
لذلك، تبدو استقلالية القوميات ضرورة حتمية، كخطوة أولى نحو التنافس الصحي في توعية شعوبها والعمل على نهضة حركات تنويرية. هذه الحركات هي الأمل الوحيد لكسر هذه الدوامة التاريخية من الإقصاء والكراهية، ولبناء مجتمعات تقوم على التسامح، العدالة، والوعي الحضاري.
ما يجري في سوريا طوال العقد الماضي، ويتجلى بأبشع صوره اليوم، عمق الأحقاد ليس فقط بين القومية العربية والكوردية أو غيرهما، بل داخل القومية العربية المهيمنة ذاتها. فلم نعد نسمع عن “العروبة” كخيمة جامعة، بل طغت القوميات الدينية والمذهبية، وحلت مكانها هويات ضيقة تحصر نفسها في المناطق الجغرافية التي تتماشى مع الدين أو المذهب. هذا الواقع يعيدنا إلى تجربة أوروبا في عصر الصراعات المذهبية والمجازر التي مرت بها قبل عشرة قرون.
في ظل هذا التمزق والتفتت، يبدو بناء وطن حضاري وإنساني أمرًا شبه مستحيل، خاصة مع هيمنة القوى العسكرية والسياسية الغارقة في الجهل وانعدام الوعي الحضاري، والمستندة على مفاهيم بناء الدولة في العصور الإسلامية الأولى، أيام الخلافة، وهي لا تقل عن المستنقع الفكري السائد لدى الأنظمة الشمولية العنصري التي أغرقت شعوب الشرق في الأوبئة الفكرية. وبالتالي، لا يمكن الحديث عن حل جذري دون الاتجاه نحو تكوين دول قومية مستقلة.
الأمل يكمن في أن تصعد الحركات التنويرية المستندة إلى ثقافات شعوبها لتعمل على نشر الوعي الحضاري والإنساني، مستلهمة مسارات مشابهة لتجارب الشعوب الأوروبية التي مرت بمراحل القوميات والتنوير، وصولاً إلى تأسيس مفهوم “الوطن الأوروبي الجامع” الذي يجسد رؤية حضارية موحدة تتجاوز العصبيات الضيقة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
4/12/2024