قبل أيام استمعت، في فيديو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، لأحد ضيوف مهرجان العراق
الدولي للكتاب ـ كانون الأول / ديسمبر 2024، وهو يتحدث قائلا (منذ سقوط بغداد عام 2003…)،
وأستفزني جدا قوله هذا، والأكثر أن أحدا ـ على حد علمي ـ لم يتدخل ليصحح له، ويخبره بأن من سقط
في ذاك اليوم العصيب هو نظام المجرم الديكتاتور صدام حسين وليس بغداد الحاضرة دوما في التاريخ
والحاضر والمستقبل بأبهى صورة رغم كل الجراح والهموم!
الامر عندي هنا ليس قضية عاطفية، وليس زلة لسان من المتحدث، بل أراه مفهوم ـ للأسف ـ يردده كثير
من الاخوة العرب، ويقود الى رؤى ووجهات نظر محددة!
لقد عانى الشعب العراقي طويلا من نظام البعث الشوفيني الديكتاتوري، بحيث كان البعض يوافق على
سقوط نظام المجرم صدام حسين (حتى لو على يد شارون)، الذي كان رئيس وزراء إسرائيل ايامها،
وسمعت ذلك شخصيا ومرارا من اخوة عراقيين لا غبار على وطنتيهم، وأيضا ونحن نتظاهر في شوارع
العاصمة الفنلندية، هلسنكي، ضد الحرب، في تظاهرة عارمة، وصفت انها الأكبر منذ الحرب الفيتنامية،
حيث اشترك فيها اكثر من خمسة عشر الف متظاهر، في السابع عشر من شباط 2003، رغم درجات
الحرارة التي بلغت 17 تحت الصفر(دفعت احد الاخوة العراقيين، للتعليق : لو منظميها يوم سبعة أو حتى
عشرة !!) وكان كان لي شرف المساهمة في التنظيم مع قوى اليسار الفنلندي، ولأجل ذلك شكلنا (لجنة
التضامن مع الشعب العراقي)، وكنا نتبنى شعار (لا للحرب … لا للديكتاتورية) الذي صاغه وتبناه
الحزب الشيوعي العراقي ايامها، ولاقى عدم فهم عند البعض الذين فسروه بانه يصب في مصلحة النظام
الصدامي وإطالة عمره، وبالتالي ـ كما يقولون! ـ إطالة معاناة أبناء الشعب العراقي.
كان الشعار يسجل موقفا واضحا، من ضمنه، أن القوى الخارجية التي تساهم في اسقاط النظام ستكون لها
اليد الطولى في صياغة مستقبل البلاد وفقا لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وهذا هو الذي جرى،
فالاحتلال الأمريكي جاءنا بوصفة الحكومات الاثنية والطائفية، التي كانت ولا زالت أساس كل البلاء
الذي يعاني منه شعبنا العراقي منذ يوم السقوط المهين لحاكم بائس، تخلى عنه حتى طباليه والرداحين له
والمتغزلين بطوله وعيونه الذهب (ومنين تطلع الشمس … تطلع من العوجة!)، حتى يوم القاء القبض
عليه في حفرة كالجرذ المنبوذ.
يوم سقوط تمثال الديكتاتور المجرم صدام، في ساحة الفردوس، كنت شخصيا على شاشة القناة الأولى في
التلفزيون الفنلندي اتحدث عن الاحتلال ومحذرا من علاقة مهينة بين روبنسون كروز الامريكي وجمعه
العراقي، في إشارة للرواية الشهيرة للكاتب الإنكليزي دانيال ديفو
(1660- 1731). فبقدر ما انتظرنا طويلا سقوط الديكتاتور ومعه كل
طغمة القتلة، لكن الفرحة لم تكن كاملة لأنها لم تأت بأيدي عراقية.
كل هذا عاد الى بالي وانا اتابع شاشات الفضائيات العالمية وهي تنقل
دخول قوات المعارضة السورية الى دمشق لينتهي حكم البعث
السوري الذي دام 61 عاما منها 53 سنة من حكم عائلة الأسد، انتهت
بفرار الابن بشار الى موسكو كما نقلت وكالات الأنباء!
لا أحد يخفي فرحته من زوال حكم ديكتاتوري، سواء في بغداد أو
دمشق أو في …، لكن لماذا لا تبدو الفرحة مكتملة؟ في بغداد كان
السبب وجود قوات الاحتلال الامريكي، لكن ديكتاتور دمشق سقط
على أيدي (قوى المعارضة السورية)، فلماذا هذا التوجس؟!
أهو بسبب كون أبرز قادة القوى المعارضة السورية، وللامس
القريب، وضعت جوائز بملايين الدولات للقبض عليهم أو توفير
معلومات عنهم، مع وصفهم بأبشع التهم وابسطها تصنيفهم كأرهابيين
وقادة لجماعة ارهابية؟ ماذا الذي تغير بين لحظة وضحاها بحيث تدرس قوى عظمى حاليا ـ كما تقول
الوكالات ـ رفع الحظر عن (هيئة تحرير الشام)، التي كانت تابعة لتنظيم القاعدة الارهابي؟ لأكثر من 13
عاما والمعارضة السورية تقاتل نظام بشار الأسد بمختلف الطرق، فما الذي جرى بحيث تهاوي النظام
في حوالي 13 يوما؟ هل الامر يتعلق بنوعية الملابس التي صار يرتديها قادة المعارضة، فبدلا من
الدشاديش القصيرة، صارت بناطيل جينز؟ أم في خطابهم الذي بدت تكسوه نبرة هادئة ؟هل حقا جرى
تغيير فكري وطلاق مع الماضي الارهابي؟ لماذا هذا التوجس والقلق لدى الكثيرين وأنا منهم؟ الا يكفي
فرحة الكثير من أبناء الشعب السوري بفرار ديكتاتورهم القبيح، الذي نالني من نظامه حصة اعتقال لأكثر
من أسبوعين في فرع فلسطين البغيض، خريف عام 1989، بحجج واهية؟
يقال الان ان المعارضة السورية، تعلمت من تجربة العراق، فنادت ودعت الناس للحفاظ على ممتلكات
الدولة، وان لا تتكرر مسخرة الحواسم في العراق، التي ستظل عارا على كل من شارك فيها أو بررها.
فماذا تعلمت المعارضة السورية أيضا؟ ايمكن ان يكون هناك حكم اسلامي ينطلق من الجامع يؤمن
بالتعددية الإيدلوجية والديمقراطية وحقوق القوميات والأقليات وينبذ أليات الحكم الطائفية؟ ماذا عن القوى
الخارجية التي صرفت مليارات الدولارات لدعم المعارضة السورية، ماذا تنتظر كرد جميل؟ أي الخطط
تريد تنفيذها في سوريا؟ وكي لا ننسى : ماذا عن إسرائيل؟
قال بعض العراقيين بعد دخول الدبابات الامريكية الى شوراع بغداد، ان الأهم هو سقوط نظام الديكتاتور
صدام حسين، وان التعامل مع قوى الاحتلال سيكون أسهل بكثير؟ الان، في دمشق، سقط نظام الديكتاتور
بشار الأسد، فهل التعامل مع قوى الإسلام السياسي يكون أسهل؟ أم ان الداعمين لقوى المعارضة لهم
خطط سيعلنون عنها لاحقا تجعلنا نتذكر ما صار يردده العراقيون: رحل صدام وجاء محله صدامات!
أهلنا في سوريا … مبروك لكم سقوط الديكتاتور … ومهما كان القادم مثيرا للقلق فأن الديكتاتور سقط ولم
تسقط دمشق!