قراءة في التحركات الإقليمية :
شهدت الأسابيع الأخيرة تطورات ميدانية وسياسية متسارعة في سوريا، توحي بأن ديناميكيات جديدة تتبلور في المشهد الإقليمي. فمن عمليات القصف الأمريكي للفصائل الشيعية الموالية لإيران في الأراضي السورية، إلى تحركات عسكرية واسعة النطاق نفذتها فصائل موالية لتركيا في شمال سوريا، يبدو أن مشروع “الهلال الشيعي”، الذي لطالما رُوّج له كجزء من الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، يواجه تحديات وجودية قد تؤدي إلى تغييرات جوهرية في المشهد السوري. فهل نحن أمام بداية نهاية الحكم العلوي في سوريا؟ وما دور القوى الكبرى، مثل روسيا وأمريكا، في هذه اللعبة الجيوسياسية المعقدة؟
تُمثّل الضربات الأمريكية الأخيرة على الفصائل الشيعية في سوريا إشارة واضحة إلى أن واشنطن لم تعد تكتفي بسياسة الاحتواء بل انتقلت إلى استراتيجية المواجهة المباشرة. استهدفت الضربات مواقع حساسة لميليشيات موالية لإيران تعمل على تأمين ممر بري يمتد من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا. هذا الممر يُعتبر شريانًا استراتيجيًا للهلال الشيعي، حيث يعزز النفوذ الإيراني الإقليمي ويدعم حلفاءها، لا سيما حزب الله في لبنان.
إلى جانب القصف، جاءت التصريحات الأمريكية لتؤكد أن واشنطن لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التمدد الإيراني، خاصة في ظل تصاعد التوترات مع طهران على خلفية ملفات عدة، من بينها الملف النووي والعلاقات مع دول الخليج.
بالتزامن مع الضربات الأمريكية، شنت الفصائل الموالية لتركيا، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، عمليات عسكرية واسعة النطاق في شمال سوريا، مما أدى إلى السيطرة على مناطق استراتيجية في محافظة حلب. هذه التحركات تعكس تنسيقًا تركيًا واضحًا مع الأطراف الدولية، وربما ضوءًا أخضر أمريكيًا لتحقيق أهداف مشتركة تتقاطع مع إضعاف المحور الإيراني في المنطقة.
تركيا، التي لطالما دعمت الفصائل السنية في مواجهة النظام السوري، تسعى من خلال هذه العمليات إلى تعزيز نفوذها في شمال سوريا وإضعاف النظام العلوي بزعامة بشار الأسد. علاوة على ذلك، تُشير هذه التحركات إلى عزم أنقرة إعادة رسم خارطة النفوذ في سوريا، بما يخدم مصالحها الإقليمية ويضمن استبعاد إيران من المعادلة.
في خضم هذه التطورات، يبقى الدور الروسي غامضًا. فمن جهة، تُعتبر روسيا الحليف الأساسي لنظام الأسد، وتعمل على تأمين بقائه كجزء من استراتيجيتها للحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، يبدو أن موسكو قد تغض الطرف عن التحركات الأمريكية والتركية، في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا وحاجتها لتجنب صدام مباشر مع الغرب.
تاريخيًا، لم تكن روسيا على وفاق تام مع إيران في سوريا، حيث تباينت مصالح الطرفين رغم التحالف الظاهري بينهما. وعليه، قد ترى موسكو أن إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا يخدم أهدافها على المدى الطويل، خاصة إذا أدى ذلك إلى تعزيز شرعية النظام السوري دوليًا وتقليل الاعتماد على طهران.
رغم التطورات العسكرية الأخيرة، من المبكر الحديث عن نهاية وشيكة للحكم العلوي في سوريا. النظام السوري لا يزال يملك أوراق قوة، منها الدعم الروسي والتماسك النسبي لمؤسساته العسكرية. لكن من الواضح أن التحديات تتزايد، وأن تغييرات جوهرية قد تطرأ على تركيبة النفوذ في سوريا.
الضغوط الدولية، والتحركات العسكرية في الشمال، والتراجع الاقتصادي الذي ينهك النظام، كلها عوامل تُضعف قدرة الأسد على الحفاظ على سيطرته الكاملة. ومع تصاعد التحركات الإقليمية والدولية لإضعاف إيران وحلفائها، قد نجد أنفسنا أمام معادلة جديدة تُغير موازين القوى في سوريا.
الخلاصة: لعبة شطرنج جيوسياسية
ما يجري في سوريا اليوم ليس مجرد صراع داخلي أو حتى إقليمي، بل هو جزء من لعبة شطرنج جيوسياسية كبرى. أمريكا وتركيا تبدوان مصممتين على إعادة تشكيل المشهد السوري بما يخدم مصالحهما ويحد من نفوذ إيران. روسيا، من جانبها، قد تجد نفسها مضطرة للموازنة بين حماية نظام الأسد والحفاظ على علاقاتها مع تركيا وأمريكا.
في النهاية، مستقبل سوريا قد يتحدد ليس فقط على أرض المعركة، بل أيضًا في كواليس السياسة الدولية، حيث يُرسم مصير هذا البلد المنكوب ضمن صفقة أكبر تشمل كل أطراف النزاع.
د. سعيد بير مراد
المانيا 01/12/2024