مع إعلان الحرب العراقية الإيرانية في 22 أيلول 1980، اشتعلت المعارك الطاحنة بين البلدين. تملكت بعض القياديين من الأنصار آمال كبيرة بأن سقوط النظام العراقي بات مسألة أيام أو أسابيع، مستندين إلى بعض المقولات والقوانين التي كانوا يرون أنها تتكرر عبر التاريخ. كل رفيق كان يقرأ المشهد بطريقته، ومعظم الأنصار تشبثوا بهذا التفاؤل. أما أنا، القريب من القياديين والمطلع على تحليلاتهم، فقد دفعتني أحلامي للتعلق بأمل العودة إلى الأم والحبيبة واستعادة الحياة الطبيعية. لكن تلك الأحلام، التي شيدت على الرمال، لم تصمد أمام رياح الواقع العاتية.
الرهانات بين القياديين
بعد أسبوع من النقاشات والتحليلات، جمعنا حوار طريف بين القياديين أبو حكمت وأبو ئاسوس. كان أبو ئاسوس، يُلقب بـ”كوفباك”(1) من قبل الرفيق بهاءالدين نوري، واثقًا من تحليلاته ويقول بحماس:
“بعد ثلاثة أشهر فقط، سنكون في بغداد.”
يرد عليه أبو حكمت بابتسامة هادئة: “لا رفيق، بعد ستة أشهر سنكون في بغداد.”
هنا يتدخل بهاءالدين نوري ويسأل مازحاً: “وماذا نستفيد من هذه التحليلات إذا لم يسقط النظام؟”
يبتسم أبو ئاسوس بثقة : “إذا لم يحدث ذلك خلال ثلاثة أشهر، سأشتري عنزة (بزن).”
بهاءالدين نوري وجه السؤال نفسه إلى أبو حكمت، الذي أجاب بحذر: “سأشتري خروفًا إذا لم يتحقق ذلك بعد ستة أشهر.”
مرت ثلاثة أشهر، وكما هو متوقع، لم يسقط النظام. وهكذا حصلنا على عنزة بعد رهان أبو ئاسوس. وبعد ستة أشهر، جاء دور أبو حكمت لشراء الخروف. تلك اللحظات كانت مليئة بالسخرية من التحليلات المتسرعة، لكنها أيضاً عكست الأمل الذي كان يعيش في قلوب الجميع.
استمرار الحرب وخيبات الأمل
استمرت الحرب لسنوات طويلة، ولم يتحقق حلم العودة. بقينا نقاتل، ننتقل من معركة إلى أخرى، حتى جاء وقت الأنفال القاسي وانسحبنا مع قوات البيشمركة إلى دول الجوار. ومع بداية حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت، بدأت أصوات جديدة تعلو بتحليلات جديدة، لكن خيبات الأمل ظلت تلاحقنا.
في بلغاريا، التقيت بالرفيق أبو شروق بعد اندلاع الانتفاضة في آذار 1991 وسقوط أغلب المحافظات العراقية. سألته: “ما هو موقفنا الآن؟”
رد بابتسامة ساخرة: “ما يريدلها تحليل، كل شيء واضح وضوح الشمس، نحن راجعون!”
العراق بين الاستثناء والتاريخ
جاءت حرب الخليج الثالثة وسقوط النظام في 9 نيسان 2003، لكن كل المقولات والقوانين التي تعلمناها لم تنطبق على واقع العراق. كان العراق دائماً استثناءً، يحمل خصوصية لا تخضع للتفسيرات البسيطة أو القوانين العامة.
وكما قال المفكر الفرنسي جان شوفينمان: “لن تغسل الشعوب العربية إذلالها الذي عمره قرون إلا إذا تداركت تخلفها، ولن تتدارك تخلفها إلا إذا ساعدها الغرب بقوة على ذلك.” ربما تحمل هذه العبارة شيئًا من الحقيقة، تماماً كما حدث مع الشعوب العربية بعد الحرب العالمية الأولى عندما تحررت من الاحتلال العثماني بمساعدة بريطانيا العظمى. لكن العراق، وكعادته، ظل يكتب استثناءه الخاص.
تأملات ختامية
بين أحلامنا الخريفية وتحديات الواقع، تبقى تلك النوادر والرهانات ذكريات تعكس روح التفاؤل التي كانت تسكننا رغم كل شيء. هي شهادة على نضالنا، لكنها أيضاً درس بأن التغيير لا يأتي بتحليل أو حلم، بل بعمل تمتد جذوره في واقع معقد، كتلك الرياح التي أسقطت أحلامنا المبنية على الرمال.
(1) سيدور كوفباك : قائد عسكري في الجيش الاحمر