28 ديسمبر 2024
فتك النظام البعثي بشعبه بالقتل والتغييب، والسجن والتعذيب، وأسفر عن وجهه الدكتاتوري القمعي، أنفرط العقد بين الحاكم والمحكوم، وتحول النظام السياسي إلى شمولي. في العصر الحديث طرحت عدّة أبحاث حول الحاجة الى دراسة العلاقة بين الأمة والدولة ودستوريتها، وما هو موقف الشرع منها، وكان لمفكري الشيعة ومشايخهم النصيب الأوفى في بحث هذه المسائل، وما هو دور الفقيه (المرجع) وموقفه منها.
وقد ازدادت الحاجة للخوض في هذه المواضيع خاصّة بعد إنتهاء الدولة العثمانيّة وتفكّك الوطن العربي والإسلامي وتقسيمه إلى ممالك وجمهوريّات.
ونحن في هذا المقال سنسلط الضوء على رأي المرجع السيستاني وموقفه من الدولة العراقية الحديثة.
النزاع بين أصالة الأمة وحداثة الدولة غير وارد في الأدب السياسي، فالأمة قائمة منذ الأزل. أما مفردة “الدولة” فقد طرأت لحاجة الأمة والمجتمعات لها، فثمة ضرورات نابعة من حاجة المجتمعات للدولة، من تنظيم امرها وإدارة شؤونها، و صون نفسها من الفوضى والغزوات.
شهد صراع كبير بين المدارس الدينية و رواد النهضة والعولمة في أسباب نشوء الدولة؛ حيث ذهبت النظرية الثيوقراطية إلى نشوء الدولة من منبع ديني يُسمى “حق الملوك المقدس”، ومن متطلباتها تأليه وتقديس وعبادة الملوك، كما حصل في حكم الفراعنة في مصر و روما في إيطاليا. ثم ولدت نظرية “خليفة الله” على الارض في أوروبا . (راجع بحث “المرجعية و دورها في بناء الدولة … الدولة في الفكر السياسي الشيعي، ص ٧٩، دكتور اسعد كاظم شبيب). في كلتا الحالتين تُفرز النظريتان حاكماً يُدير شؤون الدولة.
ترى بعض النظريات الإسلامية أن مشروعية الحاكم الإسلامي هو التعيين من قبل الله تعالى سواء كان الحاكم نبياً او إماماً او مجتهداً، وأن الذي يؤيد النظام السياسي للحاكم هو الأمة. فالبرغم من عدالة الحاكم وتعيينه من السماء، فالسيادة الظاهريّة مرتبطة بقبول وتأييد الناس له، وهذا ما ذهب اليه الملا صدر المتألهين الشيرازي، حيث تبنّى ركيزتين في كل نظام سياسي:
١- الركيزة الإلهية التي ترتبط بمشروعية وتعيين الحكام والقادة من قبل الله تعالى.
٢- الركيزة الشعبية التي ترتبط بتأسيس النظام السياسي والحكومة الإسلامية. (راجع كتاب “نجف لكزائي، “آفاق الفكر السياسي عند صدر المتألهين الشيرازي”، ص ١٢٨ – ١٢٩)
ثم تبنى بعض الاصلاحيين المتأخرين مبدأ دستورية الدولة كجمال الدين الافغاني و محمد عبده والشيخ حسين النائيني.
يؤمن جمال الدين الأفغاني بمبدأ الدولة الدستورية. يقول: “على الحاكم أن يلتزم بالدستور الذي حدد الإطار الأساسي للحكم و رسم الخطوط العريضة للنظام السياسي والقانوني للدولة، كما ينبغي أن يخضعَ الحاكمُ للقوانين والأحكام الصادرة عن السلطة التشريعية بما يضمن النظام والعدالة داخل المجتمع”. كان ذلك واضحاً بمقولته الشهيرة: “إن إردةَ الشعب الغير المكره والغير المسلوب حريته قولاً وعملاً هي قانون الشعب، والقانون الذي يجب على كل حاكم ان يكون خادماً له وأميناً على تنفيذه”. (راجع كتاب “الفكر السياسي العربي الإسلامي :: دراسة في ابرز الاتجاهات الفكرية صفحة ٢٥٠، دكتور جهاد تقي صادق الحسني)
أما الإصلاحي الشيخ محمد عبده، فقد كان رده على سؤال وجهه اليه الكاتب الإنكليزي ولفريد بلنت حول شكل الدستور المناسب لمصر، أجاب: “نحن ندعو إلى حكومة برلمانية عصرية قائمة عل أسس دستورية وضعية”. (راجع كتاب “الفكر السياسي العربي الإسلامي :: دراسة في ابرز الاتجاهات الفكرية صفحة ٢٨٢، دكتور جهاد تقي صادق الحسني)
لكن رائد الإصلاح الحديث الشيخ حسين النائيني (قُدس سِره) فقد استغرق في كتابه “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” كثيراً في الدولة الدستورية، حيث تُعدّ رؤيته نقلة نوعية في الفكر السياسي الإسلامي الحديث، والأكثر تأصيلاً للدولة الدستورية.
من حيث شرعيتها، صنّف الشيخ النائيني الدول إلى صنفين:
١- الصنف الأول، الدول الاستبدادية التي تمارس الاضطهاد والقمع دون رادع و خوف من حساب وعقاب، والتي قسّمها إلى قسميْن:
أ- الاستبداد السياسي و يُرجعه إلى الحكام أو الأحكام والقوانين.
ب- الاستبداد الديني و مردّه إلى رجال الدين في دعم و تعضيد رجال الدين للحاكم المستبد. (راجع كتاب “طبائع الاستبداد في مصارع الاستعباد” صفحة ٢٤، الاستاذ عبدالرحمن الكواكبي)
٢- الصنف الثاني، الدول الدستورية والتي تتبنّى وثيقة دستورية وتلتزم بالقوانين والأحكام. (راجع كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، صفحة ١١٤، الشيخ محمد حسين النائيني، تعريب عبدالحسين ال نجف)
من شروط الدولة الدستورية في متبنّيات النائيني:
١- كتابةُ دستورٍ يرسمُ الخطوط العريضة للنظام السياسي.
٢- مجلس النواب؛ حيث حدد الشيخ النائيني وظيفة العضو البرلماني والشروط التي تتوفر في البرلماني، على ان يكون مجتهداً في فنّ السياسة، عالماً بالقانون الدولي والحقوق المشتركة بين الأمم، مطلعاً على دهاليز العلاقات الدولية، متصفاً بالخبرة الكاملة والتفصيلية عن مقتضيات العصر (راجع كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، الشيخ محمد حسين النائيني، تعريب عبدالحسين ال نجف، ص ١٨٠ وما بعدها)
كما يشترط على عضو البرلمان النزاهة، مستصحباً قول الامام علي عليه السلام إلى واليه على مصر مالك الأشتر: “ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعد بك عن الفضل، ويعدك الفقر، و لا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور.
أما شرطه الثالث فهو الولاء للوطن و الحرص على الدين.
لأعطاء شرعية الدولة الدستورية، دعا سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله في العراق الحديث إلى كتابة دستور جديد للدولة، و حثّ الأمة على تشكيل برلمان يعمل بالدستور و يلتزم بتنفيذ القوانين والأحكام، مع رفضه القاطع لدور الفقهاء في التصدي المباشر للسلطة التنفيذية.
يقول الدكتور ديفيد باتيل: بعد أسابيع من الغزو العراق، وبالتحديد في ٢٠ نيسان، حذر السيستاني رجال الدين من الانخراط في السياسة وشجعهم على حصر دورهم في تقديم “التوجيه العام” لأتباعه. (راجع كتاب “النظام بعد الفوضى”، Order Out of Chaos، الفصل السبع، صفحة ١٢٦، ديفيد باتيل)
وهذا ما أكده النرويجي رايدر فيسر في بحثه، حيث قال: “في ٢٠ نيسان ٢٠٠٣، حذر السيستاني رجال الدين على وجه التحديد من السعي إلى تولي المناصب السياسية، وشدد على “حصر” دورهم في تقديم “المشورة العامة”. (راجع بحث “السيستاني والولايات المتحدة والسياسة في العراق: من الهدوء إلى المكيافيلية؟”، Sistani, the United States and Politics in Iraq : From Quietism to Machiavellianism؟، صفحة ١٠، ريدار فيسر، ٢٠٠٦، المعهد النرويجي للشؤون الدولية)
يمثل موقف السيد السيستاني امتداداً إلى تيار حركة المشروطة بقيادة الشيخ النائيني والسيد كاظم الخرساني والشيخ البهبهاني الذين تبنوا خيار الدولة الدستورية القائمة على الشرعية الانتخابية. (راجع بحث “المرجعية و دورها في بناء الدولة … الدولة في الفكر السياسي الشيعي، صفحة ٩٢، دكتور اسعد كاظم شبيب)
تقول الدكتور كارولين مرجي من كلية كونكتيكت، في كتابها “المرجعية الدينية، الموقف الوطني في عراق ما بعد صدام” (Patriotic Ayatollah nationalism in post Saddam iraq، طُبِع في جامعة ييل الامريكية، Yale University): “فبدلاً من اختيار الدولة، بوصفه رجل دين يمثل طائفة، كان همه ينصب على هدف محوري يكمن في ابقاء مشروع الدولة على المسار الصحيح، فكانت الخطب والبيانات تمثل الثقافة السياسية التي تصحح مسار العملية الديمقراطية بالعراق.”
تبنّى السيستاني مبدأ التعددية والتداول السلمي للسلطة، والعدالة والمساواة بين أبناء البلد في الحقوق و الواجبات، فهذا من مقتضيات الحكم المدني والذي يدعو إلى فصل السلطات الثلاثة والديمقراطية والحريات العامة. (راجع كتاب “جمرة الحكم شيعة العراق ومخاضات بناء الدولة والأمة بعد ٢٠٠٣” ص ١٣١-١٣٢، علي ظاهر الحمود)
كثيرٌ من عوام الناس تُطالب المرجع الأعلى بالتدخّل السياسي لاسقاط الحكم في العراق وتعرية الفاسدين الذي استولوا على مقدرات البلد، وقد خفِيَ على هؤلاء الاسباب التي تمنع المرجع الأعلى من التدخل بالشأن السياسي حيث يستشهدون بموقف الرئيس المصري بالانقلاب على شرعية حكم الأخوان المسلمين في مصر.
عندما يُطرح في أروقة السياسيين والمراكز البحثية انقلاب الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، على “شرعية” حكم الاخوان المسلمين في مصر في عام ٢٠١٢ بحجة المشروعية، يقول المختصون في الأدب السياسي أن الشعب المصري له “مشروعية” بالانقلاب على الاخوان المسلمين لرغبته في إنهاء حكمهم، (رغم تحفظنّا في ذلك)، و رفضهم لحكم محمد مرسي الذي يمثلهم، فلماذا لم يَقُم السيستاني بقيادة انقلاب على شرعية الحكم التي أفرزتها صناديق الإقتراع، مع حضور مشروعية الأمة باسقاط الحكم في بغداد، وخاصة في أكثر الملفات الشائكة في العراق والفشل في ادارة الحكم؟
لنضع الجواب على هذه الإشكالية في ثلاث نقاط:
١- منذ عام ٢٠٠٣ وحتى الآن؛ يلتزم المرجع الأعلى السيستاني دام ظله بمبدأ مشروعية الشعب وشرعية الحكم. يعي المرجع الأعلى ان المشروعية قد تضر مستقبلاً بشرعية الدولة الدستورية وكيانها، لكن السياسيين يُصرون على توريط المرجع الأعلى في صراعاتهم السياسية، وهذا ما حصل في عام ٢٠١٤ عندما طالب حزب الدعوة موقفاً من المرجعية في رفض تجديد الولاية الثالثة للسيد نوري المالكي، فأبدى السيستاني موقفه على مضض برفض التجديد.
٢- الشعب العراقي لا يُدرك المحددات الشرعية للفقيه الذي يعمل بالولاية الخاصة، وهذا النوع من الولاية لا تُجيز للمرجع التدخل في الشؤون السياسية كما يحصل في الجمهورية الإسلامية في ايران. (راجع صفحة الحوار المتمدن “السيستاني والدولة العراقية جدل الشرعية و المشروعية”، سليم سوزة)
٣- بعد أن تحول العراق إلى دولة دستورية ونظام برلماني؛ تدخّل المرجعية في الشأن السياسي يتعارض مع الدستور وقد يحصل تزاحم بين الدستور و المرجعية العليا. فلو حصل تزاحم في مسألة ما، يرى المشرعون تقديم الدستور على رؤية المرجع، إلا إذا أكتسب موقفه مشروعية من الأمة بكل أطيافها، حينئذ يتعين على المرجع تقديم المشروعية على الشرعية.
يذكر الدكتور باباكا رحيمي في بحثه: وفقاً للمدرسة الفكرية التي يلتزم بها آية الله العظمى السيستاني، فإن مبادئ الديمقراطية، مثل المشاركة السياسية، والمنافسة، والمساءلة لا تتعارض مع الإسلام فحسب، بل في الواقع تعززه، … يشعر السيستاني أن الدستور هو وسيلة لإعادة تأكيد السيادة الشعبية، وهو ما يعكس معايير الفضيلة والعدالة الإسلامية. (راجع بحث “آية الله السيستاني والتحول الديمقراطي في العراق ما بعد البعث ” ،Ayatollah Sistani and the Democratization of Post-Ba’athist Iraq، صفحة ١١، دكتور باباكا رحيمي، حزيران ٢٠٠٧)
وذكر البرفيسور جوان كول في بحثه: كان السيستاني قد حقق نجاحات كبيرة في الفترة بين عامي ٢٠٠٣ و ٢٠٠٥، فقد منع الولايات المتحدة من كتابة دستور للعراق، و ضمِنَ تكريس الإسلام كدين للدولة، ومنع البرلمان من تشريع قوانين مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، كما نجح في الضغط على الرئيس بوش في السماح بإجراء انتخابات برلمانية”. (راجع بحث “The Decline of Grand Ayatollah Sistani’s Influence in 2006-2007“، صفحة ٥، بروفيسور جوان كول، جامعة مشيغان ٢٠٠٧)
لذلك نرى سماحة المرجع الأعلى قد قاتل قتال الأبطال ضد المحتل الأمريكي في السنة الأولى من الاحتلال، حيث طالب بكتابة دستور بأيادي عراقية منتخبة، ولتحقيق ذلك، فرض على المحتل بالقوة اجراء انتخابات لتفرز برلماناً ينبثق منه لجنة كتابة دستور عراقي محض. فهو جمع بين نظام برلماني يعمل تحت مظلة دستور عراقي في دولة دستورية، كما ذهب اليه الشيخ النائيني.