لطالما كانت العلاقات الدولية مليئة بالتوترات الجيوسياسية والتحديات الاستراتيجية. في السنوات الأخيرة، انصبّ تركيز الغرب على روسيا، خاصة بعد أزمتها مع أوكرانيا، وضمّ شبه جزيرة القرم، والحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة. ومع ذلك، يُظهر تحليل أعمق أن الخطر الحقيقي الذي يهدد النظام العالمي الغربي ليس روسيا، بل الصين. فبينما تشكل روسيا تهديداً مباشراً وأقرب إلى حدود أوروبا، فإن الصين تمثل تحدياً أعمق وأكثر شمولية للغرب، سواء من الناحية الاقتصادية، التكنولوجية، أو الجيوسياسية.
لماذا الصين هي التهديد الأكبر؟
1. التوسع الاقتصادي العالمي
الصين اليوم ليست مجرد قوة إقليمية، بل هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتقترب بسرعة من التفوق على الولايات المتحدة. تعتمد استراتيجيتها على نشر نفوذها من خلال الاقتصاد، مستخدمةً مبادرات مثل مشروع “الحزام والطريق”، الذي يهدف إلى ربط آسيا بأفريقيا وأوروبا بشبكة من البنية التحتية التي تعزز هيمنتها الاقتصادية.
• استثمارات الصين الضخمة في الدول النامية تجعلها شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه لتلك الدول، مما يعزز نفوذها السياسي.
• تمتلك الصين أيضاً احتياطات ضخمة من النقد الأجنبي، وهي مستعدة لاستخدامها للسيطرة على الأسواق العالمية.
2. التقدم التكنولوجي
الصين تتفوق بشكل متسارع في المجالات التكنولوجية، مثل الذكاء الاصطناعي، شبكات الجيل الخامس (5G)، والحوسبة الكمية. شركات مثل “هواوي” أصبحت رموزاً للنفوذ التكنولوجي الصيني، وتثير مخاوف الدول الغربية بشأن التجسس واختراق البيانات.
• التكنولوجيا ليست فقط وسيلة للتقدم الاقتصادي، بل هي أيضاً أداة استراتيجية تستخدمها الصين للتأثير على الدول الأخرى، والسيطرة على تدفق المعلومات.
3. النموذج السياسي البديل
تقدم الصين نموذجاً سياسياً واقتصادياً بديلاً عن الديمقراطية الليبرالية التي يتبناها الغرب. يعتمد هذا النموذج على مزيج من الشيوعية ذات الاقتصاد السوقي المركزي، ويقدم بديلاً للدول التي ترى الديمقراطية الغربية غير فعالة.
• نجاح الصين في تقديم نفسها كنموذج للتنمية بدون ديمقراطية يُعد تحدياً أيديولوجياً للغرب، مما يضعف موقفه في نشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
4. التوسع العسكري والجيوسياسي
رغم أن الصين تتجنب المواجهة العسكرية المباشرة، إلا أنها توسع نفوذها في المحيط الهادئ والهندي من خلال بناء قواعد عسكرية، وتوسيع نفوذها البحري، وزيادة قدراتها العسكرية.
• النزاعات في بحر الصين الجنوبي، ودورها المتزايد في أفريقيا والشرق الأوسط، يجعلها لاعباً لا يمكن تجاهله في الجغرافيا السياسية.
لماذا روسيا ليست الخطر الأكبر؟
1. الضعف الاقتصادي
اقتصاد روسيا يعتمد بشكل كبير على صادرات الطاقة، وهو عرضة للتقلبات العالمية في أسعار النفط والغاز. هذا يضعف قدرتها على الاستمرار في المنافسة كقوة عظمى على المدى الطويل.
• العقوبات الغربية المفروضة على روسيا أضعفت اقتصادها بشكل كبير، مما يجعلها أقل قدرة على تحقيق نفوذ طويل الأمد.
2. المحدودية الجيوسياسية
على الرغم من التدخلات الروسية في أوكرانيا وسوريا، فإن تأثيرها الجيوسياسي محدود مقارنةً بالصين. تعتمد روسيا أكثر على القوة العسكرية المباشرة، وهو نهج يعتبر أقل استدامة من النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي الذي تركز عليه الصين.
3. ضعف التحالفات الدولية
بينما تمتلك الصين شبكة واسعة من الشراكات والتحالفات الاقتصادية مع دول مختلفة، فإن حلفاء روسيا يقتصرون على عدد قليل من الدول التي غالباً ما تكون ذات اقتصادات ضعيفة أو تعتمد عليها بشكل كبير.
كيف يجب أن يتعامل الغرب مع الخطر الصيني؟
1. تعزيز التحالفات الدولية
على الغرب تعزيز تحالفاته الدولية لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد. يمكن ذلك من خلال توسيع الشراكات مع دول المحيط الهادئ والهندي، وتعزيز التعاون مع حلفاء تقليديين مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
2. الاستثمار في التكنولوجيا
يجب على الغرب الاستثمار بقوة في البحث والتطوير التكنولوجي لمواجهة التفوق الصيني، مع تعزيز سياسات حماية البيانات وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الصينية.
3. تحسين النظم الاقتصادية الداخلية
يمكن للغرب مواجهة القوة الاقتصادية الصينية من خلال تحسين تكامل أسواقه الداخلية، وتقليل الاعتماد على الواردات الصينية، وتعزيز التصنيع المحلي.
4. التصدي للنموذج السياسي الصيني
يجب أن يعمل الغرب على تعزيز نموذج الديمقراطية الليبرالية من خلال دعم الدول النامية التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية، وتقديم بدائل فعالة للنموذج الصيني.
الخلاصة:
بينما تظل روسيا تهديداً مباشراً ومحدود النطاق، فإن الصين تمثل تحدياً استراتيجياً أكبر وأكثر تعقيداً للغرب. تطمح الصين إلى إعادة تشكيل النظام العالمي بطرق تؤثر على القيم الغربية ومصالحها الحيوية. لذلك، يجب أن يركز الغرب جهوده بشكل أكبر على فهم هذا التهديد وبناء استراتيجيات متكاملة للتعامل معه. الخطر الحقيقي ليس في الدب الروسي الذي يهاجم على المدى القصير، بل في التنين الصيني الذي يعمل بصبر وتخطيط على المدى الطويل.