الثلاثاء, أبريل 15, 2025
شبكة بحزاني الاخبارية
شبكة داسن الاجتماعية
Homeمقالاترفقا بنا ايها الدرب : رياض سعد

رفقا بنا ايها الدرب : رياض سعد

رياض سعد

العلاقة بين السير والسائر ذاتية , الا انها لا تتحقق ولا تظهر بالفعل الا بواسطة الطرق والدروب العرضية , فالدرب يكشف نوع السير وحقيقة السائر , وقد  تسعد  مناظر الدرب و زهوره السائر, وقد تدمي اشواكه اقدام السائر , فلا يعرف السائر ما يخبئ له الدرب احيانا .   

واما عن تجربتي الشخصية مع الدروب , في الطفولة، كان الدرب بالنسبة لي : هو ذلك المسار الذي نتعلمه، ونكبر عليه  , و نتعثر فيه، ونخطو عليه , و الذي يعلمنا كيفية  الزحف و المشي، و التحدث، و التعامل مع الآخرين , والنظر الى الاشياء من حولنا  , فهو الذي يصنع ذكرياتنا الأولى، ويحدد شخصيتنا ؛ وقد توسعت وترسخت تجربتي مع الدروب في عقدي الثاني وبداية مراهقتي البريئة , اذ طالما هرولت اليها مسرعا , وهي تتسع امام ناضري كلما تقدمت فيها وسرت عليها , وكنت اتبع الدروب اتباع الفصيل اثر امه  , واقتفي اثر الاقدام  اقتفاء الدليل في الصحراء لآثار المسير , وفي هذا العمر عرفت ان بعض الدروب مهلكة واخرى منجية , واتبعت المسارات التي تقربني من اهدافي البسيطة والمحفوفة بالمخاطر وقتها , اذ كنت العب بالنار من حيث لا اعلم , واساير الوحوش من حيث لا اشعر … .

 كان  الدرب طويلا متعبا شاقا الا انني  لم أكن اشعر بالتعب قط ؛  بسبب عنفوان الشباب وحيوية المراهقة , و كان الدرب  يمتد أمامي كأنه نهر لا نهاية له ، يلتوي ويتأرجح في كل اتجاه، دون أن اعرف ما  كان يخبئه لي الغد … ؛ فقد اوصلني  السير الى دروب ضيقة ومسارات متعرجة فيما بعد , وكانت مليئة بالمطبات والتعرجات والتحديات والصعوبات ؛ وطالما تعثرت فيها وسقطت عليها , الا انني انهض من كبوتي في كل مرة , والعق جراحي واسير من جديد , محاولا ان اجد بصيص امل في هذا الدرب الضيق او ذلك الطريق الوعر .   

و اكثر ما اتعبني في رحلتي الطويلة  وسيري الحثيث وسفري الدائم ؛ دروب الاوهام وطرق الظلام , اذ ادخلها وكلي ثقة بنفسي وبالله الا انها تنتهي بي وانا مثقل بالهموم وتراكم الالام والاحزان , ولا اخرج منها الا بعد جهد جهيد وصبر من حديد , والعجيب فيها اني كلما اجد السير فيها واسرع كلما ابتعد عن هدفي المنشود , واغرق في دياجير الظلام ؛ فإشارات وعلامات الاوهام تبعدني بعيدا  ؛ فهي تقرب مني البعيد وتبعد عني القريب , اشبه بالسراب الذي يحسبه الضمان ماء .

وتعرفت في تلك الدروب على مختلف الناس والشخصيات , واستفدت منها انواع التجارب والخبرات , وعشت فيها صنوف البلايا والازمات , وذقت في بعضها الطيبات , وقضيت وطرا من الشهوات والمسرات والملذات , وعرضت علي الكثير من الفرص والامكانيات , ونجحت في عبور المصاعب والتحديات , وعلى الرغم من معمعة الطريق و وعورة الدرب ؛ لا يمكن لي ان اتجنب الدرب لو طلب مني الاختيار مرة اخرى ؛ لأنه يعطي لحياتنا معنى , وان كان ممزوجا بالألم احيانا ؛ فالدرب هو الحياة , ولا مناص منه .  

والدروب في حياتنا ليست مجرد مساراتٍ نعبرها , وخطوط نجتازها , واماكن نصل اليها ، بل هي قصصٌ تُكتب بخطى أقدامنا، وحكاياتٌ نحملها في قلوبنا ,  فكل خطوة نخطوها هي كلمة في كتاب حياتنا، بعضها خفيف كالنسيم، وبعضها ثقيل كالجبال، لكنها جميعًا تصنعنا ؛ نعم هناك دروبٌ سهلة، ممهدة كالحرير، نمرُّ عليها بفرحٍ وسرور، نلتقط فيها أزهار الأمل ونستنشق عبير التفاؤل ؛ وكذلك هناك دروبٌ وعرة، مليئة بالحجارة والعقبات والعقارب والحيات ، نتعثر فيها أحيانًا ونتألم ، لكننا ننهض لنتعلم أن القوة تكمن في الاستمرار، وأن الجروح التي نكسبها هي شهاداتٌ على إصرارنا… ؛ وقد نلتقي في تلك الدروب بمن يسيرون معنا، ويشاركوننا الخطى، ويخففون عنا أثقال الطريق، ويضيئون ظلامها بكلماتهم  الجميلة وأرواحهم الطاهرة ,  وقد نضطر أحيانًا إلى السير وحدنا، نبحث عن بصيص نورٍ في نهاية الطريق، نتعلم أن الوحدة أحيانًا تكون معلمًا نتعرف من خلاله على أنفسنا أكثر .

الخطى التي كتبت علينا أن نمشيها في هذا الدرب او ذاك  ليست دائمًا باختيارنا ، وكنت اردد بيني وبين نفسي هذه الابيات :

مشيناها خطى كتبت علينا  *** ومن كتبت عليه خطى مشاها

ومن كانت منيته بأرض  ***  فليس يموت في أرض سواها

لكنني كنت اخوضها بشجاعة وادخلها بعزيمة ؛ مؤمنا بان هذا الدرب او ذلك الطريق سيقودني إلى وجهةٍ ما ، حتى لو لم اكن اعرفها من قبل ؛ فالحياة ليست وصولًا ومستقرا دائما ، بقدر ما هي رحلةٌ متنقلة ,  نتعلم فيها أن نعيش بقلوبٍ واعية، وأرواحٍ شغوفة , ونفوس صابرة متحدية ؛ وكلما كانت الدروب وعرة والطرق متعرجة والمسارات ضيقة , والخطى مقيدة , كنت امشيها بثقة وعزيمة وارادة من فولاذ , و روح  مطمئنة على الرغم من النفس اللوامة القلقة المضطربة , وبخيال خصب ؛  يفتح لي من العسر يسرا , ومن الهم فرجا , ومن الضيق مخرجا , ومن اليأس املا , ومن الحزن فرحا … ؛  فكنت اعيش التفاؤل والامل وكلي ثقة بالله ان القادم افضل وان الغد اجمل .

وفي ليالي الغسق ؛ يلتقي ظلي بالدرب , وارى نفسي فيه ؛ وفي اللَحظةِ التي اظُنُّ فيها أنَّ الدَّربَ يَنتهي ، اكتشف أنَّ الخُطوَةَ الأخيرةَ هِيَ بِدايةٌ لِظِلٍّ جَديدٍ , وهكذا دواليك , وعندها تنبثق الاسئلة كنجوم حائرة , وتتوالى التساؤلات كأقمار متناثرة , تأخذني ذات اليمين وذات الشمال … ؛ هل انا من الدرب ام الدرب مني , وهل ذرات الدرب تحمل جينات اسلافي الغابرين , وهل تطأ اقدام رجال المستقبل رفاتي عندما يسيرون على الدرب ؟!

 كل خطوة اخطوها كانت تحدثني عن اسرار الماضين من قبلي والذين ساروا على نفس الدرب ؛ وكل حجر ومدر فيه يهمس في اذني ويذكرني بأخبار الهالكين , واشاهد بأم العين  كيف ان القرون الماضية والازمنة السالفة قد نسجت على الدرب  نقوشا واثارا … ؛ وقتها عرفت ان الدرب ليس خطا مستقيما او طريقا طويلا يصل بين ميلاد المرء ورحيله ؛ بل هو انعطافات وجودية وتنقلات روحية تختزل ارواحنا فيها ؛ تارة كالسهل في فصل الربيع  الذي يلاعب خطانا , وتارة كالوديان السحيقة والهضاب المتموجة والظلمات والحفر المخيفة التي تبتلع الانفاس وتلتهم الاشخاص .

ولم أكن اعلم ان كل خطوة كنت اخطوها على دَربُ العُمرِ كانت بمثابة التقدم خطوة نحو الاجل وليس الامل , فخطواتنا تحمل اجالنا ؛ كما تحمل همومنا واحلامنا وذكرياتنا  واعباء ايامنا , وباستمرار الخطوات والسير الحثيث ومعرفة اغلب الطرق والمشي في اغلب الدروب ؛  تَتساقطُ أحلامُنا كَأوراقِ الخَريفِ ، فتَدوسُها الاقدام دونَ انتباهٍ ، وتزهر الجروح اشواكا , وتتحول العثرات الى كدمات , حتى يبتلعنا طوفان الصمت كالأصنام وسط الزحام .

 

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular