يتفق المراقبون السياسيون لما يدور ويحدث على الساحة العراقية وفي أوساط الفئة الحاكمة من مخاوف وهواجس أحزاب
السلطة واذرعها المسلحة من التهديدات التي تطلقها إدارة الرئيس الأمريكي ترامب وعزمه على تقويض نفوذ ايران
الاسلامية واتباعها في العراق لأسباب تخص المصالح الأمريكية في المنطقة ولا تندرج في إطار الخدمات الخيرية التي
تقدمها الولايات المتحدة هنا وهناك.
ورغم أن هذه التهديدات قد اربكت مخططات قوى الفساد والتبعية, فإنها شكلت من جانب آخر مصدر خوف للعراقيين,
بحكم معاناتهم وتجربتهم من أيام الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي إضافة إلى إخضاع المؤسسات المالية
العراقية الكلي لارادة الفيدرالي الأمريكي, وفرض العقوبات على المؤسسات القضائية. ولكن, بنفس الوقت, فإن أي إجراء
دولي يحد من تغول قوى التسلط والاستبداد في البلاد سيلقى ترحيباً شعبياً غامراً.
وأصبح معروفاً ان فزع قوى الفساد والمحاصصة والتبعية من التهديدات الترامبية, ليست لكونها ستؤدي إلى عواقب
مدمرة للبلاد, لأن ذلك أبعد ما يكون عن اهتمامهم وتشهد على ذلك سياساتهم طوال سنين, وتدميرهم لمرافق الدولة وهدر
مقدرات البلاد والتضحية بسيادتها وجعلها في أسفل سافلين, ولكن هلعهم الحقيقي هو من نشوب انتفاضة شعبية, كما
سابقتها في تشرين 2019, تجعل عاليهم واطيهم.
وشبحها ما يزال يطوف في سماوات العراق ويؤرقهم !
وهو الرعب الأكبر, لأنه سيفضي إلى مآلات لن ترضيهم, مثل فقدانهم السلطة وخضوعهم للمساءلة القضائية, وان رفعوا
السلاح بوجه الشعب فإن حسابهم سيكون أشد, علاوة على فقدانهم كل الامتيازات والسلطات ووسائل الترهيب.
لذا تبقى التهديدات الترامبوية لهم أهون !
فهم يدركون بأن أبعد ما ستصل إليه التهديدات الأمريكية أن نفذت, هو تضرر مصالح ومقدرات البلاد, ولن تضر
مصالحهم الا نسبياً. لا سيما وأنهم قد أمنوا أحوالهم, و هيئوا أمورهم مسبقاً للنفاذ من أي عقوبات مباشرة على رموزهم,
كما أن اغتيال قيادات وتقليص دوائر نفوذهم, يستطيعون تحمله, ومستعدون لتقديم تنازلات مقابل استمرارهم في الحكم.
وأقصى ما سيعاقبهم الامريكان به هو ما جاء في تصريح مسؤول أمريكي : " سنصنع لهم اسلاماً يناسبنا " وهو أمر
يمكنهم تقبله والتعامل معه, ما دام يديم بقائهم.
ولكن ترافقاً مع هذه التوترات, تتوالى حملات الافتراء والتشويهات التي تلصق بانتفاضة تشرين, حيث بدأت تتخذ شكلا
أكثر وقاحة وصلافة. بعد تنامي احتمالية انفجار الغضب الشعبي مجدداً بسبب تردي الأوضاع المعيشية وتغلغل عصابات
الفساد في أجهزة الدولة, لهذا فهي تجد في تسقيط شباب الانتفاضة ملجأها الأخير, باعتبارهم البديل والتهديد الحقيقي لنهج
المحاصصة ودولة المكونات الفاشلة التي انتجت الأزمات والحرمانات والمآسي للعراقيين, ولم تقدم منجزاً واحداً تُثاب
عليه… ولهذا أصبحت الانتفاضة هدف حملاتهم التضليلية…
ولإخماد وهج النقطة المضيئة الوحيدة في التاريخ العراقي بعد إسقاط الدكتاتور في 2003.
التي كان محركها معاناة الشعب, ولأنها تجذرت في الوعي الشعبي العراقي ولم يعد بالإمكان تجاوزها, زاد حقدهم,
تحركهم مبادئهم المريضة إلى تحميل الانتفاضة أوزارهم وطبعها بطبائعهم لسلبها نقائها وعفويتها ووطنيتها.
فقد باتت التشويهات التي تلصق بانتفاضة تشرين تتخذ أشكالا أكثر وقاحة وصلافة. فكم من غوبلز من أعوان سلطة الفساد
دأب على شيطنة الانتفاضة ووصم شبابها بأنهم جوكرية وأبناء سفارات لتبرير عمليات اغتيالهم الإجرامية في ساحات
الانتفاضة في مدن العراق وبالخصوص في ساحة التحرير في بغداد. وكل متابع يعرف, أن السفارات الاجنبية لن تسكت
على التعرض لمن له صلات حقيقية بها وإلا لانبرت للتدخل, وبكل قوة, لايقاف اعداماتهم الميدانية واعتقالهم العشوائي
وتغييبهم, ولم تكتف بالدعوات الخجولة للسلطات العراقية باحترام حق التظاهر… والشاهد البيّن الآخر هو الإحاطات
المبتسرة لجنين بلاسخارت المنسقة الأممية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة, واتصالاتها العلنية بأحد قادة الميليشيات
الذي خُط اسمه على مبنى مواقف السيارات في السنك وسط بغداد, حيث ارتكبت فيه مجزرة رهيبة.
المواطن أصبح يهزأ بكل من يردد اكذوبة وجود " طرف ثالث " قتل المتظاهرين السلميين بهذه الوحشية, وأصبح يشير
الى كل من يعلن عداءه لشباب الانتفاضة بدون مواربة, ومن على منابر المؤسسات الإعلامية المرئية والمقروءة,
الرسمية وغير الرسمية أنه هو القاتل, والتستر عليه, جريمة اخرى ترتكب بحق ضحاياه.
ولكن الماكنة الاعلامية للمتورطين بهذه الجرائم تواصل مغالطاتها السفسطائية وخلطها الأوراق وعدم التمييز بين الأشهر
الأولى للانتفاضة والتي اتسمت بالنقاء والمبدئية والالتفاف الشعبي العارم حولها وبين فترة تغلغل أحزاب الإسلام السياسي
المتنفذة داخل ساحات التظاهر ومحاولاتها ركوب الموجة ثم نسفها من الداخل وسحب البساط من تحت شبابها الثائر .
عندها بدأنا نشهد الاعتداءات بالاسلحة الجارحة التي أشار لها المتحدث الأمني الرسمي الفريق عبد الكريم خلف في لقاء
تليفزيوني مع الناشط الدكتور بشير الحجيمي, وان شباب ناشطين قتلوا أثناء تواجدهم في ساحات التظاهر, لتحميل
الضحية جريرة القاتل, بدون دليل. لاسيما وان السلطات الأمنية عجزت, كما قال, عن الوصول إلى جثث الضحايا
ومعاينتها, وكأن للمتظاهرين السلميين سلطة مسيطرة على الساحات باستطاعتها منع قوات أمنية مدججة بالسلاح من
الدخول, غير أن نقاط التفتيش الأمنية التي كانت تحيط بالساحات, وعيون الاجهزة الأمنية الرسمية وغير الرسمية
المبثوثة بين المتظاهرين والتي سجلت كل شاردة وواردة من حركاتهم, التي فشلت في مسك القتلة, كانت فاعلة في متابعة
الناشطين واعتقالهم.
ربما المعلومة المهمة الوحيدة التي أوردها السيد الضابط, هي رمي متظاهرين من أعلى المطعم التركي الذي كان التيار
الصدري يشغله.
لطالما صدعوا رؤوسنا بخطابهم الإعلامي البائس الذي يتحدث عن الفوضى التي جاءت بها الانتفاضة, لأنهم شافوا الويل من شبابها
رغم سلميتهم. بينما يتغافلون عن فوضاهم المدعومة بالسلاح التي تجاوزت العقدين ومازال العراقيون يعانون منها ويتخوفون من
نتائجها الكارثية.
وبذلك فإن ( فوضى ) الانتفاضة كانت بناءة لأنها أقضّت مضاجعهم وقوضت هيبتهم وطوقت عبثهم, فكانت ناصراً للعراقيين.
وكما قال شكسبير -( في مسرحية الملك جون ):
إن هذه السماء المكفهرّة لن تصفو إلا بعد عاصفة