|
بدأت خيوط الفجر العلوي تنسج نورها في الأفق، وتسللت أشعة الشمس الهاشمية إلى أرض السواد، حاملة معها بشائر عهد جديد… ؛ يسترد فيه أهل العراق حقوقهم المسلوبة , فقد حولتهم قريش وبحجة الفتح الى خول وعبيد , واصبح السواد بستانا لقريش … ؛ وفي هذا الضوء الوليد، بدأت أخبار مناقب الإمام علي بن أبي طالب تنتشر في الآفاق الرافدينية ، فتوافدت الرسل والوفود من العراق الى المدينة المنورة لتلقي بظلالها على ساحته المقدسة وتأخذ من شعاع نوره الشيء الكثير , فترجع الى العراق وهي محملة بالطاقة الايجابية والعقيدة الايمانية والشعلة الروحية والحكم العلوية والرؤى النورانية .
العراقيون، المعروفون بفطنتهم وحسهم النقدي، لا يقبلون بالسلطة والحكام والكهنة بسهولة، ولا يخضعون إلا لمن يستحق الولاء… ؛ فهم قوم يمتازون بتمردهم على الحكام واصحاب النفوذ الذين لا يثيرون إعجابهم ولا يستحقون تقديرهم واحترامهم ، ويستهزئون بالقامات والشخصيات التي لا ترقى إلى مستوى تطلعاتهم الحضارية و رؤاهم المعرفية ومثلهم الاخلاقية وقيمهم الروحية ؛ كما أنهم مولعون بالمقارنات، فيقارنون بين زيد وعمرو، ويبحثون عن أيهما أفضل، أو يصلون إلى نتيجة مفادها أن المقارنة في هذا السياق قد لا تكون ذات معنى… .
هذه سيرتهم منذ القدم، سيرة لا تتبدل ولا تندثر، بل تظل حية في قلوبهم وعقولهم وسلوكهم , وعندما جاء دور الخلفاء الثلاثة من قريش، قارنوا بينهم وبين الإمام علي، فوجدوا بوناً شاسعاً بين الطرفين، كالفرق بين الثرى والثريا… ؛ فتشبثوا بقلوبهم بولاية الإمام علي واتباعه وتفضيله على الاخرين ، وأحبوه حباً جماً، واتبعوا آثاره كما يتبع الفصيل أثر أمه … ؛ وكلما ازدادوا قرباً منه، ابتعدوا عن الآخرين من قريش وأشباهها .
لذا لم يقارنوا بين الإمام علي والطغاة، وسقط المتاع من بني أمية قط، فقد عرفوا أن لا مندوحة للمقارنة بين الاثنين، إذ شتان ما بينهم… ؛ نعم، أجرى تلك المقارنة البائسة وغير المنصفة أعراب الصحاري وشذاذ الآفاق والأمّعات والطلقاء والأدعياء… ؛ وهذه المقارنة استوقفت الإمام علي وأتباعه وشيعته، فشجبوها واستنكروها جميعًا، مما دفعه للهجرة من هذه البيئة السطحية التي تفتقر إلى أبسط مقومات العقلية النقدية البناءة – التي تميز بين الحق والباطل – أو الحس الأخلاقي المرهف… ؛ فقرر الهجرة نحو العراق، وبين لأهل العراق مهازل الدهر في هذه المقارنة الظالمة، قائلاً: ((… حتى إذا مضى (عمر) لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرتُ أُقرَن إلى هذه النظائر؟)) – نهج البلاغة: ج١، ص٣٤ – … ؛ ورُوي أيضًا مثله في الحكم المنسوبة لابن أبي الحديد عن الإمام علي : ((كنت في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله كجزء من رسول الله صلى الله عليه وآله ، ينظر إلى الناس كما ينظر إلى الكواكب في أفق السماء، ثم غض الدهر مني، فقُرنتُ بفلان وفلان، ثم قُرنتُ بخمسة، أمثلهم عثمان، فقلت: وا ذفراه! ثم لم يرض الدهر لي بذلك، حتى أرذلني، فجعلني نظيرًا لابن هند وابن النابغة! لقد استُنت الفصال حتى القرعى…)) – شرح نهج البلاغة: ج٢٠، ص٣٢٦- .
وكذلك تناهى إلى أسماع العراقيين النبط قول الخليفة عمر بن الخطاب فيهم: «من كان جاره نبطيًّا، واحتاج إلى ثمنه فليبعه »… ؛ كما أن عمر بن الخطاب لم يُقد النبطي من عبادة بن الصامت حين ضربه فشجّه، لأن عبادة طلب منه أن يمسك له دابته فرفض، واكتفى بإعطائه دية الضربة… ؛ وهذا القول والفعل يعكس نظرة دونية تجاه النبط، الذين كانوا يعيشون في العراق بل سكانه الاوائل ؛ في المقابل، كان الهاشميون، مثل ابن عباس والإمام علي، يفتخرون بأصولهم العراقية… ؛ فعندما سُئلوا عن أصلهم، قالوا: «نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثى»، مشيرين بذلك إلى أن جذورهم تعود إلى نبي الله إبراهيم الخليل، الذي يُعتقد أن أصوله من العراق… ؛ ولم يكتفِ الإمام علي بهذا الاعتزاز بأصوله العراقية، بل نقل مركز الخلافة من المدينة إلى الكوفة في العراق، وقرب العراقيين وجعلهم خاصته وحاشيته، وأعاد لهم مكانتهم التاريخية التي حاول البعض التقليل منها وبخس حقوقهم… ؛ فقال مخاطبا أهل العراق عندما اراد محاربة معاوية واهل الشام : ((أنتم الأنصار على الحق، والإخوان في الدين، والجنن يوم البأس ، والبطانة دون الناس , بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل ؛ فأعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب ؛ فوالله إني لأولى الناس بالناس )) .
فكان الإمام علي للعراقيين إمامًا وزعيمًا وقائدًا وفارسًا مغوارًا وحاميًا وقاضيًا وحكيمًا وجارًا وأبًا وأخًا وصديقًا وكفيلًا وحبيبًا. بل إن البعض، ولأول مرة في التاريخ القريب، ذهب إلى تأليه الإمام علي ورفعه إلى مستوى الآلهة، وهو أمر لم يحدث مع أي شخصية أخرى في التاريخ الإسلامي… ؛ وكيف لا يُقدّر الإمام علي وهو الذي فتح الطريق لأنوار الحرية والديمقراطية و حرية حق التعبير؟ فقد رفض قطع رزق أي شخص بسبب التعبير عن رأيه ومعتقده، حتى وإن كان هذا الرأي ضد الإمام نفسه، فضلًا عن اعتقاله أو قتله.
وقد روي أنه جاء رجل إلى الإمام علي وهو في جمع من أصحابه فقال له: «أنا لا أتابعك ولا أبايعك ولا أخرج معك في وقت ولا أصلي معك جمعة أو جماعة»، فرد عليه الإمام علي: «وأنا لا أجبرك على شيء من ذلك ولا أمنع عنك الفيء، وأسالمك ما سالمت المسلمين»… ؛ وفي رواية أخرى قال له الإمام علي: «اجلس في بيتك، وعطاؤك يصل إليك من بيت المال، ما دام الناس منك بأمان». وينقل أن أمير المؤمنين علي كان يخطب يومًا على منبر الكوفة، فقام رجل من الخوارج فقال: «لا حكم إلا لله»، فسكت الإمام علي، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا قال الإمام علي: «كلمة حق يراد بها باطل، لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدأكم بحرب حتى تبدؤونا به».
وعندما قارن أسلافنا بين الإمام علي وبين بني أمية، استحضروا ما جاء عن سعيد بن سويد، الذي قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة – أي خارج الكوفة – الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال: «ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون» ؛ وهذا القول يوضح أن معاوية لم يكن يهدف إلى إقامة العدل أو الدين، بل كان همه الوحيد هو السيطرة على الحكم بالقوة.
وخطب عبد الملك بن مروان في مكة فقال: «أيها الناس، إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف – يقصد عثمان بن عفان -، ولا بالخليفة المداهن – يقصد معاوية -، ولا بالخليفة المأفون – يقصد يزيد بن معاوية -؛ فمن قال لنا برأسه كذا، قلنا له بسيفنا كذا!» ؛ وهذا الخطاب يعكس طبيعة الحكم الأموي القائم على القوة والبطش، بعيداً عن مبادئ العدل والرحمة.
علماً أن النبي محمد (ص) لعن ثلاثة منهم: رجل أم قوماً وهم له كارهون… ؛ فإن كان إمام الجماعة المكروه ملعوناً، فما بالك بالحاكم والوالي الذي يبغضه الناس أشد البغض؟!
ومن خلال سنة النبي محمد وسيرة الإمام علي وتتبع مضامين أقوالهما الصحيحة و التي تنسجم مع سيرتهما العملية … ؛ يتضح البون الشاسع بين المعسكرين والاختلاف الكبير بين الطرفين… ؛ ولعل هذا السبب هو الذي دفع بعض العراقيين لمعارضة صلح الإمام الحسن مع معاوية، ووصفوه وقتها بـ”مذل المؤمنين”، لأنهم علموا علم اليقين حقيقة بني أمية، وخبروا إجرامهم وإرهابهم وظلمهم وتعسفهم… ؛ وقد صدقت الأيام رؤية العراقيين، فما إن وقع الصلح بين معاوية والإمام الحسن حتى شن معاوية حملات اعتقال وقتل ومصادرة أموال وهدم وإحراق بيوت، وأعلن حرباً لا هوادة فيها ضد العراقيين من أتباع أمير المؤمنين علي وآل هاشم، ولم يرحم صغيراً ولا كبيراً.
فقد اتبع الحاكم الأموي معاوية – عدو العراق الأول – سياسة لا إنسانية وتدميرية شاملة تجاه العراقيين، يمكن أن نسميها سياسة الإرهاب والتجويع والإقصاء والتهميش… ؛ فكان تارة يضطهدهم وينكل بهم، وأخرى يحرمهم من حقوقهم وامتيازاتهم… ؛ وكتب ابن أبي الحديد، العالم السني الشهير: «قتلت الشيعة بكل بلدة، وقطع بنو أمية أرجلهم وأيديهم على الظنة، وكان كل من يذكر ويعرف بحب أهل البيت والانقطاع إليهم يسجن أو يُنهب ماله أو تُهدم داره ؛ وقد بلغ الاضطهاد حداً جعل الرجل يقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعة علي»… ؛ وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي… ؛ فاستعمل معاوية عليهم زياد بن أبيه، وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام علي، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.
وكما أسلفنا، كان أهل العراق، ولا سيما الكوفيون، أشد نكبة وبلاءً من غيرهم، حتى أن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به فيدخل بيته، فيلقي إليه سرّه ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان المغلظة ليُكتمن عليه… ؛ وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: «ألا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة»… ؛ ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: «انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان وأسقطوا رزقه وعطاءه»… ؛ وقد استخلف زياد، الذي ولي الكوفة ستة أشهر والبصرة كذلك تناوباً، سمرة بن جندب على البصرة في غيابه، فقتل ثمانية آلاف من الناس ؛ فقال له زياد: «هل تخاف أن تكون قتلت بريئاً؟» فرد عليه قائلاً: «لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت»… ؛ وقال أبو سوار العدوي: «قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن». – تاريخ الأمم والملوك، ص ٩٥، ج٦ / سيرة الأئمة (عليهم السلام)، ص١٢٠.
فشتان بين الفريقين، إذ بينهم بعد المشرقين، فأين الثريا من الثرى؟ وصدق الشاعر عندما أنشد:
مَلَكْنا فكان العَفْوُ مِنَّا سَجِيَّةً *** فَلَمَّا مَلَكْتُمْ سَالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
وَحَلَّلْتُمُ قَتْلَ الأسَارَى وَطَالَما *** غَدَوْنا عَنِ الأسْرَى نَعِفُّ وَنَصْفَحُ
فَحَسْبُكُمُ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَنَا *** وَكُلُّ إنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ
ومنذ ذلك الحين، اشتد تعلق العراقيين بكل طوائفهم وأعراقهم بحاكم العراق وحكيمه الخالد الإمام علي ، ولم يشذ عن هذا الإجماع الوطني إلا من كان هجينًا أو غريبًا أو أجنبيًا أو منحرفًا عن الجادة الوطنية والإنسانية والدينية… ؛ وعليه، لا تستغرب أن حب الصوفية وبعض السنة للإمام علي كان بمقدار حب الشيعة له. وها هو التاريخ ينقل لنا مقدار الحب العظيم الذي يكنه فقيه العراق الإمام أبو حنيفة النعمان النبطي للإمام علي وآله، وبغضه لأعدائهم، وتأييده للثورات العلوية ضد الحكومة الأموية والعباسية، على الرغم من أن بني العباس من بني هاشم أيضًا.
ونقل الدكتور صائب عبد الحميد – و كان سنيًا ثم تشيع – : أن أغلب سنة العراق كانوا يقدسون الإمام علي ويقدمونه على مستوى الروحانية والقداسة على غيره من الخلفاء الثلاثة… ؛ نعم، قد شرب العراقيون حب الإمام علي مع حليب الأمهات الذي تغذوا عليه، وانتقلت محبته بين الأجيال العراقية كما تتناقل الصفات بالجينات الوراثية… ؛ وقد بين الشاعر هذه الحالة الفريدة من الحب والولاء والعشق بقوله:
لا عذب الله أمي إنها شربت *** حب الوصي وغذتنيه باللبن
وكان لي والد يهوى أبا حسن *** فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن
وصار حب العراقيين للإمام علي وآله وبنيه مضربًا للأمثال، وسارت بقصص حبهم الركبان… ؛ حتى إن الحاكم الأموي والخصيم المبين معاوية نفسه تعجب من هذا الحب والوفاء.
ومن بين القصص التي تنقلها لنا كتب التاريخ : قصة الزرقاء بنت عدي بن غالب بن قيس الهمدانية الكوفية، وهي من نساء الشيعة الفاضلات … ؛ عُرفت ببلاغتها وفصاحتها، وكانت ممن حضر صفين ولها مواقف في حث أهل العراق على الثبات في قتال الفئة الباغية. وبعد استشهاد أمير المؤمنين، طلب معاوية من عامله على الكوفة إحضارها مع من كان يطلبهم ويطاردهم من وجوه الشيعة وأعيانهم… ؛ ولما دخلت عليه، قال لها: هل تعلمين لماذا أرسلت في طلبك؟ فردت بجرأتها المعهودة: سبحان الله، أنى لي بعلم ما لم أعلم، وهل يعلم ما في القلوب غير الله؟ فقال لها: بعثت إليك لكي أسألك عن مواقفك في صفين بين الصفين، توقدين الحرب وتحرضين على القتال، وعما حملك على ذلك؟ فقالت: يا معاوية، لقد مات الرأس وبتر الذنب. فقال لها: تحفظين كلامك في ذلك اليوم؟ فقالت له (اتقاءً لشره): ما أحفظه. فقال: لكني والله أحفظه. فقالت: أيها الناس، إنكم في فتنة غشيتكم جلابيب الظلم، وحادت بكم عن قصد المحجة. يا لها من فتنة عمياء صماء، لا يسمع لداعيها، ولا ينقاد لسائقها. أيها الناس، إن المصباح لا يضيء مع الشمس، وإن الكوكب لا ينير في القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، وإن الزف (أي الريش) لا يوازي الحجر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. إلا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه… ؛ إن الحق كان يطلب ضالة فأصابها، فصبرًا يا معاشر المهاجرين والأنصار على المضض… , فكأن قد التأم شعب الشتات، وظهرت كلمة العدل، وغلب الحق باطله… , فلا يعجلن أحد فيقول: كيف وأنى؟ ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ولله عاقبة الأمور , ألا إن خضاب النساء الحناء، وإن خضاب الرجال الدماء , ولهذا ما بعده، والصبر خير في العواقب. إيهاً إلى الحرب قدماً غير ناكصين ولا متناكلين، فهذا يوم له ما بعده.
وكانت ملامح الغضب والحقد تلوح على وجه معاوية وهو يستعرض كلماتها، أما هي فكانت مطمئنة ثابتة على موقفها , فقال لها: يا زرقاء، لقد أشركتِ عليًا في كل دم سفكه ؛ فردت عليه ساخرة : أحسن الله بشارتك، مثلك من يبشر بخير ويسر جليسه… ؛ والله لقد سرّني قولك، وأتمنى أن أكون كما ذكرت… ؛ لم يكن معاوية يحسب لهذا الجواب حسابًا، فقد كان يظن أنها ربما تعتذر عن قولها، لكنه فوجئ بهذه المرأة الأسيرة بين يديه وهي تتمنى أن يحشرها الله مع من قاتله معاوية وسفك دماء جنده وأصحابه… ؛ فقال لها متعجبًا: وقد سرّك ذلك؟ قالت: نعم، وأنى لي بتصديقه. فقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إليّ من حبكم له في حياته…!!
نعم، أصبح الولاء للإمام علي وحبه رمزًا وهوية وملاذًا لكل الأحرار والشرفاء، بغض النظر عن أصلهم وقومياتهم ومعتقداتهم ؛ فالمعيار الأساس في تمييز الشيعي عن غيره هو حب الإمام علي واتخاذه قدوة في الحياة، وهذا المعيار قد يشمل كل فرق الشيعة وغيرهم من الصوفية والسنة والعلوية والكاكائية… إلخ. وإلف العراقي والشيعي للإمام علي وحبه له قد أضحى أمرًا فطريًا جبليًا متوارثًا، ولم يتركوا هذه المودة التي أوصى بها كتاب القرآن الكريم والنبي محمد تحت مختلف الظروف القاسية والتهديدات الخطيرة والمضايقات… ؛ واقترن حب الإمام علي بتاريخهم وثقافتهم وأسلافهم وعاداتهم وتقاليدهم وفولكلورهم الشعبي، ونشأتهم وذكريات الصبا… ؛ وأصبحت عبارة “يا علي” تختزل كل تلك المعاني الإنسانية والدينية والعاطفية والتاريخية… ؛ إذ طالما نادوه وهي حي، واستمر ندبهم له حتى بعد موته، لعلمهم أن العظماء أحياء عند ربهم يرزقون.
كثيرة هي مناقب الإمام علي، ومنها: رغم منزلة الإمام علي أمير المؤمنين والحاكم على البلاد الإسلامية المترامية الأطراف، كان يعيش بمستوى أضعف الناس. “يسد جوعته بكسرة خبز يابسة، ويأتدم الملح ليكون مستوى معيشته كأضعف الناس”. ويقول الإمام علي (ع): ((وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَانًا وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى)). ولأنه يمثل العدالة، فقد رفض التفريق والتمييز بالعطاء بين نفسه وسائر الناس، ومنهم أقرباؤه وعشيرته ومن يرفع راية أول الإسلام والهجرة والصحابة من باب التمييز عن الآخرين… ؛ وهذا ما فتح عليه باب معارضة أصحاب المصالح الشخصية والدنيوية الذين رفضوا عدالة الإمام علي وشنوا ضده الشائعات والإساءات والحروب. وإلى هذه اللحظة، البعض يصدق بالروايات القرشية الحاقدة والأخبار الأموية الكاذبة التي تستهدف شخص الإمام علي وشيعته وتجربته السياسية العادلة.
كان الإمام علي ينزعج ويتألم ويستنكر عندما يرى فقيرًا في دولته ؛ وهناك قصة مشهورة: “حيث كان الإمام في شوارع الكوفة، فمر بشخص يتكفف وهو شيخ كبير السن، فوقف متعجبًا وقال: ما هذا؟ ولم يقل من هذا، و(ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل، أي إنه رأى شيئًا عجيبًا يستحق أن يتعجب منه، فقال: أي شيء هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفف ؛ فقال الإمام: ما أنصفتموه، استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه. أجروا له من بيت المال راتبًا”.
وكان الإمام علي مع الحق والعدل والشرف وكل المعاني السامية والمثل النبيلة، ونصرة المظلوم والدفاع عن المظلومين والمستضعفين والمسلمين والعراقيين، وتكريس مبدأ حماية حقوق أفراد المجتمع والمساواة بين الناس. فالعدالة والحرية واحترام التعددية وحسن التعامل وترسيخ مبدأ الأخوة الإنسانية – الأخوة في الدين أو الخلق – عند الإمام علي حق للجميع.
وأما سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيا، والتبسم: فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه… ؛ قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة. وقال علي (ع) في ذلك: عجبًا لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن في دعابة، وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس! وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه: لله أبوك، لولا دعابة فيك! إلا أن عمر اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسمجها. وقد بقي هذا الخلق متوارثًا متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر. ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك – شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١ – ص ٢٦.
ولقد استشهد الإمام علي وهو في محراب الصلاة يناجي ربه، نتيجة تمسكه بالعدالة والحق والمبادئ السامية، على يد أشقى الأولين والآخرين ابن ملجم المرادي، الغريب عن العراق والعراقيين والمقرب من القرشيين والخط المعادي لأمير المؤمنين الإمام علي. وسار أعداء الإمام علي والى هذه اللحظة بنفس السيرة الإجرامية والإرهابية لبني أمية، بحق المسلمين والمحبين والموالي للإمام علي… ؛ وها هي أخير جرائمهم البشعة في سوريا ضد العلويين العزل، وليس آخرها، دليل آخر على سلسلة مجازرهم التاريخية المتواصلة ضد أتباع ومحبي الإمام علي في كل زمان ومكان.