من ينكر الكورد لا يستحق الوطن، سوريا لا تُبنى على جثة كوردستان، نحن الوطن ولسنا ضيوفًا عليه.
كيف يمكن أن نبني وطنٍ مشترك مع من لا يعترفون أصلًا بوجودنا، لا كشعب، ولا كمكوّن أصيل في الجغرافيا التي يُطلق عليها اسم “سوريا الوطن”؟
كيف نكتب دستورًا مع من يُنكرون علينا التاريخ والجغرافيا، ويرفضون حتى معرفة الحقيقة التي تفند رواياتهم المعلّبة؟
الوطن لا يُبنى على الإنكار، ولا تُكتب دساتيره بالحبر الذي جفّ على خرائط إقصائية، بل تُصاغ من دم الشعوب التي دفعت أثمانًا غالية من أجل البقاء، ونحن من هؤلاء، نحن أبناء الجغرافيا، لا عابروها.
من المؤلم القول، إننا نتعامل مع شرائح فكرها تشكّل في مستنقعات الثقافة العبثية، وتربّت على أيديولوجيات البعث، وتيارات قوموية عربية سنية متطرّفة لا علاقة لها بروح العروبة الأصيلة، هؤلاء يلوّحون براية القومية، لكنهم في العمق مأخوذون بعقدة إنكار الآخر، وعلى رأسهم الكورد، الذين يُنظر إليهم، للأسف، كأنهم طارئون على الجغرافيا السورية، استنادًا إلى قراءات تاريخية سطحية، ساذجة، ضحلة، بل ومثيرة للشفقة أحيانًا، وانتقائية، لا تخلو من التبسيط، وأحيانًا من التسرّع والخلط بين الرغبة والواقع.
الوطن الحقيقي يتسع لتعدد القوميات والإثنيات، أما الوطن المفروض بلون قومي أو ديني واحد، فليس إلا قناعًا للاستبداد، ومن دون كبح هذا الخطاب العنصري، وإبعاد هذه الشرائح الإقصائية عن المشهد السياسي السوري، فلن يكون هناك أي بناء لوطن مشترك.
ومن المؤلم القول، أنه مع استمرار هذه العربدة الخطابية، تتجه سوريا نحو التقسيم، لا لأن الكورد يسعون إليه، بل لأن أولئك الذين يُنكرون وجود الكورد وحقوقهم، هم من يُفكّكون الوطن حجرًا بعد حجر.
الكورد لم يكونوا يومًا طارئين على هذه الأرض، بل هم من أبنائها الأصليين، وغربي كوردستان، بشعبه الكوردي وتاريخه العميق، ليس مجرد منطقة جغرافية، بل هو ركن أصيل من النسيج الحضاري لكوردستان الكبرى، وهو اليوم جزء من سوريا، لا كإلحاقٍ طارئ، بل كامتدادٍ تاريخي لجغرافيا ساهمت في تكوين ملامح الوطن، وستظل جزءًا حيًّا من مستقبله، إذا ما سكتت الأصوات العنصرية، وأُتيح لهذا البلد أن يُبنى على أسس الشراكة الحقيقية، لا الإقصاء، وعلى مفهوم الوطن الجامع، لا الوطن القسري المفروض بلون واحد.
وبالعودة إلى تاريخ الجزيرة الكوردستانية، ومتى بدأت موجات قدوم القبائل العربية إليها، ومتى تحوّلت إلى مراكز حضرية مستقرة، وهو ما كتبنا عنه في العديد من المقالات والدراسات، تحت عناوين مثل: (مصداقية الباحث العربي) و(كوردستانية الجزيرة)، إلى جانب ما وثّقه مؤرخون كورد وعرب وأجانب، لا بد من التذكير – ولو بعجالة – ببعض الحقائق التي يعرفها كل مطّلع على التاريخ والجغرافيا، باستثناء أولئك الذين اختاروا الجهل أو الإنكار المتعمّد.
فالجزيرة الكوردستانية، التي أُلحقت بسوريا بعد انهيار السلطنة العثمانية، ثم أُعيد ترسيم حدودها بموجب اتفاقية أنقرة الثانية عام 1936، كانت تُعرف بأغلبيتها السكانية الكوردية، وهو ما أكّده عدد من الرحالة الأوروبيين في كتاباتهم.
من بين هؤلاء، الرحالة البريطاني جيمس بكنغهام، الذي زار شمال سوريا عام 1816، وأشار في ملاحظاته إلى الطابع الكوردي الواضح للقرى الممتدة في تلك المناطق، مؤكدًا أن الكورد يسكنون القرى الواقعة بين نهري الفرات ودجلة، بشكل كثيف نسبيًا، في الوقت الذي لم يكن للعرب حضور حضري واضح ومستقر في تلك المرحلة.
أما المستشرق والرحالة الألماني ماكس فون أوبنهايم، الذي زار المنطقة في نهايات القرن التاسع عشر، فقد كتب في تقاريره (المنشورة لاحقًا في كتابه “Vom Mittelmeer zum Persischen Golf”) عن القرى الكوردية في الجزيرة السورية، وأكد أن الكورد هم السكان المستقرون في تلك البقاع، مشيرًا إلى أنهم يعيشون في استقرار زراعي، بينما لم يكن للعرب في تلك البقعة أي شكل من أشكال التمدّن الدائم.
كما أن وثائق وسندات تمليك صادرة عن ولاية ماردين العثمانية، يعود بعضها إلى بدايات القرن الثامن عشر، لا تزال محفوظة لدى بعض العائلات الكوردية، وتشير إلى ملكيتهم للقرى الواقعة ضمن حدود ما يُعرف اليوم بالجزيرة السورية.
أمام هذا الواقع، لا يملك أحد إنكار أن الكورد كانوا حاضرين في الجزيرة الكوردستانية قبل نشوء الدولة السورية الحديثة، وقبل موجات الهجرة العربية من منطقة حائل ما بين 1890-1910م، بل حتى قبل الغزوات العربية الإسلامية الأولى. لقد أسّسوا حضارات في هذه الجغرافيا، وجذورهم فيها تضرب في عمق التاريخ، آلاف السنين قبل أي حضور عربي – إسلامي منظم.
أما التشكّل الحضري العربي في الجزيرة، فلم يبدأ فعليًا إلا في عام 1936، عندما فرضت الحكومة السورية، تحت الانتداب الفرنسي، تمثيلًا عربيًا في البرلمان، وهو ما استدعى آنذاك تشكيل بُنى حضرية مصطنعة لأغراض سياسية، بحسب ما توثقه سجلات الأرشيف الفرنسي.
إن من يُنكر هذه الوقائع، إما لم يقرأ التاريخ أصلًا، أو اختار أن يبقى أسيرًا لروايات البعث الشوفينية، التي حوّلت الوطن إلى ساحة مغلقة لرواية قومية أحادية، ترفض التعدد وتنكر الاختلاف، بل تعتبره تهديدًا.
أما ما يُتداول عن بني ربيعة وبني بكر في الجزيرة، فهي مجرد روايات تكررت في مدونات الغزاة، بلا أي شواهد أثرية أو وقائع ديموغرافية حقيقية تدعمها، بل لا تعدو كونها محاولة لاحقة لتأصيل وجود لم يكن قائمًا حضاريًا في تلك الجغرافيا.
نحن لسنا بحاجة إلى اعتراف أحد، نحن نعرف من نحن، ونعرف أين نقف، لسنا مهاجرين إلى وطن أحد، بل أبناء جغرافياٍ دُفعت إلى التفتت قسرًا، وأُريد لها أن تُمحى من ذاكرة المنطقة، لن نكتفي بالمطالبة، بل سنبني وطننا، على أرضنا، وفي جغرافيتنا، وعلى امتداد تاريخنا الذي لم يُقطع إلا بخناجر الاحتلال والتقاسم الاستعماري.
الكورد، بحراكهم السياسي، وثقافتهم، ومشروعهم الديمقراطي، هم من يقدّم اليوم نموذجًا لمستقبل سوريا التعددي، من لا يرى ذلك، هو من سيبقى خارج الجغرافيا وخارج التاريخ.
أما نحن، فماضون في ترسيخ وجودنا، لا في الهامش، بل في المركز، لا كطلب اعتراف، بل كحقيقة واقعة، لا تمحوها صرخات الحاقدين، ولا ادعاءات العابرين على حساب الحقيق.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
2/4/2025م