شيء ما كـمقدمة
لا اجدُ اي مبررٍ لهذا العطش في استذكار احداث الماضي وجعله جميلاً _ وان لم يكن كذلك_بالمقابل لستُ انساناً يعاني من حاضره، فأنا شغوفٌ بالعمل ولدي رصيدٌ جيدٌ من المال ولا اعاني الاحباط الا ما ندر. لا حجة امتلكها لهذا الوهم الا بجعله كلماتِ يقراها غيري علهُ يرى فيها القليل من الوقاحة والقبح والواقعية الصارخة لتخرجني من متاهات هذه الافكار الطفولية. يقول صديقي (آندي) البولوني بأنه يشاركني حماقاتي ويرى في ايامه في سامراء والانبار وكربلاء في منتصف الثمانينات عندما كان يعمل ضمن احدى قطاعات الصناعة للشركات البولونية في العراق،ويضيف بأنه كان يرى في تلك الايام جمالاً خلاباً لا مثيل له، لكنه يخجل ان يشاركه احد في تلك الميزة! ،اذ ما ان يفتح الموضوع بشأن العراق حتى يضحك الجالسون ويرادفون اسمه بالتفخيخ او الارهاب حتى انني استغربُ _والكلام لأندي _حينما ارى صورٍ من تلك المناطق وقد غلب عليها اللون الرمادي ،اذ لا اخضرار او الوان او جمال يذكر،حتى انني حينما اعدُ البوم الصور لتلك الايام لا اجد اي بهاءٍ الا في مخيلتي واحلامي…لا اعرف ان كان للعمر مراحل وعقد لا اميزها ولا اجد تفسيراً لها سوى شغف النستولوجيا وطـيفه يلاحقنا دون ان ندري. عن نفسي فأني لا افهم بالضبط عن اي حنينٍ الى الماضي اتحدث؟! ومتى بدات علاقتي معه؟! لكنني اعلم انني حينما كنت اعود مع (حسين اسماعيل) من مدرستنا المتوسطة البعيدة نسبياً ،كان يجعلنا نـمرُ عبر ازقة المدينة القديمة لنقفز من على ذلك الدرج الكبير لـ”سوق الفوق” لنخرج من امام بناية البريد القديمة ونطل بعدها بأمتار على ذلك المنظر البهي لبساتين سنجار بالقرب من ذلك الجسر الوحيد في المدينة والذي يجاور السور الروماني والذي يعتبر اهم معالم الحضارة المتبقية لتلك البقعة الفقيرة من العراق. كان حسين يردد دون ملل بأنه قضى طفولته كلها في هذا المكان الوديع ولا يريد الوصول لحي النصر حيث مسكن والده الجديد، “حي النصر” ذلك الحي المستوي المستقيم والذي يخلو من اي علو او هضبة لا يلائم وحنين صديقي الجارف. كنا حينها لم نتجاوز الثانية عشر من عمرنا، رغم ذلك نمتلك هذا الكم من مشاعر الحزن والحنين غير المبرر الى الماضي الذي لم يتجاوز الاشهر،فكنت استذكر لصديق الطريق ايام تل قصب وجمالها، فتهيجُ مهجتي وادمعٌ حائرة اعتصرها،فعالمٌ جديدٌ ولغةٌ كورديةٌ عربيةٌ هجينة متداخلة بأنتطاري.
غزا صدام الكويت وفُرض الحصار الاقتصادي علينا وبانَ تاثيره ببطىء على معظم الاشياء ،فأبتعاد التلاميذ عن الدراسة لا يواجهه تلك الصرامة المعروفة من قبل المعنيين فالحالة المادية ساءت لمعظم فئات المجتمع، فقلَ عدد اصدقاء الدراسة وقلَ مجمل الاشياء الجميلة المحيطة بعيوننا المراهقة ، فكما كان اصدقائنا الاكبر من سناً يتباهون برؤيتهم وتسوقهم في” اورزدي” سنجار الذي اغُلق ومحلات “الباتا” التي نُفذت بضاعتها، فبتـنَ نحن ايضاً نستذكر لأصدقائنا اللاحقين عن صباحات دكاكين سنجار النشطة بصوت فيروز في رحلتنا اليومية وكيف انها تحولت شيئاً فشيئاً لأدعية وتلاوات دينية حتى حفظنا اسماء مؤديها، موظفات البلدية والماء والمجاري والكهرباء والمصارف قل عددهن وفقدنا بريقهن وفقدنا نحن تسريحات شعرهن الجميلة بعد انتشار الحجاب في اوساط المجتمع ، حتى ان رائحة العطور النسائية الفرنسية الزكية لم نعد نشمها كالسابق ونحن نسير في رحلتنا اليومية الى المدرسة بالقرب من “بيت المعلمات” الملاصق للمكتبة الفرعية للقضاء.
غُـيبت الايام الصعبة معظم اصدقائنا عنا من ضمنهم حسين الذي ورث عن والده مهنة تصليح مكائن الخياطة_ واظنهُ المحل الوحيد لهذه المهنة في القضاء_ وكلما تسنى لي ان امر بالقرب من محله اذهب للسلام عليه بعد تركه للدراسة واستقراره في هذا المحل ، اذ كان شغوفاً ومحباً لعمله وبالعُدد اليدوية التي في حوزته وبينه وبينها علاقة خاصة لكونها ذكرى لوالده المرحوم ومعها حنيناً خاصة لا يعرفه سواه _ كما يقول_.
بعد سنين عدة شاءت الاقدار ان يركب صديقي حسين سيارة اجرة من سنجار الى سنوني بتاريخ 3.12.2004 والتي لا يفصل بينهما سوى الجبل من اجل بضاعة عمل ، الا ان سوء الاوضاع الامنية جعلت من معظم طرق المدينة الخارجية مرتعاً للارهابيين، وبالفعل وبوابلٍ من الرصاص ودع حسين ومن معه في السيارة الحياة ليترك خلفه عائلةً صغيرةً فقيرة وحنيناً كبيراً وجارفاً للماضي.