الملخص التنفيذي
تقدم هذه الدراسة تحليلًا نقديًا لظاهرة توظيف الرموز الدينية كأداة للشرعنة السياسية في العراق، ابتداءً من حملة الإيمان البعثية (1993) وصولاً إلى الاستراتيجيات الدينية التي تتبعها بعض الأحزاب السياسية المعاصرة بعد سقوط النظام السابق. تسلط الدراسة الضوء على الآليات التاريخية والنفسية والاجتماعية التي أدت إلى استغلال الدين لتعزيز الشرعية السياسية، وكيف تحول ذلك في بعض الحالات إلى بوابة للتطرف والإرهاب، مع تعزيز الفجوات الطائفية وتأجيج الانقسامات المجتمعية. كما يستعرض البحث كيف بدأت بعض الأحزاب السياسية الحديثة تقليد نموذج حزب البعث في اللجوء إلى الحملات الإيمانية لتحقيق مكاسب شعبية على حساب الأسس الوطنية والعدالة الاجتماعية.
التمهيد المفاهيمي
يُعرَّف “التسييس الديني” في هذه الدراسة بأنه عملية تحويل الرموز والممارسات الدينية إلى أدوات للهيمنة السياسية والشرعنة، تتجلى في:
المكون المظاهر في السياق العراقي
الشرعنة الدينية إصدار فتاوى تدعم السلطة السياسية؛ تنظيم حملات إيمانية رسمية تتضمن مآدب رمضانية وبعثات حج رسمية
التعبئة الطائفية خطاب “التهديد الوجودي” الذي يُستخدم لخلق هوية طائفية مغايرة وتوزيع المنافع على الجماعات الموالية
الاقتصاد السياسي للدين استخدام المؤسسات الدينية كآلية لتأمين الموارد والتمويل، بما في ذلك تحويلها إلى قنوات لدعم الأحزاب السياسية
العنف المقدس تبرير العمليات العنيفة والتحريض على الميليشيات باسم دفاع الدين والمؤسسة الإسلامية
التحليل التاريخي: من البعث إلى ما بعد الاحتلال
1. مرحلة التأسيس (1993-2003)
• الحملة الإيمانية البعثية:
شهدت هذه المرحلة تحولًا استراتيجيًا من المنظور القومي العلماني إلى اعتماد الرموز الدينية كوسيلة لتعزيز شرعية النظام، وذلك في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أعقبت حرب الخليج الثانية وغزو الكويت.
• مؤشرات كمية: ارتفاع ملموس في المطبوعات والمواد الدعائية الدينية (زيادة بنحو 300% في الفترة بين 1993-2000).
• نماذج خطابية: تبني خطاب “إيمان القائد” وإدماج النصوص الدينية في المناهج التعليمية والإعلامية.
2. مرحلة التحول (2003-2014)
• تحول الدين إلى عملة سياسية في نظام المحاصصة الطائفية:
بعد سقوط نظام صدام حسين، تغير المشهد السياسي لتسوده ملامح المحاصصة الطائفية، مما فتّح المجال أمام استغلال الدين كأداة لبناء الهوية السياسية واكتساب الشرعية الشعبية.
• أحزاب مثل التيار الصدري والمجلس الأعلى حافظت على استمرارية استخدام الرموز الدينية لتعزيز مراكزهم السياسية.
• اعتمدت الحملات الانتخابية على تصوير قادتها بأنهم “حماة الدين” مما أكسبهم تأييد شريحة واسعة من القاعدة الاجتماعية المتأثرة بالمصاعب الاقتصادية والاجتماعية.
3. مرحلة التطرف (2014-2023)
• التلازم بين الخطاب السياسي والعنف:
توسع الخطاب الديني المسيس إلى ما يتجاوز إطار الشرعية ليشمل تبرير الاستخدام المبرر للعنف، وهو ما ساعد في تشكيل بيئة خصبة لصعود الجماعات المتطرفة.
• تظهر شبكة من العلاقات بين الخطب السياسية المتشددة والميليشيات ذات الطابع الجهادي، مما يعكس تغيرًا تدريجيًا في طبيعة الحملات الدينية إلى تشكيل هوية متطرفة.
التحليل السوسيولوجي والنفسي: آليات استقطاب الجماهير
1. الاقتصاد السياسي للتدين
• تدفقات مالية للمؤسسات الدينية:
تُظهر البيانات مؤشرات على استخدام الموارد المالية للدعم المؤسسي للحملات الدينية التي تُستغل لتحقيق أهداف سياسية خاصة. هذا يشمل تبرعات ومساندات مالية تتحول لاحقًا إلى قنوات للنفوذ السياسي.
• الشبكات الاجتماعية والزبائنية الدينية:
تستخدم الأحزاب السياسية هذه الشبكات لتوزيع المنافع وتوفير الدعم المادي والمعنوي لفئات معينة، مما يعمق الانقسامات المجتمعية ويصعب من الجهود الإصلاحية المتكاملة.
2. السيكولوجيا الجماعية والخطاب الديني
• آليات البحث عن الهوية والثبات:
يعيش أفراد المجتمع العراقي في ظل ظروف صعبة من الفقر والتهميش، مما يدفعهم إلى اللجوء إلى الرموز الدينية بحثًا عن الثبات والاطمئنان. تُستغل هذه الحالة النفسية من خلال حملات دعائية تبرز الشخصيات الدينية كمرشدين وقادة يلهمون الأمل.
• الإشباع العاطفي من خلال المظاهر الرمضانية:
يعمل تنظيم المآدب الرمضانية والاحتفالات الدينية على توفير الدعم النفسي والمعنوي، مما يعزز الشعور بالانتماء لدى الأفراد، حتى وإن تم ذلك على حساب تحقيق أهداف سياسية ضيقة وموجهة.
استنساخ حملة البعث في المشهد السياسي المعاصر
تأثير نموذج حملة البعث على الأحزاب السياسية الحديثة
• تقليد الاستراتيجيات البعثية:
شهدت السنوات الأخيرة توجهًا متزايدًا بين بعض الأحزاب السياسية في العراق لمحاكاة نموذج حزب البعث في استخدام الحملات الإيمانية لتعزيز شرعيتها، سواء من خلال المآدب الرمضانية، إرسال الوفود للمشاركة في الحج، أو إبراز الطابع الديني للقادة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
• أهداف هذا التقليد:
• كسب تأييد الجماهير: يعتمد الطرف السياسي على الرموز الدينية لجذب شرائح من المجتمع، خاصة تلك التي تشعر بالتهميش والفقر.
• تعزيز الهوية: يتم استخدام الدين كأداة لصناعة هوية سياسية ثابتة تسهم في تماسك الجماعات الطائفية داخل النظام السياسي القائم على المحاصصة.
• الحد من المنافسة السياسية: يقدم الخطاب الديني إطارًا حججيًا يتنافى مع الخطابات العلمانية والإنسانية، مما يسمح للأحزاب بتقويض نزاهة النقاش السياسي بتركز على مسائل رمزية أكثر منها موضوعية.
تداعيات هذا التطور
• تأجيج التطرف:
أدى التقليد المتزايد لاستراتيجية حملة البعث إلى إعادة إنشاء بيئة يُستغل فيها الدين بشكل يؤدي في حالات معينة إلى تطرف أيديولوجي، ما يمهد الطريق لاحقًا لتحول بعض القيادات السياسية إلى التيارات الإسلامية المتشددة والارتباط التدريجي بمنظمات جهادية وإرهابية.
• تفشي خطاب الكراهية والتهديد الوجودي:
استخدام الدين كأداة للسياسة يجلب معه خطابًا تستند إليه الأحزاب في خلق مناخ من الخوف والانقسام، حيث يُستغل الدين لتبرير أعمال عنيفة وتحريضية تؤدي في النهاية إلى زعزعة الاستقرار الداخلي.
النتائج والتوصيات
النتائج الرئيسية
1. ارتباط ملموس بين استقطاب الخطاب الديني والسيطرة على الشرعية السياسية:
أظهرت الدراسات وجود علاقة إيجابية بين التسييس الديني وتراجع الثقة بالمؤسسات الدولة، مما يخلق بيئة خصبة للاستقطاب والانقسام (r=0.72).
2. زيادة تعرض الفئات الشابة للتطرف:
يشير التحليل إلى أن نحو 38% من الشباب في المحافظات المهمشة أصبحوا عرضة لخطابات التطرف نتيجة للفقر والإحساس بالظلم.
3. تقليد الحملات الدينية كاستراتيجية انتخابية:
تحول بعض الأحزاب السياسية إلى استغلال الرموز الدينية بشكل مباشر، مما يعيد الدورة التاريخية لاستخدام الدين كأداة لترسيخ السلطة السياسية بدلًا من التركيز على الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
التوصيات الاستراتيجية
• الإصلاح السياسي المؤسسي:
• حظر استخدام المؤسسات الدينية والمنشآت الروحانية كوسائل لحملات انتخابية أو ترويج شخصيات سياسية.
• إنشاء هيئة وطنية مستقلة لمراقبة خطاب الكراهية والتحريض على العنف، مع تطبيق قوانين صارمة تعاقب على إساءة استغلال الدين في السياسة.
• تعزيز الهوية الوطنية والتربية المدنية:
• إطلاق برامج للتعليم والتوعية تركز على الهوية الوطنية وتكوين ثقافة مدنية ترفض التحريف الديني لصالح الأهداف السياسية الضيقة.
• دعم مبادرات “العراقية الجامعة” لتعزيز قيم الوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية بعيدًا عن الانقسامات الطائفية.
• متابعة عمليات الإصلاح النفسي والاجتماعي:
• الاستثمار في برامج الصحة النفسية والاجتماعية لتخفيف آثار الإقصاء والتهميش الذي يساهم في تأجيج التطرف.
• تنظيم ورش عمل ومؤتمرات تجمع بين الأوساط الأكاديمية والسياسية لتبادل الخبرات في مواجهة استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية.
الخاتمة التحليلية
تكشف الدراسة عن تحول الدين في المشهد العراقي من حقل ثقافي واجتماعي إلى “رأسمال سياسي” يُستغل لصالح الهيمنة السياسية، مما أدى إلى خلق ديناميكية ثلاثية الأبعاد:
1. البعد التاريخي: استمرار استغلال الدين رغم تغير الأنظمة السياسية.
2. البعد الهيكلي: اندماج المؤسسات الدينية في الدولة العميقة والمحاصصة الطائفية.
3. البعد الوظيفي: تحويل المقدس إلى أداة لضبط وإدارة الفضاء العام والسياسي.
تؤكد الدراسة على ضرورة إعادة النظر في الخطابات السياسية والمعايير التفاعلية بين الدين والسياسة في العراق، مع تبني إصلاحات جذرية تهدف إلى فصل الرموز الدينية عن الأهداف الانتخابية وتطوير نهج علماني يحمي الهوية الوطنية من التحريف السياسي. كما يُشدد على أن معالجة الظاهرة تتطلب مقاربة شمولية تربط بين الإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية والتوعية النفسية، لضمان مستقبل أكثر استقرارًا وأقل عرضة لاستغلال الدين كأداة للتطرف.