الإثنين, نوفمبر 25, 2024
Homeمقالاتأ.د. سيّار الجميل: رموز واشباح الحلقة 18 هستيريا الشعراء ...

أ.د. سيّار الجميل: رموز واشباح الحلقة 18 هستيريا الشعراء العراقيين !

 

هستيريا  الشعراء  العراقيين  !

مقدمة

    يقول بول فاليري Paul Valéry  1871- 1945 م  ابان العشرينات من القرن العشرين: “الجديد ، ان الذي يمكن أن يكون قابلاً للتأثر بطبيعته ، هو من النوعية البارزة التي يفسدها غيابها عن الآخرين بسبب  نزقها ، ويحولها حضورها الى  مجرد  نص  بلا  حياة  !   وقد تسارع تجديد الأمور أكثر منذلك. في الفنون الجميلة و الأدب الذي كان تقليده منذ فترة طويلة هو  القاعدة السامية  في  تطور  فكر  المجتمع  ورقي  الانسان ، وأصبح ضمن الجديد قد التزم  بحتمية الحداثة و الطليعية والتعبير  عن  واقع  .   وكان  الصيحة ”  اجعله جديدًا ”  عندما أعلن ذلك  عزرا باوند  Ezra Pound. 1885– 1972م  وبالتالي فإن فكرة التقدم قد هيمنت على الفنون والتقنيات على مدى قرن جيد. وقد وصفت ناتالي ساروت Nathalie Sarraute  1990- 1999  الادب  في عام 1964 ، قائلة : “الأدب يبدو وكأنه حلبة سباق يتابع. الجميع مشاهدة الميدان  وكم كاتب  وشاعر  فيه يجري  ليسبق  من  هو  امامه  باسلوبه  دون ان  يتمكن من العودة او حتى البقاء.  لكن اليوم ؟ ماذا سيكون مكان الأدب ، والرومانسية ، والشعر ، وقبل كل شيء القراءة والتفكير  ، في العالم العالمي الذي لدينا أكثر وأكثر منذ الثورة الرقمية؟ هل ما زال مبدأ “التطوير الثابت” للأدب ذا صلة؟ أم سيبقى ، في عالم “التقادم المبرمج” ، من خلال  عقيدة المحافظة؟   هل ما زالت هناك اختراعات أدبية جمالية؟ ألم يقل ألبرت كامو Albert Camus    1913-  1960  أن مهمة جيله هي “منع العالم من الضلال”؟ اذا  كان  هذا  تفكير  العالم  ،  فنحن  في  ثقافتنا  العربية  افتقدنا النقد  او  كدنا  نفتقده  ..  وافتقدنا  الادب الحقيقي ، ولكن لم  يزل  اغلب العراقيين يعيشون  هستيريا  الشعر  والشعراء  أكثر من غيرهم .. ولكن  بأي  تفكير ؟ !

بينهم  وبين  هستيريا  من نوع آخر  في مصر

امضيت الايام الاخيرة وانا ارقب ما حل بالعراقيين مثقفين واشباه مثقفين وادباء ومتابعين ومتفكهين وساسة وتابعين وقراء مهتمين  أو متطفلين على الادب  …  ، وكأنهم غدوا في حرب اهلية مستعرة ، يتشاتمون ويتصارعون ويتنابزون ويتصايحون حول قضيّة بليدة جدا هنا  لا تشكّل خطرا لا قبل موت صاحبها ولا بعده  ، فقد مات  شاعر  شعبي  عراقي ، فانقلبت  الدنيا  وعاش  المجتمع  الثقافي العراقي  هستيريا انقسامية كما هي  عادته ، اذ  يختلف العراقيون بشدة  على  أية قضية  سياسية او  جهوية  او  طائفية تافهة خاسرة ويتجادلون  ويتنافرون  وتمضي الايام ،  فينسون  ما  حدث ، وكأن  شيئا  لم  يكن !!  على  عكس  اخوتهم من المصريين  الذين  يعيشون  هستيريا  توحدّهم  كما  هي  عادتهم  منذ  عشرات السنين  ، وابرز  مثال  عندما رحل  جمال عبد الناصر  ، او مات  عبد الحليم حافظ او  رحلت  ام  كلثوم أو  غيرهم ..   ان من يرقب ردود  فعل العراقيين  عند  موت  شاعر  أو  اسم  معين  له  رصيد  سياسي او  اعلامي  ، فترى هذا يرفعه  الى السماء  ، وترى ذاك ينزله  الى  سابع  طبقات الارض بعد  ان  عاش رجلا  كان  ام  أمرأة ، مهمشّا  او  مبعدا  او  مغتربا ومنسيا   لم  يذكره  أحد  وعند مماته  ، يتم النفخ في  مقامه  لايام هستيريا ، ثم  يطويه النسيان ..  

حالة  سايكلوجية  مضطربة

أنهم  ينسون كل فجائعهم ومآسيهم ومشاكلهم ليشغلوا انفسهم بموقف سياسي او  شخصي  لاحد اسماء الكبار الراحلين ، والذي لا يختلف اثنان على ابداعه وقوة كلمته ،  وقد رحل عن الدنيا قبل ايام  ، ولا اعتقد ابدا ان المسألة بحاجة الى هذا القدر من الانقسام وذاك الحجم من الاهتمام . واعتقد بأن التفكير الخاطئ في الزمن الخاطئ قد دفعهم كما هي العادة لخلق قضايا تافهة ، او  مناسبات  فضفاضة ، تجعلهم دوما يأكلون انفسهم بأنفسهم ويزداد تفسخهم وتكبر تناقضاتهم في ما بينهم ، وقد غاب العقل تماما لديهم كما هو حالهم منذ ازمنة مضت ! وهذا  وجه  من  وجوه  شخصيتهم  القلقة التي  تغرق  في  العواطف  دوما  والمغالاة  فيها  ،  اذ  تجد  اي  عراقي  ينتفض  مزمجرا  ثائرا  صاخبا  شاتما  وسرعان  ما  ينطفئ  غضبه  ويخفت  زعيقه  ،  ويبدأ  بلوم  نفسه  بنفسه ، لكنه لا  يتراجع أبدا  اذ  تأخذه العزة  بالاثم  ، او  تجده  يتصالح مع  خصمه  في اليوم التالي ، وكأن شيئا لم  يكن من دون  اي  اعتذار  ، فالاعتذار  عند  العراقيين  عيب ، وكأنه ان  اعتذر  ،  فهو يطعن في  شرفه !

هذه الشخصية  المضطربة  تفتقد  الى  الحلم  اولا  ،  والى  الهدوء  ثانيا ، والى  البساطة  ثالثا  ..  اذ  تعتقد  اعتقادا  عميقا وراسخا  بأنها  دوما على  صواب  والاخر  على  خطأ  !  مما  يجعلها  عرضة  لأن  توصف  بالجحود  والنفاق  .  ويعجب  المرء  من  حالات التناقض  التي  تتلبس  هذه  الشخصية  ، ففي الوقت  الذي  تجد  فيها  كل الطيبة  والوداعة  والكرم  والعفوية وروح الالفة لدى الطيبين .. تجد  فيها  على  الطرف المقابل  العنف  والثأر  والجحود  وركام الاحقاد والكراهية   ..  

الذاكرة  التاريخية للعراقيين :  الشعراء  أولا

العراق  هو  بلاد  الشعر  والشعراء والادباء  والكتّاب  والمؤلفين منذ  القدم  ، وقد انجب  الالاف  من الشعراء والادباء  على  امتداد  الازمنة  الخالية    .. لقد بقي الشاعر منذ اكثر من الف سنة في الذاكرة الجمعية العراقية ، وكأنه هو الوحيد الذي يستنهض الهمم والعزائم ، وكأنه هو المخلّص لكلّ ما حاق بالعراق من انكسارات وهزائم او التشدّق  بالانتصارات    وصنع  المفاخر  ،   ويتعامل بالسيف والترس لا بالحكمة والرأي  والكتب !  ان اجيالا عراقية وعربية عديدة قد تربّت تربية خاطئة لما قاله شعراء عظام ،  وحفظت نصوصهم على ظهر قلب ، وفيها  من  الحماسة  والحكمة  والامثال السائرة  ، وكأنها نزلت من السماء باعتبار اصحابها عمالقة وقامات او اوصياء وانبياء وستبقى  تلك  ” النصوص  ”  حية  لن  تموت  ” وان  من الشعر  لحكمة ”  ،  وفي المقابل  ، ثمة  نصوص  اخرى  شعرية  او  نثرية  ،  عندما نتوغل في فهمها ، نجدها مجردة من العقل والعاطفة تماما ، ولا يمكن قبولها ابدا وسوف  تموت  مع  توالي  الازمان ، فهي  ضد  حقوق الانسان  ، وضد  ما  يريده  العالم  وما  يقبله العقل  ! اننا  نعلم  بأن  ابياتا من الشعر  قد  احتوت على  حكم  وامثال  رائعة  .. ولكن  ليست  كلها  أبدا  ..

فأحدهم يعلمنا بأن الدم هو  الذي يسلم الشرف الرفيع ! والاخر  يشترط ان تخرّ الجبابر  سجودا لطفل منهم بلغ الفطام ! اما الاخر  ، فيرى في الناس السود مجرد عبيد وانجاس مناكيد !  وشاعر آخر  ، يصرّ  على فرديته وأنويته في الوجود ، فان مات ظمآنا فلا نزل القطر على  كل العالم  !  وكم هو نرجسي ذاك الذي لا يعشق الا انويته القاتلة ! وكم هو الاخر شتّام خوّان سبّاب هجاء  واشتهر  بشعر النقائض وابدع  في  غرض  الهجاء  !  اما شاعر اخر ، فيعدّ الاكثر تقلبا على الحبال والجلوس على كل الموائد في المقّرات وغرف الملوك والمستبدين  الخ  وآخر  يذكي  الحروب  ويريد  ان  يبقيها  مشتعلة  الى ابد الابدين  ..  وآخر   لا  يرى  في  صنمه  الا  معبودا  من  قبل الملايين  .. وآخر   في  رثائه  لرئيس  عربي  مات  يؤنب  نفسه  وامتع  قائلا  :  ” قتلناك  يا  آخر الانبياء  ”  !   هذه  مجرد  أمثلة  وغيرها  كثير   ،  تتداولها  الاجيال  كابرا  عن  كابر  من دون  ادراك  تأثيرها  في  تشكيل  الشخصية  وسايكلوجيتها  المضطربة ، اما النصوص  الجديدة  فبعضها  متهافت  جدا  ، او  مشيطن  او   متلبس  بالمبالغات   .  

الشعراء  تحركهم  توابعهم  ( او  :  شياطينهم )  

 دعوني اقول ، وليعذرني اصدقائي الاعزاء  من الشعراء العراقيين المبدعين  ، بأن الشاعر  ليس هو المبدع الوحيد في هذا الكون الفسيح .. والشاعر  ليس هو المحتكر  الاول والاخير  للكلمة والثقافة ، ولا وحده يملك الفكر والعقل ، ولا يمكن له وحده احتكار  الوطن بحيث  نجده  في  كل الازمنة  يهيمن  على  الاعلام  والصحف  والمهرجانات  والاحتفالات  دون  غيره من المبدعين !  ان الشاعر  الحقيقي هو  المبدع الملتزم  الذي  ينغمس مع الام شعبه ، ويعبر  عن  وجدانهم  ،  ويعيش معاناة الناس ، ويفصح صادقا عن احلامهم وتطلعاتهم ، ويخشى  على  مصيرهم ..  ولا تعنينا تقلبات امزجته وتراكيب ذاته ، وكأنه وحده يعاني دون الاخرين  ! شعراء  يتراكضون  لنشر  دواوين  تضم  كلاما  فارغا  لا  خيال ولا  عاطفة  ولا موسيقى  فيه ،مجرد  كلام  خال  من  الصور  الشعرية  الجديدة ، وليس له  اي  معنى ! .

نعم ، ان الشاعر الحقيقي فنان مرهف الاحساس يعيش مع توابعه  ( أي  مع  شياطينه كما قالوا في قديم الزمان ) في  حالة  جنون ، او يناغي  مع اخيلته وعواطفه وموسيقاه من اجل ان يثير زوابعه ! والعراق يتربع عليه الشعراء ( الذين يتبعهم الغاوون ) منذ ازمان قديمة طوال ، وهم اكثر من استحوذ على صور العراق والوانه واعلامه وترجماته واحجياته وتراثه .. وعلى مر ازمنة وعهود ، والمجتمع لا يعرف من  أغلبهم الا المدح والقدح والهجاء والتشبب والتفاخر والاوصاف والاوهام والمطولات من المديح  الكاذب  او  بعض نصوص شعرية يكتبها  صعاليك  ومجانين ومرضى  نفسيين  وتافهين   ، اي  باختصار  لا  يعرف  منهم  الا  المجاملات الفارغة  او  الهجاء  المقذع او  المديح المجاني او  الانخراط  في  خدمة السلطة والسكوت  عن  جرائمها   .. انه  باستثناء  المعاندين والمعارضين والمناضلين  الملتزمين الحقيقيين  ، فان العراق لا يعرف من اغلبهم الا تأليه المستبدين ، والحكم العرجاء ، او الهجو  المفعم بالسباب والشتائم والاوصاف المقرفة والتهديد  بالقتل  وسفح  الدماء والتصفيق  للمستبد  وتوظيف الشعر  لالقائه بغرض  اذكاء  النار   ، او العزلة في كهوف المتصوفة ، او التغزل بالغلمان ، او التصابي امام الصبايا ، او التذلل عند الابواب ، او  مديح  شيخ  قبيلة  ، او  التلون كالحرباء مع  تبدل الازمنة ، والتزلّف  لهذا  او  ذاك  باسم  الوطن  ،  فمنهم من عشق جلالة  الملك وقال فيه  شعرا    ، ومنهم من كال المديح  للزعيم  ألاوحد  الى  من كتب  المطولات  في تقديس  البطل القومي والقائد الضرورة   ، وصولا  الى  القصائد  المهرجانية  عند مراقد الائمة والبكاء  والعويل  ..

وماذا  أيضا ؟  

على الشاعر والمثقف  والمبدع  العراقي ان يتخلص من تناقضاته قبل ان يتخندق في زاوية من الزوايا !  أتصوّره .. متى يعيش على الطبيعة في كوخ بسيط ، ويرضى ان يخدم الناس دون ان يكون تابعا لقائد  ضرورة ، او صديقا لزعيم أوحد ، او يكون  عضوا في حزب وتنظيم ، او طبلا  فارغا  لجماعة او متنطعا  في  المجتمع  باسم  طائفة  او  دين .. فسيبقى  نقيا  من  كل  الادران  ، ولكنه  ان ارتضى ان يكون جزءا  من  سلطة  او  نظام  أو  مؤسسة  حكم   ،فهو يصنّف كرقم في ثكنة عسكرية ، او  منديلا  متوسخا  يرمي  في  المزبلة  ! وعليه ان لا يصفق لجماعة او طائفة ،أو  حزب سياسي حتى لا تطوّقه الاحزمة السياسية  او  تتلاعب  به  الاوبئة  الطائفية .. طمعا في منصب ، او تحصيل  جاه ، او الارتزاق  بحفنة دراهم ، او التنعّم بسيارة فارهة ، او يفوز  ببعض الهبات والعطايا بدءا بكيس مليء بالذهب قبل الف سنة الى برميل نفط كواحد من المكرمات  ! وأخيرا  ،  على الشاعر والفنان الملتزم  والعالم والمثقف الحقيقي لا يكون بيدقا يحركونه كيفما شاءوا ، ولكي لا يغدو ” مثقف سلطة ” او  ” بيّاع كلام ” أو  ”  مدّاح  نظام  ”  أو   ” شاعر   حكام  ”   ابدا  !

ان اكثر ما يزعج الناس العقلاء ان يتحول المبدع او المثقف عالي المستوى الى مثقف سلطوي ، او  الى مريد ذليل ينتظر  المكافآت  والهدايا عند ابواب السلطان ، او يتمسح بأذياله ويستخدم الوطن صناجة باسمه فقط ، كي يصفق له التابعون !

تنشر  بتاريخ  29  يناير  / كانون الثاني  2019  على  موقع  الدكتور سيارالجميل  

http://sayyaraljamil.com

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular