رموز واشباح
الحلقة 19 : شعراء لا أوصياء على وطن !
أ.د. سيّار الجميل
مقدمة :
قبل قرابة خمسين سنة ، اقيم في واحدة من مدن العراق العريقة مهرجان شعر كبير لمناسبة مرور الف عام على رحيل احد شعرائها العظام ، ودعي للمهرجان كبار شعراء العربية وأبرز اللغويين والنقاد والمفكرين .. وكنت طالبا في السنة الجامعية الاولى ، احضر ذلك المهرجان وسمعت لأروع شعراء العربية ، وخصص يوم في المهرجان كي يلقي بعض شعراء العراق قصائدهم ، فكان ان قدم بعضهم نصوصا مخجلة ، فعّلق احد الضيوف وهو الاستاذ الكبير نجيب البهبيتي – رحمه الله – قائلا : أهؤلاء حفدة الشاعر الذي جئنا لنحتفي هنا بالفيته !؟؟ اذ كانوا صبيانا مهرجين فرضوا انفسهم من خلال الاجهزة الرسمية والحزبية ووزارة الثقافة
والاعلام كونهم شعراء من (المبدعين ) ! ولم يستطع احد من الناس ان ينتقد تلك الحالة المزرية التي اساءت لسمعة العراقيين كونهم من مدللي النظام الحاكم .. هكذا ، ففي كل حقل من حقوق البلاد جماعة من المدللين الذين اساءوا كثيرا للحياة والاداب والفنون وكل المؤسسات ، وارتكبوا اسوأ الافعال باسم الحزب والدولة واحتكار الوطن كله !
دعونا نكمل ما كنا قد بدأنا معالجته في الحلقة المنصرمة ..
متى تتغيّر العقليات الجامدة ؟ ومتى تتفكك الذهنيات المركبة ؟؟
هنا أسأل : متى يتخلص الشاعر العراقي من تناقضات مجتمعه ، ليغدو مرآة حقيقية لتطلعات اسمى ابناء شعبه والاخذ بيد مجتمعه نحو افاق جديدة في الحياة ؟! متى يكون مثقفا ومبدعا عضويا يعيش الام الناس وتطلعاتهم ، ويشعر بمعاناتهم ، ويكتوي بآلامهم ، ويعبر عن مآسيهم وهمومهم ؟ وأسأل : متى ترجم الشاعر العراقي بشكل عام ، الام الناس العراقيين كلهم ؟ وباستثناء البعض من المبدعين الحقيقيين المضطهدين ، متى حكي لنا الاساطين من شعراء العراق في القرن العشرين عن متاعب الناس وافكارهم ومعاناتهم ، وقتل ابريائهم ، وسحق شبابهم ، وقمع نسوتهم ، وضياع اطفالهم ، وسقوط جنودهم ، وبؤس اسراهم ؟ كم من هؤلاء وقف ضد الطغيان والاستبداد وكان حرا في التعبير عن رأيه ونقد الاخطاء الجسيمة ؟ واخيرا ، من عبّر عن ضميره بقتل البشر او تعذيبهم ، او قتل الابرياء ، وتفجير المجتمع وصولا الى سبي نساء ، وتشريد شيوخ وعجائز ؟؟؟ ومتى نجح اولئك (العمالقة) في خلق نصوص نفكر فيها بعمق ، قبل ان ينظم الابيات والقوافي التي توقد العواطف وتعصف بالتصفيق في رحاب القاعات المغلقة والمهرجانات المسيسة ؟! متى ينتبه الشعراء في العراق الى عمق مأساة ما جرى في بلادهم ليتخلصوا من سماع المدائح كونهم ” قامات ” و ” عمالقة ” و ” اساطين ” – كما يصفونهم – دون ان ينتبهوا الى ان ادوارهم سيئة الصيت التي قاموا بها في حياتهم على العهود وتبدل الانظمة السياسية ؟؟ متى يتخلصون من غنج الكلمة ، وترديد الآهات والصيحات والاكاذيب ؟؟ متى يبدّل الناس في العراق نظرتهم الى الشعراء ويرفقون بحالهم دون جعلهم ملائكة ، او انبياء مرسلين ، او اوصياء واساطين ؟
اما تناقضاتهم كشعراء فحدث عنها ولا حرج .. وكلها غير منظورة لدى شعب مشبّع بالعواطف وتتلاعب بعقله الشعارات والاساطير والخرافات ويتأمل خيرا في الاوهام ، ويعيش في باحات يهذي ويلطم فيها ، وتبكيه الكلمات ، ويميته المستبدون ، ويحييه الشعراء والشياطين ، انه الشعب الوحيد الذي يرى الشعراء فوق البشر، ويختلف الشعب ويتضور انقساما على مجرد تفاهات هذا المعمّم او هذا السياسي ، او ذاك الشاعر ! من حق اي شاعر ان يكتب شعره للناس والحياة والزمن ، ولكن ليس من حقه ان يحتكر باسمه كل الوطن ، او يكون سببا في انقسام مجتمعه ، ويربك حياتنا وتفكيرنا ، ويحارب كل المبدعين الحقيقيين .. كما لا يمكن اعتباره مثقفا وحيدا في مجتمع يزهر بالادباء والعلماء والفنانين المبدعين الآخرين .
لقد مرت مئة سنة علينا . فماذا وجدنا من صور ومواقف ؟
شاعر عتيق يدعو الى التقدم وتحرر المرآة وسفورها ، ولكنه يمدح المحتل البريطاني علنا ! وسمي بالمجنون والزنديق كونه اعلن الحاده على الملأ ! والاخر شاعر عنيد جدا عاش حرا في احقر منطقة في قلب بغداد ، لكنه لم يكن مثقفا سلطويا ابدا ! وشاعر فرّ من العراق نحو مصر ، وعاش فيها ساخطا متبرما ، ومات بعيدا ولا يعرف قبره في مصر ! وشاعر اخر ، وزع مدائحه الشعرية العصماء على رؤساء وملوك وامراء عرب ومدح زعيما ثم شتمه ، وشتم رئيسا ثم مدحه ؟ وشاعر لم يطق قسوة العراق والفقر فيه ، ففرّ بجلده كي يعيش شريدا فقيرا اصابته رصاصة قناص على قارعة الطريق ببيروت، ومات لوحده كفيفا بعد ايام في بغداد ! وشاعر خالف آخر في مدح فيصل الثاني ، فهجاه هجاء مريرا فيه اقذع الكلمات ! وشاعر شعبي لم يخلق كمثله في السباب والهجاء ، وله ديوان كامل في شتم خصومه شتما لما تحت الحزام ! وشاعر آخر اشتهر بتقلباته السياسية وقفزاته غير المستقرة ، ثم مات لوحده ، وقد غدا يكلم الاشباح بعيدا يعاني الفاقة والمرض ! وشاعرة تصر على ريادتها الشعرية وهاجسها الا يقال ان زميلها يحمل مشعل الريادة ! وشاعرة شهيرة اخرى كانت تتغنج وتتغزل بشاعر عباسي عتيق ، رباها ابوها المخبول على ان الامطار هي بول الملائكة ! وشاعر مبدع لم يجد فرصته في الشهرة كونه بقي استاذا مهنيا طوال حياته ، ولم يهرّج سياسيا علما بأنه كان من افضل طلبة طه حسين ! وشاعر ادّعى قول الشعر ، وصار حزبيا ونال المناصب الاعلامية والدبلوماسية ، وصار سفيرا ! وشاعر آخر شجاع ومناضل لم اجد عراقيا مثله خجلا مؤدبا وصريحا ، ولكنه وصف زعماء الامة وهم جالسون امامه كلهم بأولاد القحبة ولم يستثن منهم احدا! وشاعر آخر ناله الاحباط الشديد، فتمرد على الجميع ورفض كل شيء الا عشقه لصديقه السياب ، وقال بانه الشيوعي الاخير بعد ان وجد الكل يرقص على الحلبة ! وشاعر جعلوه وزيرا كتب قصائده يؤله فيها رئيسه ، ثم سخر منه سرا ، فكان جزاؤه الاعدام بعد ان قطع لسانه بالسكين ! وشاعر متسول احولا ومريضا يموت بالتدرن بعد ان عانى في الامن العامة اشهرا وهو الذي قال : وطن تشيّده الجماجم والدم .. !! وشاعر ماركسي يصبح بعثيا من اجل منصب ثقافي ، ويموت دون ان يذكره احد ! وشاعر آخر يشتم كل الشعراء كونه اعتقد انه الوحيد في قول الشعر ، ثم مات في عزلته في دمشق .. وشاعر يفيض حقدا وكراهية على آخرين من دونه ويموت حزنا وكمدا بسببهم ! وشاعر يتفاخر على غيره من شعراء العراق كونه لم يتكسب بشعره ، ويقول ” عاشرت ملوك العراق وحكامه ورؤساءه والمتنفذين فيه … فلم امدح احداً منهم ” .. وشاعر ثوري مناضل اسموه بـ ” شاعر الشعب ” كان جريئا في قول ما يريد حتى وهو في زنزانته ، وعذب وسجن ولم يتنازل عن مبادئه ، وشاعرة هربت الى ابعد مكان في العالم ، ولم تزل تتغزل بعشيقها العراق والبدر الذي فيه ، وهي ملكة الغنج العراقي ! وشاعر أديب هجر مدينته التي اسماها بمدينة العناكب ، ورضي ان يكون وزيرا للخارجية ليموت مسموما ، وهو برئ من اية تهمة تذكر ! وشاعر كان يسرق الكتب في استراليا تحت معطفه ليبيعها من اجل كأس يسكره ولقمة تسد رمقه ! وشاعر شعبي يدّعي انه ساهم في صنع حدث تاريخي فاشل ويعد نفسه من المناضلين ! وشاعر لا سكن له يقضي وقته سكرانا بين الحانات ، وينام تحت درج مكتب واحد من المحامين ! وشاعر تلتقطه الشرطة مساء في بساتين طويريج بصحبة احدى المعلمات وبوضع لا اخلاقي ليكتم القضاء على فضيحته كيلا ينكشف ستر المعلمة ! وشاعر صريح جدا في اعترافه انه باع شرفه مع احد المأبونين لقاء دريهمات لشراء وجبة عشاء في باريس كونه لم يأكل لاربعة ايام ! وشاعر مطارد يطالب بالحرب من خلال الكلمات مستشهدا بمقولة نصر بن سيار ، ويدعو من خلاله الى التحريض والكشف والشهادة على الواقع والنظر إلى الأبعد، وشاعر يغدو مستشارا لوزارة الثقافة فيجعل مكتبه مجرد مقهى لأصدقائه ، وظل يتعبد في محراب (صديقه الرئيس) ويموت لينقسم الناس حول ذلك وكأنه اسطورة في بلاد كانت كلها اساطين شعر واساطير نثر.. ، وشاعر سلطة يتحدى شعراء المهجر بقول : ” سأخلع قندرتي (حذائي) واضرب بها على رؤوسهم الخاوية.” !! ونشر أحد الصحافيين العراقيين البارزين على عهد الرئيس صدام قوله : ” ان بعض الشعراء يقولون ما لا يفعلون وينكرون الجميل، فقد أغناهم صدّام بعدما كانوا نكرات ، ولكن في سبيل حفنة من الدولارات يسيل لعابهم ويهيمون في كل واد ” ، وشاعر وصفوه بالصبي المدلل .. كان تافها ومتعجرفا ، وكتب عنه احدهم فوصفه : ” انه قناعاً للاستبداد الصغير. ،فما ان اعطي سلطة حتى راح يمارس نزواته القمعية والجنسية والارهابية ” ، وشاعر تمتع بعقلية “تفتيشية”، وقام رفقة رفاقه بحملات تطهير حزبية ضد ثقافة الآخرين وابداعاتهم – كما كتبوا عنه – بينما لا يبدو كذلك ، وشاعرة اطلقوا عليها بشاعرة ام المعارك لم تنفع اهازيجها شيئا العراق ، ويقال انها تتغزل اليوم ببلد عربي آخر تقيم فيه ! . . وشاعر يقول : ” كنت أحفظ قصائدي التي كانت ضد السلطة في مكان أمين خارج بيتي وعند أخي الصغير وكنت أعاني ما أرى من أصدقائي الصامتين وهم يرون ما جرته الحروب من ويلات وضيم ، واليوم ولت لا تعرف الا الاضرحة واللطم عند قبر ” ، وشاعر من شعراء السبعينيات الشباب يرفض اتهامه بتهم جاهزة كالشيوعية والصعلكة الخ وشاعرة مغتربة لم تنل حقوقها وهي تحفظ على ظهر قلب كل ما قاله السياب ، وخصوصا المومس العمياء !! وشاعر عاقل اجاب قائلا : ” لقد مات عالمنا الذي تربيّنا في داخله.وكذلك مات ذلك الصنف من الناس الذين عشنا بينهم.أما المدينة فلقد بقيت أطلالا وذكريات دامعة.. والإغتراب هو أننا بقينا في داخل عالمنا الجميل ذاك الذي اندثر.. نعم نحن غرباء الآن. ” ..
ويشهد الجميع بأن عشرات الشعراء العراقيين تغنّوا بالزعيم الأوحد وجمهوريته الخالدة ، ثم صفقوا للمشير ابو الثورات الثلاث !! ثم انقلبوا ليذبحوا حناجرهم بالبعث وثورته والآب القائد ، ثم بالبطل القومي والقادسية وام المعارك ، واليوم يتغنون بالإمام الحسين وثورته في العراق منذ مئات السنين ، وسيأتي يوم يتغنون بشيء ثالث ثم رابع ثم خامس .. ! ولا اعتقد ان الخلفاء والزعماء والرؤساء يصادقون الشعراء والفنانين والخلعاء ، بل يوظفونهم لتمجيدهم وتعظيمهم ويمنحونهم الدراهم والشهرة والسلطة ثم يتخلصون منهم . وشعراء اقوياء جدا من العراق ظهروا وما زالوا على امتداد قرن من الزمن وما زالوا حتى هذه اللحظة يحاربون حربا قذرة لا هوادة فيها من قبل سلطة الاقوياء وسلطة المؤسسات لاسباب وعوامل سياسية وحزبية وجهوية واجتماعية واليوم يهب الاعصار الاسود على العراقيين وهو يحمل الخراب والدمار .. كما ويحمل الطائفية والعشائرية ليجعل عالم شعراء العراق سورياليا لا تعرف رأسه من اساسه بعيدا عن فنتازيا الجمال وعدالة المجتمع المتعدد والمتنوع ..
اخيرا وليس آخرا
الشعراء اناس مثل بقية الخلق ، او قل مثل بقية الكائنات البشرية .. انهم ليسوا اساطير ولا اساطين ولا ملائكة أو قديسين ولا اولياء اصفياء او انبياء مرسلين ، بحيث ينقسم المجتمع من اجل مزاج هذا الشاعر ، او من اجل موقف ذاك الاخر .. ان انشغال الناس بأمور تافهة كهذه دليل على ضحالة التفكير وتدنّي مستوى الوعي في المجتمع ، بل وان الفوضى التي تعمّ اليوم كل المثقفين العراقيين هي البديل الحقيقي لكل من الحرية ومناخاتها او الدكتاتورية وسجونها .. عظماء في هذا العالم يرحلون ، فتنعيهم محطة اذاعة ، وتذكرهم صحيفة ، وتؤبنهم مؤسسة ، ويكتب عنهم صديق عزيز واثير لديهم ، ويخلد ذكرهم بصورة او عبارة .. وكان العراق يعج باكبر الاسماء والرموز من مؤلفين ولغويين وقضاة ومؤرخين وعلماء ومبدعين ومهندسين وروائيين ومعماريين وفنانين واطباء ورجال حكمة وفلسفة وامثال وعباقرة غيرهم .. يرحلون كما يرحل كل الناس ، فلا تقوم الدنيا ولا تقعد في العراق الا للشعراء المنحازين .. فثمة شعراء من اروع المبدعين العراقيين لا يتلقون اي تشجيع وهم في مقتبل العمر ، وستتوالى السنين وهم من المغيبين في الدواخل او المغتربين في الشتات دون ان يعرفهم أحد حتى رحيلهم .. .
الامر لا يحتاج الى حرب اهلية باردة تشتعل مثل النار بين مناصرين للشاعر وبين خصوم له كي نعيش كل يوم تصفية حسابات واخذ ثارات ، والعقلاء يضحكون ويتندرون على اصحاب الافق الضيق .. وكأن الناس لا عمل لهم ، ولا تفكير عندهم ، ولا قضايا تنتظرهم حتى ينشغل الرأي العام بموقف شاعر ، او مزاج شاعرة ! ان العراقيين لا يأكلون شعرا ، ولا يتنفسون اخيلة ، ولا يحتسون كلاما يفرض عليهم في كل يوم ، حتى تغدو المسألة حياة او موت .. ان امامكم مشكلات شتى وقتكم اولى بمعالجتها والاهتمام بها .. وثقوا ان حلولها لا تركن وراء سماع قصيدة شعر ، ولا امام شاعر عراقي لا يعرف الا نظم القصائد العصماء في المدح او الفخر او الهجو او الطلاسم الجديدة ، واليوم اكتسح الشعر الشعبي كل الاماكن والبيئات ، ولم يعد الاهتمام كبيرا بالشعر العربي لا العمودي ، ولا بشعر التفعيلة ، ولا بالشعر الحر ، ولا بفتازيا المنثور . هذا جنون مجتمع يعيش افلاسا حضاريا واخلاقيا ، اذ تشغله هكذا قضية تافهة ، ولا يشغله ان العراق قد غدا محطما ومدّمرا يعيش حالة افلاس حقيقي في التاريخ ..