لا أميل لكتابة المراثي او تقديم التعازي لسبيبين.. الأول لاعتقادي ان الموت كنهاية طبيعية للكائنات والبشر لا يعني فناء بل تحولاً.. والسبب الثاني فيما يخص النعي تحديداً يتعلق بعدم رغبتي بالمشاركة في ما يمكن اعتباره شلال النفاق الاجتماعي الذي ينصب على مدح الراحلين وذكر ايجابياتهم والتمادي في الوصف الانتهازي حد الشعور بالغثيان من كتابات عقيمة تسعى لتبجيل المتوفي ومنحه صورة قمرية مشرقة بالرغم من ان للقمر وجهاً آخر يحيق به الظلام ..
مع هذه المفارقة.. سامحوني فلابد وان احدثكم عن اعزاء فارقونا خلال الايام الماضية.. قد يكون التوقف عندهم فرصة لاستذكار مفيد يمنحنا مساحة للتعبير عما كان يجول في احلامهم.. او التطرق الى حقوقهم كبشر.. وقصة كفاحهم وكدحهم من زوايا قد تكون في الوصف حالة عامة.. ينبغي التدقيق في تفاصيلها قبل تقديم اية رثاء غير مجدي لهم ولنا .. دون ان ننسى اننا نسير جميعاً في ذات الاتجاه ولا محالة من مواجهة الموت وقبوله ..
لذلك سأتوقف عند عينات ممن تذوقوا طعم الموت لسنين طويلة قبل رحيلهم ومغادرتهم مسرح الحياة في الايام والساعات القليلة الماضية ..
سأحدثكم اولاً عن خالي ابراهيم بشار الذي ولد عام 1933 في الشيخان.. الذي عاصر منذ الساعات الاولى لولادته مذابح الاشوريين.. وكان ابيه بشار رشو من الشخصيات الايزيدية التي استقبلت عدد كبير من الضحايا الاشوريين حينها في بيوتهم . ليصبح هذا بداية الاختلاط الفعلي لخالي ابراهيم مع الآشوريين وتعلم لغتهم بالاضافة الى الكردية والعربية وشيء من الانكليزية بالرغم من تهربه من المدرسة.. منذ أن كان صبياً في الصوف الاولى من الابتدائية.. حيث لوحظ رغبته الجامحة للميل للعمل لذلك ترك الدراسة وبدأ يشتغل كعامل رش في مشروع تبليط طريق الموصل ـ الشيخان عام 1949 .. هذه البداية التي منحته الفرصة ليقود اول تانكر للماء كان يستخدم لرش الطريق قبل تزفيفه بأمر من المشرف على المشروع.. بالرغم من عدم دخوله دورة لتعلم السياقة .. وهكذا اصبح هو السائق المفضل للمقطورة بعد ان غاب سائقها ذلك اليوم ..
هذه البداية للراحل فتحت له مشروع العمر ليتحول فيما بعد الى سائق محترف ويقود أول سيارة شرطة نقلت متصرف الموصل الى ناحية اتروش عبر الممر الجبلي غير المبلط حينما.. عندما امتنع السائق المرافق للمتصرف من قيادة العربة المسلحة المخصصة للوصول الى اتروش.. وما كان منهم الا ان يستنجدوا بـ ابراهيم بشار الذي تحمل المسؤولية وواصل قياد تهم الى اتروش على الويل بعد ان انفجرت عجلتين في الطريق ..
هذه التجربة وفرت له الفرصة للحصول على شهادة سياقة وصلته بتوصية من المتصرف .. دون المرور بامتحان او اية دورة.. وكانت البوابة التي دخل فيها لمزاوله مهنة السياقة بين الموصل وبغداد اولاً ومن ثم بين العراق وبيروت او العراق وعمان .. وكان يفتخر بكونه يقود اول سيارة مارسيدس حولها لتكسي ورقما لم يتجاوز الا الواحد .. مارسدس فريدة تحمل الرقم 1 فقط ..
هذا العشق للعمل وهذا الحب للسياقة وفر له الامكانية للعيش والتنقل في ارجاء العراق ابتداء من الموصل والشيخان ومروراً بعمان وسنجار وبيروت وزاخو والمئات من القرى والمدن التي كان يمرق من خلالها في تلك السفرات الممتعة .. وبقيت هواجزه وتأملاته في هذه الحدود ..
لم يكن سياسياً ولا صديقاً لمن يشتغل بالسياسة بالرغم من نسابة أبي له .. وكان يرفض حمل اي شيء يحتسب من الممنوعات.. اتذكر عندما نقلنا من سنجار الى بحزاني.. التقط بطل العرق من بين رزمة حاجياتنا وقال لأبي: الا تعرف انا لا احمل ممنوعات في سيارتي.. واخذ يدور القنينة بيده والقاها على صخرة بعيدة لتتكسر .. كان ايضا يتفاخر بأنه طيلة سنوات عمله لم يرتكب حادثاً ولم يصدم سيارة اخرى او اي انسان ولا حتى حيوان بري ..
مع هذا وبالرغم من كل احتياطاته وقع في الفخ .. فخ كبير جاء نتيجة وجود راكب من معارفه كنفر معه تبين انه كان يشتغل مع عزيز كشمولة الذي كان يتاجر بالحشيشة والمخدرات بين الموصل وكردستان .. عندما كبست الشاحنة التي حملت هذه المواد في السيطرة.. وعند الاستفسار من السائق عن عائديتها افصح انها لرجل يجلس في التكسي التي تتبعهم ..
هكذا كان الحال مع ابراهيم بشار حيث جرى اعتقاله مع من كان في السيارة ليمكث عدة سنوات في السجن قبل ان تثبت براءته.. وفقد فيما فقد عجلات سيارته التي استلمها بعد ان اطلق سراحه بلا دواليب وكان درساً قاسياً له بالرغم من كل حذره ..
ابراهيم بشار فقد ايضا شقيقة له في الأنفال .. كما اصيب اثنان من اولاده بجروح خطيرة في الحرب العراقية الايرانية .. ولكي لا اطيل عليكم حكايته اقول بأسف ان المواطن ابراهيم بشار اضطر لمغادرة العراق وهو في العقد السابع من عمره الى المانيا.. ليعيش فيها قرابة العقدين من الزمن لاجئاً بعد ان خسر كل ما له علاقة بالمواطنة و حقوق انسانية في بلده العراق..
هكذا ودعنا ابراهيم وهو في العقد التاسع من عمره بصمت بعد ان تجزأ لنصفين .. تاريخه وكفاحه الانساني المسالم من اجل العيش الذي انتزعت حقوقه كاملة في العراق.. ومستقبله كقبر ليس الاً في ركن من اركان المانيا ..
هذا هو العراق .. لا بل هذه هي اجزاء .. مجرد اجزاء .. بل نتف.. من حكايا المواطن العراقي ابراهيم بشار ..
اما المواطن والمناضل وحيد سالم الزهيري ـ المندائي ابو ولسن
الذي ولد عام 1942 في العمارة .. فحكايته رغم اختلافها في المضمون عن قصة ابراهيم بشار.. الذي عاكسه وحيد وهو ابن شيخ مندائي بحبه للعلم والمعرفة.. فقد تجسدت في حصوله على الماجستير في علم النفس وكفاحه السياسي واحلامه من اجل عالم افضل..
حيث انتسب بوعي لصفوف الحزب الشيوعي العراقي نهاية الخمسينات من القرن الماضي في مدينة العمارة.. وتحمل الكثير الكثير من المعاناة من جراء الاضطهاد والقمع.. واضطر للهجرة والانتقال الى الجزائر ومن ثم سوريا والسويد جارا معه زوجته ومن ثم ابنه ولسن وبنته وسن وشقيقة اخرى لا اتذكر اسمها الآن .. ورغم قسوة الغربة ومعاناته الشخصية بقي مولعاً بحب الوطن والأمل بالعودة لمرابع الصبا ومياه الانهار الجارية .. كان يحلمُ بتجديد تعميده في مياه دجلة والفرات ويثق بلا حدود بأن الكفاح الثوري لجيله لن يذهب عبثاً.. لذلك واصل حضور الندوات واللقاءات الثقافية والفكرية في ستوكهولم.. وبقي متشبثاً بأحلامه التي كانت تختلط بنور كنزا ربا وضياء المندا.. التي امتزجت بنبل احلامه وتطلعاته الانسانية.. وكان زاهداً كريماً يعشق كأس العرق مع الحمص ـ اللبلي .. وأحياناً كان صمته وتعبيرات وجهه تفصح بالكثير مما يجول في ذهنه دون ان ينبس بكلمة ..
وبالرغم من متابعته للتاريخ وتوقفه عند فصوله الدامية والمريرة المقززة.. لم يفقد ثقته بامكانية خلق عالم افضل وتجاوز التوحش والعنف الذي لا يليق بالانسانية في هذا العصر .. غادرنا هو الآخر يوم الأحد 20/1/2019 في اجواء ستوكهولم وقسوة شتائها.. ليدفن في زاوية من الزوايا البعيدة عن مصبات المندا ودوائر الآس والسكندولا واعياد البرونايا بأيامها الخمسة ـ البنجة .. وترك لنا ذكرى مفعمة بالطيبة والحنان والصدق والاخلاص والوفاء وكل ما له صلة بالمفاهيم الانسانية الصادقة التي ورّثها لابنائه وبناته ومن كانوا يحيطون به وتأثروا بخصاله الايجابية وصفاته التي كانت تنضح منه طيبا بلا حدود ..
اما مودعنا الثالث .. علي جمعة ـ ابو سرمد
فهو نموذج آخر للراحلين من بين ايدينا هذه الايام.. فقد اختصر هو الآخر منذ ولادته حتى مماته الكثير مما يستحق ان نتوقف عنده .. كمواطن كادح جمع ما بين نقاء الكادحين.. والكفاح من اجل مواصلة التعليم وما كانت تفرزه الاحداث الدامية من ضغوطات هائلة على المواطنين ..
لقد عاصر علي جمعة الكثير من الاحداث الهامة وبقي ثابتاً على مواقفه ومتمسكا بخصاله .. جمع ما بين النقاء وحب المعرفة والاستعداد الانساني الهائل لمساعدة الآخرين اينما كانوا وبقي رمزاً من رموز بحزاني ومثالاً لجيل المعلمين الذين نشروا العلم والمعرفة بين الاجيال..
وقد ودعنا بعد مرض لم يمهله وبقي لاجئاً في حدود وطنه.. حيث قضى غالبية عمره متنقلا بين حمام العليل وسنجار ودهوك.. وبعد ان عاد لمسقط رأسه في بحزاني بعد التقاعد اجتاح الدواعش مدينته واضطر للنزوح الى دهوك.. بعد ان حمل معه جرحين كبيرين تمثلا بمصرع شقيقه الشاب صلاح الذي دهسته سيارة وزارة الاعلام المتهورة في بغداد عام1977.. وضياع شقيقه الآخر الدكتور ابراهيم الذي غادر لأسباب اجتماعية ومات مهاجراً في بغداد ..
علي نموذج آخر للعطاء اللامحدود وثمرة من ثمار العراق اينعت ونضحت في اقسى الاوضاع والظروف لتفيض بالطيبة والمعرفة ..
لهذه الكوكبة من ابناؤك يا عراق نقول كفى .. كفى سفكاً للدماء .. وكفى مضيعة للوقت .. كفى استهتاراً بالوطن الذي ما زال يخيب ظن مواطنيه .. شتان ما بين ابراهيم ووحيد وعلي نبتوا في تربة هذا الوطن الغالي.. وما بين اللصوص والحرامية وسراق الفرحة من افواه المواطنين ..
دعونا نحلم بوطن يتكاثر فيه امثال ابراهيم و وحيد وعلي .. وبئس من خط لنفسه طريقاً آخر يفضي للخراب والموت والفساد والرذيلة .. يا ساسة هذا الزمن العجيب واحزابه المتعفنة ما ارذلكم .. ما ارذلكم!..
ــــــــــــــــــ
صباح كنجي
2\2\2019