ثار الكرد على الخلفاء المسلمين في صدر الإسلام ومن بعده إلى أن استقلوا بإمارات صارت تحرس ثغور الإمبراطورية الإسلامية شرقا وغربا، ورغم تعاظم حضورهم في فترات عديدة إلا أن النهايات كانت سلبية، ولا نستبعد أن العامل الذاتي كان له الدور الأول فيما حصلنا عليه. وربما لا أخطئ إذا اعتقدت أن الكرد هم أولى الرعايا في الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية من ثاروا في وجههما من أجل الاستقلال، وشكلوا إمارات كردية عديدة، مستقلة أو شبه مستقلة، ولتعاظمها هددوا أركانهما في فترات ما، وعلى خلفية العامل الذاتي نفسه، ومنها الخلافات والصراعات الداخلية، والجهالة، انهارت تلك الإمارات وراء بعضها، وأصبح الشعب الكردي ضحايا مؤامرات الإمبراطوريتين، حكموهم بباشوات من خارج كردستان، وحصروا المجتمع ضمن أسوار الجهل والعتمة، وعلى مدى قرون طويلة عزلوهم عن العالم الخارجي.
منذ أُفُل آخر إمارة كردية في السلطنة العثمانية ساد الجهل المفروض عليهم، حتى صارت تلقائيا. ولربما كانت تلك نهاية مرحلة سيادة ثقافة حضاراتنا السابقة، المبنية على ركائزها الدول والإمارات الكردية، وعلى أسسها تمت ريادة الكرد لعدد من الإدارات والحكومات زمن الخلافة العباسية وما بعدها، ورغم المسيرة النضالية الطويلة، والحركات الثورية العديدة، لا زلنا نعيد الانتفاضة تارة وتارة أخرى الثورة في وجه مستأصلينا، بنفس الأسلوب والطرز، وحيث غياب الحكمة والضحالة المعرفية، وعدم معرفتنا للمفاهيم الميكيافيلية في السياسة، فنصطدم بنفس الجدار وعلى مدى قرون.
لم يخطر ببالنا كنخبة قيادية إعادة تهيئة الذات علميا ومعرفيا، بل ارتأينا أن يكون السيف والرمح ومن بعدهما البندقية هي المقرر لنتيجة المعركة والمواجهة، فتبين في كل مرة أن ذلك قد فشل، وانتصر العلم والعقل علينا رغم سيوفنا وبنادقنا وشجاعتنا، مع ذلك لا نحاول تغيير الأساليب، ولا أخذ العبر من خساراتنا، ونظل ندرس التاريخ كما سطرها لنا الأعداء، وننسخها بالمنهجية ذاتها، وبالتالي نخرج من مطب لنسقط في أخر، والأمثلة في هذا عديدة، والحاضرة منها قضية التقرب من إشكالية المناطق المتنازعة عليها في جنوب كردستان، وحيث قضية كركوك، وسيادة التكفيريين بمساعدة تركيا على عفرين، والإشكاليات الجارية على شرقي الفرات، والخلافات المتأزمة بين أطراف الحراك الكردي والكردستاني، رغم وجودنا في أحلك الظروف المصيرية.
في وضعنا القائم، علينا أن نعرف أننا دون العالم معرفة، ودون القوى الإقليمية حنكة في العلاقات السياسية والدبلوماسية، وعلينا أن ننتبه لماذا لا نعرف أو لماذا لا نعلم، أو لماذا نجهل، ربما يستخف البعض منا بهذا الطرح، وخاصة القوى السياسية الكردية والكردستانية المدعية المطلق في المعرفة، والطامحة إلى الهيمنة على المجتمع، وفرض رؤيتهم ومفاهيمهم، وعلته أنه غير موجود في قواميس الكثيرين منا منطق الشك في عدم المعرفة أو حتى قلة المعرفة، فالادعاء بالمعرفة والعلم وأخواتهما هو السائد، ومنها تأتي مصيبتنا الكبرى. وحتى الذي نعرفه كمسلَّمة، لم نحقق فيه حتى يتبين لنا مصداقيته، بل نجاهد من غير بحث وتمحيص، وبيقين تام، أنه الصواب بعينه، وغالبا ما يؤدي مثل هذا الاقتناع إلى السقوط في الهوة، ليس فقط في المجال السياسي، بل وحتى في كتابة التاريخ الكردي، والمأمولة أن نستخرج منها عبر بعد تشذيبه من التحريف والتلفيقات التي ملئت بها صفحات الكتب المدونة بيد الأعداء، فكثيرا ما حشر البعض من كتاب حراكنا الثقافي، والمتناولين تاريخنا، الوطن ونضال الأمة في حدث ثانوي، حرفوا فيه كل ما يؤدي إلى رفع مكانة الوعي الكردي، أو في شخصيات جاهلة أو انتهازيه، مشكوكة في وطنيتها ووعيها القومي، خلقت حولها هالة، أو كانت قد ضخمت من قبل قوى معادية للكرد، لتشويه وتحريف تاريخ أمتنا، وبالتالي ليستمر غياب الصواب، إن كان سياسيا أو ثقافيا، وتتفاقم جهالتنا، وواقع حالنا يثبت أن معرفتنا وعلمنا القائم هما أسوأ من الجهل بكثير.
ليس عبثا حين اعتبر أفلاطون الجهل أصل كل الشرور. وهذا الجهل الذي لازمنا ويلازمنا منذ قرون أضاع علينا فرصا لا تقدر بثمن؛ حتى وصلت الحالة بنا إلى ما نحن عليه الآن. فمحاربة المفكر الكردي والمثقف المتنور، أصبحت في هذه المرحلة المصيرية في مقدمة الجداول المتناولة، من قبل شريحة من مجتمعنا التائه في الجهالة والمتلاعب به خارجيا، ومعهم قسم من الحراك السياسي الراضخ لإملاءات الأخرين، ولا شك أنه مخطط يتبين في ظاهره وكأنه ذاتي، لكنه في الواقع خارجي، يستغلون جهلهم وضحالة معرفتهم، وأحيانا كثيرة الخلفية الانتهازية فيهم، للأسف ورغم قساوة الكلمة، لا زلنا مجتمع غارق في الأنانية والحسد والجهالة، وحراكنا الكردي منبعه هذه البيئة، وهي المؤدية إلى ما نحن فيه من التشتت، حيث الحقد، والصراع حيث الأنا، وتخوين البعض حيث المطلق في المعرفة، وإلا فما هي الأسباب المؤدية إلى عدم قدرتنا على التقارب في هذه المرحلة المصيرية، وحيث تربص الأعداء بنا من كل النواحي، فهل حقا لا توجد أية نقاط تقاطع بيننا، أم أن قراراتنا لا تزال مراقبة، وبالتالي نعمل عكس ما يتطلبه مصلحتنا الوطنية، وجميعنا نعلم أننا بدون التقارب حظوظنا في النجاح هزيلة، وسقوط أحدنا يعني سقوط الأخر عاجلا أم أجلا، وأي نجاح فردي سيكون أني على الأغلب، ولن يستمر طويلا، وتجارب تاريخنا والعالم مليئة بالأمثلة.
لقد أجمع العاملون في مجال المعرفة أن تخلف المجتمعات عن اللحاق بالتطور أسبابها عدم تخلص نخبتها من الجهل. وهذا ينطبق على واقعنا إلى حد بعيد؛ حيث الجهل قائم بيننا، رغم نكراننا إياه؛ ومرده أننا بثقة مطلقة نؤمن فيما نملكه من المعرفة المتوهمة بأنها العلم والحقيقة بامتياز، وعلى هذا الأساس نتباهى وبسرعة في أبسط مكتسب نحصل عليه، وندعي القوة، ونلغي الأخر، ونمضي قدما بإصدار أحكامنا الخاطئة على الموجود والمستحدث وما سيأتي في قادم الأيام، اعتمادا على ذلك المخزون من المعرفة غير المحققة، ومعمَّمين بذلك الجهل بجميع أشكاله في المجتمع.
ولا نرى مخرجا من هذه المعضلة، والمؤدية إلى خسارتنا، سوى تسخير السياسة في تعاملنا، وفي السياسة لا توجد الأخلاق والقيم والمبادئ، بل المصالح، وهذه تتطلب الحنكة والمعرفة في تسخير كل الأمور لغاياتنا الوطنية والقومية، ومصلحة أمتنا تتطلب اليوم تناسي الصراعات الماضية، وترك التخوين، وتجاوز القوى الإقليمية والتحالف معهم، والتعامل حتى ولو كانت على إرغام الذات، وبدايتها احترام حرية الرأي، وتقبل النقد البناء، والحوار عليه، ولا نشك أن الجهالة الطاغية هي المؤدية لعدم تقبلنا لهذه الإشكاليات والمدرج في خانة الجهل المركب، أو عدم معرفتنا التمييز بين الحزبية والسياسة وهذا هو الجهل البسيط.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
1/2/2019م