غالباً ما يقدم قادة وطنيون على اتخاذ اجراءات وتدابير إصلاحية، ويصدروا مراسيم وقرارات تندرج في إطار السعي لتحقيق حلم شعوبهم في التقدم والرفاه والحرية والاستقلال. ولكنهم في العادة غالباً ما يترددون في تعبئة القوى السياسيةوالاجتماعية وتوحيدها في بلدانهم وبناء منظومة ديمقراطية قائمة على مشاركة الشعوب وقواها السياسية والاجتماعية الحية من أجل حماية هذه المنجزات والاصلاحات التي يتم تحقيقها كي يواجهوا دسائس ومؤآمرات قوى الردة الداخلية والخارجية.ويعمد هؤلاء القادة ، وللأسف ‘ الى التقليل من مخاطر وردود الفعل السلبية الداخلية والاقليمية والخارجية، ولا يسعون إلى اتباع دبلوماسية نشطة للحد من هذه المخاطر الخارجية. وعندها يقع هؤلاء في فخ اجندات الدوائر المخابراتية دون وعي والتي تسعى إلى تمزيق صفوف الشعب وبث النزاع والفرقة في صفوفه لتمهيد تصفية تلك المنجزات والاصلاحات.
والأمثلة على هذه الحالة لا تعد ولا تحصى في تاريخ البلدان النامية المعصر عامة وفي بلداننا المنكوبة على وجه الخصوص. فتجربة الزعيم الوطني الايراني الدكتور محمد مصدق وسقوطه واجهت الانقلاب العسكري الذي دبرته وكالة المخابراتالمركزية الأمريكية في عام 1953، ومصير جمال عبد الناصر في مصر وتداعي حكمه عملياً إثر نكبة حزيران عام 1967، وتجربتنا نحن في العراق منذ أن قاد الزعيم عبد الكريم قاسم الثورة ضد النظام الملكي وإعلان الجمهورية العراقية وحتى نهايته ونهاية حلم العراقيين في إرساء نظام قائم على العدل والسلام على يد انقلابيي 8 شباط عام 1963. هذه هي شذر من الأمثلة على هذا المسار التراجيدي.
لقد أقدم الضباط الأحرار العراقيين وبدعم من جبهة الاتحاد الوطني التي أعلنت في عام 1957 على إحداث التغيير المنشود في العراق. وأصدرت جبهة الاتحاد الوطني برنامجها الوطني الديمقراطي المختصر دون الدخول في التفاصيل، ولم يعلن تنظيم الضباط الأحرار عن نفسه ولا عن برنامجه واتفاقاته السرية قبيل انتصار الثورة. ولم يكن هناك اجماع لدى الضباط الأحرار حول الخطوط العامة للسياسة الداخلية والاقتصادية و الاجتماعية أو شكل بناء الدولة، ولا في السياسة الخارجية. فما وحدهم فقط هو اسقاط النظام والتحرر من الهيمنة الأجنبية وإقامة علاقات طبيعية مع الدول العربية المتحررة. ولذا وما أن انتصرت الثورة حتى برزت على السطح الخلافات حول مستقبل الاصلاحات الداخلية والعلاقات الاقليمية والدولية منذ الساعات الأولى.هذه الخلافات التي برزت بشكل مبكر خاصة بين الضباط الذين شاركوا في الثورة لتمتد إلى القوى السياسية المنظوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني، هذه الجبهة التي شُلت عملياً بعد الأيام الأولى على يد حزب البعث وحزب الاستقلال والقوى القوميةبالإساس. والحديث يطول حول ذلك، ولنترك للقارئ فرصة الاطلاع على الكثير من الكتب والبحوث والمقالات المتباينة العراقية والأجنبية حول تلك الفترة البالغة التعقيد في تاريخ العراق.
كان هاجس وسعي عبد الكريم قاسم واليسار وخاصة الحزب الشيوعي هو الشروع بالاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية وتحرير البلاد من العلاقات الاجتماعية الاقتصادية المتخلفة وانتشالها من حالة الركود والسعي للحفاظ على استقلال وسيادة العراق. هذا التوجه المشترك هو الذي مهد الأرضية لتحالف غير معلن بين الحزب الشيوعي العراقي والزعيم عبد الكريم. ولكن من ناحية أخرى، فشل الحزب الشيوعي العراقي في مساعيه لإعادة الحياة إلى جبهة الاتحاد الوطني كي يجري العمل المشتركبتحقيق البرنامج الذي اعلنته هذه الأحزاب في عام 1957، لأسباب تتعلق بتعتنت الأطراف القومية والتدخل الفض من قبل قادة الجمهورية العربية البمتحدة تحت ذريعة الوحدة الإندماجية ظاهرياً، في حين كانت هناك أسباب أخرى لهذه الضغوط منها ما تعكس خشية هؤلاء الحكام من أن يسير العراق على خطى بناء سياسي قائم على التعددية السياسية والديمقراطية واحترام المكونات القومية في البلاد وهو ما كان يتعارض مع منهج الحكم في العربية المتحدة القائم على حل الأحزاب وتخوينها تحت شعار “الحزبية خيانة” وفرض نظام الحزب الواحد كتعبير عن الاستبداد السياسي واحتكار السلطة وتجاهل الحقوق القومية للمكونات القومية القاطنة في عدد من البلدان العربية.
في خضم هذا الوضع المتشابك والضغوط المستمرة على النظام الجمهوري الفتي في العراق، برز عامل جديد في الوضع هوالتحرك الجماهيري الواسع والعاصف، خاصة في الريف الذي كان يضم أغلبية سكان العراق في تلك الفترة. وقاد هذا التحرك الجماهيري التيار الديمقراطي وخاصة الحزب الشيوعي العراقي. وتعاملت قيادةعبد الكريم قاسم وبعض الضباط الأحرار من قاسميين وشيوعيين وديمقراطيين بإيجابية مع الشعارات التي كانت تطرح على نطاق واسع في الشارع وبعفوية أحياناً. وشرعالحكم باتخاذ تدابير متعاقبة في عملية الاصلاح، خاصة تلك المتعلقة بتحسين ظروف حياة الفئات المحرومة التي تشكل الغالبية في المجتمع. وكان على رأس هذه الاجراءات هو الاصلاح الزراعي الذي حرر الفلاحين من جبروت وقيود الانظام الاقطاعي ووزع الأراضي التي سلمت إلى الاقطاعيون من قبل الاحتلال البريطاني للعراق. وهي خطوة واجراء اصلاحي تاريخي يمس غالبية الشعب العراقي، وأنهى حالة الازدواجية في دولة يديرها الاقطاعيون بقوانين وسجون وتقاليد وأعراف وقوى مسلحة من جهة، إلى جانب الدولة المركزية. وهي حالة تتعارض حتى مع بنود الدستور العراقي الذي وضعه البريطانيون عند احتلاهم للعراق. كل ذلك من أجل بناء قاعدة اجتماعية للحكم وحماته البريطانيين لتكريس الحكم في البلاد. ولا يسع المجال في هذا المقال الحديث عن كل الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المهمة التي انجزتها السلطة الوطنية خلال فترة قصيرة في مجال البناء والصناعة والتعليم وبناء المساكن للمواطنين المحرومين، ناهيك عن قرارات مهمة خطيرة تتعلق بالخروج من حلف بغداد والابتعاد عن حمى الاحلاف والتحرر من قيود الاسترليني والغاء القواعد العسكرية الاجنبية واقامة علاقات عربية دولية متوازنة.
بالطبع لابد لكل هذه الاجراءات الايجابية أن تثيرت موجة من رد الفعل السلبية لدى بعض الفئات الاجتماعية الداخلية التي تضررت من الاصلاحات، ولدى الدول الاقليمية والدولية التي ارعبها الحضور الجماهيري ومشاركتها في اتخاذ القرارات خاصةفي السنة الأولى من الثورة جراء الضربة التي وجهتها الثورة إلى خطط المحافل العدوانية للدول المهيمنة على العراق في قرار الخروج من حلف بغداد وقرار العراق بإصدار مرسوم 80 القاضي باستعادة الحكومة السيطرة على الأراضي العراقية بكاملها للتنقيب عن المخزونات النفطية والمعدنية، عدا المواقع النفطية المنتجة والخاضعة للشركات النفطية الأجنبية. وبدأت هذه الأوساط الداخلية وبدعم خارجي نشيط في حياكة المؤآمرة تلو الأخرى لاسقاط السلطة الوطنية التي أفرزتها ثورة تموزإلى حد إعلان العصيان في الموصل ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وعشرات المحاولات الأخرى التي بلغت أوجها في انقلاب 8 شباط الدموي بدعم واضح من قبل الدوائر الأمريكية والبريطنية والنفطية والدول المحيدة وعلى رأسها الجمهورية العربيةالمتحدة التي تحالفت مع الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف.
في السنة الأولى من عمر الثورة، استطاعت الثورة مواجهة كل تلك المؤآمرات بفعل التحالف غير المعلن بين عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي وغالبية القوى التقدمية والديمقراطية التي اسست قاعدة اجتماعية للنظام قادرة على مواجهة كل المخاطر التي تواجه البلاد. ولكن ما أن دشنت الثورة السنة الثانية من عمرها حتى بدأ التصدع في هذه الجبهة غير المعلنة. ومن أسباب ذلك ما يتعلق بإدراك الأطراف الدولية المعادية إن السبيل الوحيد لاسقاط الحكم هو أحداث تصدع وتخلخل داخل هذه التحالف، أي تشتيت القاعدة الاجتماعية للحكم، عن طريق إثارة الريبة والشكوك لدى عبد الكريم قاسم تجاه الحزب الشيوعي ونواياه، هذا الحزب الذي ظل وفياً لشعاره في الدفاع عن منجزات ثورة تموز والسلطة الوطنية رغم ممارساتها وتراجعها حتى انقلاب شباط 1963. كما سعت الدوائر المعادية إلى افتعال المواجهة بين الحكم وبين الحركة القومية وقائدها المرحوم ملا مصطفى البارزاني الذي تحدث مراراً بعد عودته إلى العراق أنه “جندي الزعيم عبد الكريم قاسم”. إن الدوائر التي خططت ودعمتالانقلابيين هي نفسها وبالوسائل والتفاصيل نفسها عندما نفذت الانقلاب ضد حكومة الزعيم الوطني الدكتور محمد مصدق في ايران. واستخدمت هذه الدوائر كل مهاراته وكل تجاربها في مختلف بلدان العالم لتحقيق أهدافها في العراق.
ومن بين هذه الوسائل هي الضغط على عبد الكريم قاسم من أجل التخلي عن علاقاته مع الحزب الشيوعي وإزاحة الضباط الشيوعيين من المؤسسة العسكرية، بإعتبارهما المفتاح لأي تغيير وتحول في الحكم. وقد أثارت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسمالرعب لديه، بحيث أعلن بعد فترة وجيزة شعار “عفا الله عما سلف” ترضية للمتآمرين في التيار القومي والمذهبي بشقيه، ورافق ذلك إطلاق الكثير من المتآمرين وارجاع عدد كبير من العسكريين إلى الجيش. وشرع عبد الكريم قاسم بفك عرى التحالف مع الحزب الشيوعي، دون أن يؤسس لتحالف بديل قادر على ضمان مواجهة الحكم للتحديات الخطيرة ضده. فالتيار القومي الذي ارتهن لأجندات الجمهورية العربية المتحدة وقوى خارجية لا يمكنه أن يشكل البديل في اسناد الحكم كما كان يحلو لقاسم.فهذا التيار استفاد من التراجع في موقف عبد الكريم قاسم كب يستعد لشن هجومه للإجهاز على الحكم. وعلى هذا الطريق الوعر والخطير شن عبد الكريم قاسم في خطابه الشهير في كنيسة مار يوسف هجوماً على الحزب الشيوعي، دون ذكر أسمه،بذريعة مسؤوليته عن الانتهاكات وأعمال العنف التي حدثت في الموصل أثناء عصيان الشواف وفي كركوك أثناء الاحتفال بالذكرى الأولى لثورة تموز. ولو رجعنا إلى الخطاب الذي ألقاه عبد الكريم قاسم في 8 آذار عام 1959 في مؤتمر رابط المرأة العراقية وحديثه عن عصيان الشواف في الموصل لوجدناه حافلاً بالدعوة إلى البطش وملاحقة المتآمرين والتنكيل بهم، هذا ناهيك عن البيان العسكري الذي أصدره القائد العام للقوات المسلحة ودعوته لأهالي الموصل والعشائر العربية والكرديةوالمقومة الشعبية بملاحقة مرتكبي العصيان والدخول إلى مدينة الموصل لقمعهم. لقد حمّل الزعيم عبد الكريم قاسم مسؤولية كل تلك الانتهاكات على الحزب الشيوعي. وشرعت الأجهزة الأمنية بملاحقة الشيوعيين واعتقالهم ثم الحكم على بعضهمبالإعدام، الذي نفذه انقلابيي شباط في عام 1963 لاحقاً. وكان ذلك إيذاناً بفرط العقد غير المعلن كلياً بين عبد الكريم وتزعزع القاعدة الاجتماعية ورسالة غير مباشرة للمتآمرين لتنظيم صفوفهم والشروع بالإجهاز على الحكم ومنجزات ثورة تموز عام1958.
وهكذا سارعت قوى الردة في الداخل إلى تعبئة صفوف كل القوى التي تضررت مصالحها من الإصلاحات التي اقدمت عليها السلطة الوطنية. كما شرعت القوى الاقليمية والخارجية واجهزة مخابراتها في الخارج بالعمل النشيط من أجل زرع بذور الشك والريبة لدى قاسم تجاه أهداف الشيوعيين ونواياهم وتعميق الهوة بينهما. وتم أرسال الصحفي الهندي المعروف “كارانجيا” رئيس تحرير صجيفة “هندستان تايمز” إلى العراق لإجراء مقابلة مع عبد الكريم قاسم لهذا الغرض. وكان أهم سؤال طرحهالصحفي المذكور على قاسم هو :”هناك مؤشرات على أن الحزب الشيوعي سيتعامل معك كما تعامل البلاشفة مع كيرنيسكي رئيس الحكومة المؤقتة الروسية قبل انقلاب أكتوبر”. هذا السؤال ما هو إلاّ مسعى لإثارة عبد الكريم ودفعه إلى الإمعان أكثر في ملاحقة الشيوعيين والابتعاد عنهم. في الحقيقة سبقت مساعي الدوائر المعادية ما كان يجري من مناقشات داخل بعض منظمات الحزب، وتحديداً كوادر “التنظيم العسكري” وبعض الكوادر المدنية وحتى بعض القياديين حول إمكانية إزاحة عبدالكريم قاسم. ففي أواخر عام 1960 زارنا في البيت الشهيد سلام عادل والفقيد عامر عبد الله، قبيل سفري إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة الحزبية، وجرى حديث متشعب ومنها أشار الفقيد عامر عبد الله إلى طلب بعض الرفاق العسكريين التحرك للإطاحةبعبد الكريم قاسم. ولكن مثل هذه الشعار لا يمكن تحقيقه ونجاحه لأسباب داخلية واقليمية ودولية. وحول نفس الموضوع جرى الحديث مع الشهيد سلام عادل في موسكو في نهاية عام 1961، حيث أشار الشهيد إلى أن وضعنا هو أشبه بحال حزب “آكيل” القبرصي الذي كان يتمتع بالأكثرية في البرلمان، ولكنه تنازل عن موقعه لصالح مكاريوس بسبب عدم قدرة حزب آكيل على مواجهة الأوضاع والتحديات الاقليمية والدولية ووجود القواعد العسكرية الأجنبية في الجزيرة.
وبتقديري إن أطرافاً أخرى لا يتوقع منها عملت هي الأخرى على تحقيق هذا الهدف. فلدي اعتقاد بأن الحزب الشيوعي الصيني وبعد توتر العلاقات بينه وبين الحزب الشيوعي السوفييتي حول قضايا فكرية في الظاهر، اتخذت قيادة الحزب الشيوعي العراقي موقفاً مؤيداً للأطروحات السوفييتية مما أثار حفيظة الحزب الشيوعي الصيني وركز في هجماته على الحزب الشيوعي العراقي. وكان ممثلوا الصين في بغداد على صلة ببعض قياديي الحزب ولهم إطلاع على المناقشات داخل الحزب ونقلوا تلكالمناقشات، ومنها قضية التحرك لتغيير قيادة الحكم، إلى عبد الكريم قاسم بدليل كثافة الزيارات واللقاءات التي كان يقوم بها السفير الصيني مع عبد الكريم قاسم. وبلع عيد الكريم قاسم هذا الطعم وسار على طريق المواجهة وفرض القيود على الحزبالشيوعي العراقي. ففي القرار الذي اتخذته الحكومة حول إجازة الأحزاب السياسية في العراق، أجازت وزارة الداخلية وبأمر من الزعيم ممارسة النشاط الحزبي إلى جميع الأحزاب وبضمنها الحزب الاسلامي وحُرم الحزب الشيوعي والحزب الجمهوريالذي يتزعمه السياسي الديمقراطي المخضرم عبد الفتاح إبراهيم من ممارسة النشاط الحزبي القانوني. مثل هذا الموقف هو الذي ساهم في عرقلة الجهود السليمة المطالبة بإرساء النظام السياسي العراق على أسس الديمقراطية والتعددية ومشاركة الشعب صاحب الشأن في إدارة البلاد، ومواجهة احتكار السلطة والفردية والاستبداد . ولم يتردد عبد الكريم قاسم في تعطيل جريدة اتحاد الشعب لمدة عشرة أشهر ثم إلغاء امتيازها كلياً لاحقاً بناءاً على طلب “هريدج” رئيس وفد المفاوضين لشركات النفط الاجنبية العاملة في العراق بذريعة نشر الجريدة مقالات تتعارض مع مطاليب الشركات وإنها تثير الأرباك في المفاوضات الجارية مع الحكومة العراقية.
كما غض الزعيم عبد الكريم قاسم النظر عن حملات الاغتيالات التي طالت أعضاء وكوادر في الحزب الشيوعي وخاصة في بغداد والموصل (اغتيل قرابة 400 مواطن فيها) ومدن أخرى وموجة من تلفيق الاتهامات ضد الشيوعيين وانصارهم من قبل محاكم عسكرية يرأسها ضباط قوميين ورجعيين حيث ضمت سجون العراق قبيل انقلاب شباط قرابة 500 سجين وهو عدد يفوق عدد السجناء الشيوعيين والديمقراطين في العهود السابقة . وعاد النشاط إلى الاجهزة الأمنية التي ورثها العراق من العهد الملكي والتي لم تطالها يد الاصلاح والتغيير، لتعود من جديد إلى فبركة وتدوين التقارير الكاذبة حول النشاط الشيوعي الهدام والفوضوي!!!
ومع البدء أولاً بالموقف المعادي للحزب الشيوعي العراقي، فلا بد أن ينتقل هذا السلوك كالعادة في ظروف العراق إلى أطراف أخرى، حيث اندلعت المواجهات الخطيرة المسلحة بين الحكم والحركة القومية الكردية إثر حركة استفزازية اشعلتها الفئات الاقطاعية والرجعية في كردستان العراق. وبدلاً من أن يعي الحكم وقادة الحركة القومية الكردية مديات هذ التطور الخطير وتأثيراته السلبية على الوضع في البلاد، تعنت الطرفان في الوصول إلى حل سلمي للمشكلة ولم يستمعوا إلى صوت الحكمة التياطلقها الحزب الشيوعي في الدعوة للسلم في كردستان والديمقراطية للعراق والحكم الذاتي في كردستان. ومنذ ذلك الحين تحولت هذه القضية القومية إلى ورقة أضافية ضاغطة بيد الشاه والدوائر الأمريكية وحتى اسرائيل على الحكم ضمن المساعي لاسقاطه والتدخل في الشؤون الداخلية العراقية.
ووقع الحكم في ورطة اقليمية خطيرة تمثلت في الدعوة إلى إلحاق الكويت في العراق، ظناً من الحكم إن هذه الدعوة الشعبوية من شأنها أن تدغدغ مشاعر التيارات الشعبوية والقومية من أجل جذبها لمساندة الحكم بعد أن شعر الحكم بتراجع شعبيته. لقد سهلت هذه الخطوة الخطيرة على الأطراف الاقليمية والدولية الاصطفاف في جهد واحد للإجهاز على ثورة تموز ومنجزاتها وتوجيه ضربة إلى القوى التقدمية والديمقراطية وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي العراقي. كما مهدت هذه الدعوة الشعبوية الطريق للأنزال العسكري البريطاني والمصري وقوات دول أخرى في الكويت بذريعة الدفاع عن سيادة الكويت العضو في هيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية.
وبالرغم من أن غالبية القوى السياسية تتحمل بهذا القدر أو ذاك مسؤؤليتها في الكوارث التي تحملها العراقيون، إلا ّ أن سلطة تموز بقيادة عبد الكريم قاسم والتراجع الخطير الذي قامت به خاصة في منتصف عام 1959 وأخطائها، هي التي مهدتللكارثة التي حلت بالبلاد متمثلة بانقلاب 8 شباط، وما تبع هذا الانقلاب من تداعيات مدمرة يعيش نتائجها العراقيون حتى الآن.