الخميس, نوفمبر 28, 2024
Homeمقالاتد. محمود عباس : هل ستتفتت تركيا كالإمبراطورية العثمانية

د. محمود عباس : هل ستتفتت تركيا كالإمبراطورية العثمانية

 هل ستتفتت تركيا كالإمبراطورية العثمانية  

1/2

   لماذا تنهار الليرة التركية؟ ولماذا جمد أردوغان سعر الفائدة؟ وهل خطته ستنقذ اقتصاد دولته من التضخم والعجز التجاري؟ ما هي مصادر السيولة الضخمة التي كانت تتدفق عليها؟ ومن أوصلتها اقتصاديا إلى مجموعة العشرين الأوائل في العالم، ولماذا؟ وهل ستتمكن حكومة العدالة والتنمية من إنقاذ ذاتها سياسيا، وتركيا من الانهيار الاقتصادي القادم؟ هل تعميق العلاقات الاقتصادية السياسية مع روسيا وإيران ستساعدها على الخروج من أزمتها في حال بدأت أمريكا بحصارها جدياً؟

أسئلة من ضمن العديد مثلها تدور اليوم بين المحللين السياسيين والاقتصاديين، المهتمين بمنطقة الشرق الأوسط، وجلهم يخرجون بسلبية حول مصير تركيا اقتصاديا في المنظور القريب، وسياسيا في المدى البعيد، ودور أردوغان وحزبه؟

 على مدى العقدين الأخيرين من الزمن جلبت تركيا انتباه العالم، اقتصاديا وسياسيا، عندما دخلت مجموعة الدول العشرين في عام 1999م وبلغت الدرجة السابعة عشرة بين دول العالم اقتصاديا، بناتج دخل وطني تجاوز حدود 750 مليار دولار، ونافست هولندا على المركز السابع عشر، واحتلت مكانتها فيما بعد، وحضرت مؤتمرات القمة العشرين كدولة مؤثرة على الاقتصاد العالمي.

 تجاوز حزب العدالة والتنمية، وطأة الديون، والتضخم المتزايد، والعجز الكبير في الموازنة العامة والتجارية، بمساعدة الرأسمالية العالمية، والمنظمات الاقتصادية-السياسية اللامرئية، لكنها عادت ومنذ أكثر من أربع سنوات تقرض من احتياطيها بمقدار 18% سنويا، ومن المتوقع أن تتصاعد النسبة في السنوات القادمة، وزيادة عجز في الموازنة العامة والميزانية التجارية، وبطبيعة الحال تفاقم التضخم، ومن المرجح تدهور الليرة بوتيرة متسارعة.

 وباعتبارها كانت أول دولة في العالم ذات حكومة إسلامية معتدلة، تم تصعيد اقتصاها بدعم خارجي بلغ قرابة 75% من إجمالي الدخل الوطني، أي كانت السيولة الداخلة إلى تركيا تصل إلى قرابة 300% من الموجودة في الداخل ولعدة سنوات، إلى جانب إسهام الشركات الأجنبية في استثمارات كبيرة داخلية لدعم الإنتاج المحلي المصدر إلى الخارج.

   وفي الوقت الذي كان الدخل الوطني لا يتجاوز 280 مليار دولار في السنوات الأخيرة من القرن الماضي وبعجز في الميزانية قاربت في بعض السنوات الـ 20% من الدخل العام، وتدهور حاد في الليرة التركية، ارتفعت نسبة النمو الاقتصادي ما بين 2003م سنة وصول أردوغان الحكم وحتى 2015م حدود 10% إلى أن تجاوز إجمالي الدخل الوطني الت 1 تريليون دولار مع فائض في الميزانية التجارية، وكان من المتوقع أن يتجاوز الدخل الوطني 2 تريليون دولار في عام 2023م فيما لو ظلت على علاقاتها المتينة مع الرأسمالية العالمية الداعمة، وحافظت على الوتيرة الاقتصادية المتصاعدة التي كانت عليها خلاي السنوات الأولى من الدعم الخارجي.

   ومنذ بدايات الثورة السورية انتقلت حكومة أردوغان إلى دولة تدعم المنظمات الإسلامية التكفيرية، وانحرفت شريحة واسعة من قياديي حزب العدالة والتنمية إلى شخصيات إسلامية راديكالية، متبجحين بقوتهم الاقتصادية والعسكرية.

  وهذه كانت من أحد أهم العوامل المؤدية إلى حدوث شرخ بين حكومة أردوغان الإسلامية وبين الداعمين لها من الرأسمالية العالمية، وبتوجيه من الدول الكبرى المعنية بأمر حضورها في العالم الإسلامي كمثال ليبرالي عن الإسلام، ومن الشركات والمصارف الداعمة للمستثمرين الأتراك، كمثال، وحسب تقارير BIS cross-border figures فالبنوك الإسبانية قرضتهم قرابة 84 مليار دولار، والفرنسية قرابة 39 مليار دولار، والإيطالية قرابة 17 مليار دولار، واليابانية 14 مليار دولار، وبعض البريطانية أكثر من 19 مليار دولار، وبعض الأمريكية تجاوزت 18 مليار دولار، والألمانية وغيرها من الدول الأوروبية وقسم واسع من الشركات المالية الأمريكية لا يصرحون عنها، لكن الدعم الضخم تبين من خلال تأثر بنوكها بتدهور الليرة، فقد خسرت شركات القطاع المالي مثل UniCredit و BNP Paribas و BBV  وغيرها قرابة 3% من سعر أسهمها، وليست بحوزتنا حاليا، التفاصيل الدقيقة عن البنوك والشركات الأمريكية الكبرى الأكثر استثمارا في تركيا.

  عرف أردوغان كيف يسخر احتياج تلك القوى له كحزب إسلامي ولشخصه للنهوض بتركيا. ومن الغريب يتبين الأن ومن خلال تصرفاته وكأنه خسر مهاراته السابقة، ويدفع بتركيا لتنهار بالطريقة ذاتها، فمثلما رفع تركيا بوتيرة منظمة وتنسيق مع الشركات الرأسمالية العالمية، بدأت ومنذ سنوات تتراجع وعلى مراحل، والأغرب وكأن أردوغان وقادة حزبه لا يريدون إعادة الماضي، أو يتناسون أن صعودهم كان بدعم خارجي، وأن كل التبجح الماضي الذي كانوا يظهرونه كان يقف وراءها قوى (سميتها سابقا وفي عدة مقالات عن الاقتصاد التركي وقبل سنوات برأسمالية الشركات العالمية الماسونية) رأسمالية عالمية، وقد تكون بينهم شركات ودول عربية كقطر على سبيل المثال. 

 فمعظم المحللين السياسيين عللوا تدهور الليرة التركية، بتبجح أردوغان، وتغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ورفعه سعر الضريبة على الألمنيوم والحديد التركي بنسبة 20 و50 %، لكن المحللين الاقتصاديين يعيدونها إلى أسباب أعمق من التغريدة وأقدم من الحصار الاقتصادي الحالي، فكان تصريح ترمب مجرد قشة قصمت ظهر الجمل.

فمنذ تولي أردوغان سدة الحكم في عام 2003م وحتى قبل سنوات، لم يصطدم بالأزمات الاقتصادية، وإشكالياتها، علما أنه تلقى تنبيهات عندما بدأ بالتدخل في حركة البنك المركزي، وواجه العالم بالموجة الإسلامية الراديكالية تحت غطاء عدة حجج:

1-     منها منع تركيا الانضمام إلى الوحدة الأوروبية.

2-     القضية الكردية في سوريا.

3-     قضية الانقلاب الفاشل وإتهام أمريكا بدعمها.

4-     تقاربها من روسيا وصفقتي الصواريخ الـ س 400 ومشروعي الغاز الروسي الأوروبي المار من تركيا، والمفاعل النووية المخططة بناؤها.

5-    عناد أردوغان بعدم إطلاق سراح القس الأمريكي المتهم تركيا بدعمه للإرهاب، ويقصد بها جماعة فتح الله كولن وحزب العمال الكردستاني.

 فتراكم كل هذه إلى جانب قضايا متممة منها:

1-     مهاجمته لإسرائيل ودعم منظمة حماس ومعارضته الحادة على نقل أمريكا سفارتها إلى القدس.

2-    فتح الأبواب للمهاجرين بالذهاب إلى أوروبا، بينهم خلايا من داعش.

3-    إثارة قضية مخيمات اللاجئين السوريين وغيرهم، ومطالبته باستمرار الدعم الخارجي كمساعدات.

4-    محاولاته احتلال الأكثر من الأراضي السورية والاحتفاظ بالمجتاحة.

تراكم كل هذه العوامل مجتمعة، أدت إلى تسريع الرأسمالية العالمية بإعادة النظر في دعمها للاقتصاد التركي، ورغبتها بتغيير النظام الحكم فيها، وفي الواقع هدفهم هو حزب العدالة والتنمية والمتمثل بإزاحة أردوغان من على رأس النظام، أو على الأقل إخراجه اقتصاديا من مجموعة العشرين، وهذا ما سيتم على الأغلب في القريب العاجل إذا لم يمتثل أردوغان لإملاءات الداعمين، وعلى رأسهم الشركات الرأسمالية الأمريكية، ولأهمية دور تركيا اقتصاديا كان لسقوط سعر ليرتها تأثير على معظم أسواق الأسهم العالمية وعلى العديد من مصارفها، كما ذكرناها سابقا.

  فكما هو معروف عن الدورات الاقتصادية أنها تأخذ قرابة عقد من الزمن وأكثر، لتظهر نتائجها السلبية أو الإيجابية، فتدهور الليرة التركية، ليست سوى مؤشر بسيط أمام الركود القادم، وهذا بحد ذاته لن يقف على حدود خسارة 40% من قيمتها منذ بداية العام، كما وسقطت مثلها سعر الأسهم في البورصة التركية بنسبة تجاوزت 17%، أو 40% حسب سعر صرف الدولار، يوم تغريدة ترمب، ولتصعد بعدها إلى قرابة الـ 50% إلى أن تجاوز سعر الدولار الـ 7 ليرات تركية منطلقة من أثنين ونصف قبل ستة أشهر، فهذان المؤشران هما بداية المؤشرات الأخرى الأكثر سلبية أن لم تكن كارثية، وهي عديدة في المجالين الاقتصادي والسياسي.

   وفي الواقع الانكماش الحقيقي للاقتصاد التركي بدأ منذ أكثر من أربع سنوات( كنا قد كتبنا فيها وبأرقام ضمن مقالات منها ” أردوغان تدهور بين السياسة والاقتصاد، ومن صنع أردوغان، وغيرها) والمؤشرات كانت ظاهرة، غطت عليها باحتياطيها المتراكم في الأعوام السابقة، والدعم الخارجي لسعر الليرة، وعدم التصريح عن تزايد العجز التجاري، ولكن الشركات الرأسمالية كانت على دراية، وتعلم متى ستظهر بوادر الضعف والتراجع، فتمهلت إلى أن اجتمعت العوامل المناسبة، وظهرت الضجة الإعلامية على خلفية تدهور الليرة، التي طفت معها جزء بسيط من الأزمة الاقتصادية، ولكن أردوغان وإقتصادييه ومستشاريه لدرايتهم بما تواجههم، يركزون على هذا المؤشر أمام الإعلام التركي للتغطية على المعضلات الكبرى في الاقتصاد، لئلا تتأثر ثقة الشارع التركي بإمكانيات الدولة.

   فمن المعروف أن انهيار الثقة يسارع في انهيار الاقتصاد بسرعة مضاعفة، ولا قوة تستطيع إيقافها إلا ضخ هائل من السيولة إلى السوق، وعلى الأرجح أنه لم تعد تركيا تملك الإمكانيات الكافية، رغم أن أردوغان حاول إظهارها في الواقع العملي، بضخه قرابة 7 مليارات دولار إلى السوق لدعم الليرة، والعملية لن تتمكن من الصمود أمام ضخامة الانهيار السريع، وفي الواقع السياسي والاجتماعي حاول عن طريق تمجيده بقوة الشعب وإيمانه بالله، إعادة ثقة الشعب بليرته، وحثهم على صرف العملة الصعبة المخزونة لديهم، قائلا ” إن كان لديكم أموال بالدولار أو اليورو أو ذهب تدخرونه، اذهبوا إلى المصارف لتحويلها إلى الليرة التركية، إنه كفاح وطني”. وأضاف (لهم دولارهم ولنا الله) في الواقع العملي، الخطابات النارية، وخاصة المعادية لأمريكا وأوروبا وقبلها لإسرائيل، قد تساعد على تهدئة الشعب، وتخلق لدى مؤيدي الحزب بعض الثقة، لكنها لن تنقذ الاقتصاد من أزمته...

 يتبع…

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

 mamokurda@gmail.com

 هل ستتفتت تركيا كالإمبراطورية العثمانية  

2/2

   الانهيار بدأ يظهر بشكل جلي، وخاصة في ميزانية الدولة والعجز التجاري، والمتوقع بلوغ الأولى في ميزانية العام القادم إلى قرابة 300 مليار دولا، وفي الثانية في نهاية هذا العام إلى حواف 12% من قيمة الدخل القومي البالغ 3 تريليون ليرة تركية، أي قرابة 780 مليار دولار قبل هبوط سعر الليرة، والوطني والذي وقف على حدود 1 ونصف تريليون دولار عام 2017م وبنفس سعر الليرة قبل هبوطها الحاد، والذي كان متوقعا أن تتجاوز حسب تقرير صندوق النقد الدولي 2 تريليون دولار، ولتصبح الدولة الثالثة عشرة في العالم، والخامسة أوروبيا، لكنها وبعد موجة التدهور ستكون الأرقام بحدود نصف المذكورة، ولن تظل بحدود الدولة 17 من حيث الناتج المحلي الاسمي، والـ 15 من حيث الناتج المحلي الإجمالي، والفرق الهائل بين القومي والوطني هو ما تبين مدى الدعم الذي كان يتلقاه أردوغان من الشركات الرأسمالية العالمية.

  وعلى أثر كل ذلك وتراجع الدعم الخارجي، تصاعد العجز التجاري وبلغ حدود 17 مليار دولار وهو ضعف العجز الحاصل في عام 2016م، وعلى الأرجح سيستمر في التصاعد مع هبوط الليرة التركية أمام الدولار واليورو، حتى أن البعض من المؤسسات المالية ذكرت أن العجز بلغ قرابة 80 مليار دولار، ثلثيها كانت بسبب شراء موارد الطاقة، على الأغلب الرقم الأخير فيه تضخيم، وتم ترجيح الرقم الأول، كما أن نسبة كبيرة من الطاقة مولت من إيران وروسيا، وهي إما تشترى بالعملة التركية أو بتبادل البضائع. مع ذلك من غير المعقول إيقاف العجز بالدعاية المقالة أنها وروسيا وإيران سيتعاملون بالعملة المحلية، وحتى لو حصل فهي قد تغطي نسبة لن تتعدى 3% من جملة العجز التجاري بناءً على الرقم الأول. ولضخامة التأثير تحاول تركيا أقناع الحكومة العراقية، ورئيسها وزرائها حيدر العبادي السماح للإقليم الكردستاني بتصدير نفط منابع كركوك عبر إراضيها، للحصول على كمية من موارد الطاقة والعملة الصعبة، مقابل المرور. أو الاعتماد على قطاع السياحة، كما نوه أردوغان لتطمين الشعب، أن عدد السواح الروس سيبلغون ستة ملايين سائح، والتي في أفضل السنوات لم تتجاوز دخل القطاع السياحي 50 مليار دولار.

 رغم ذلك فأن نمو التطور الاقتصادي لا يزال متوقعا، تركيا، أن يكون بحدود 5%حسب سعر الدولار خلال هذه السنة والقادمة، والمحسوب تركيا بـ 11% وهي تخمينات عالية جدا في المقارنات الدولية، لأنها محسوبة بالليرة التركية وقبل هبوطها، ولم تتجاوز نسبة 9.5% في أعلى مراحل الدعم العالمي وذلك عام 2004م.

كما وأن ضخ كميات من السيولة التركية، حسب خطة المواجهة، إلى السوق لمساعدة الشعب في مواجهة التضخم المتصاعد، قد تؤدي إلى استقرار في السوق قليلا، لكن تنقذها، وسيستمر الانهيار إذا لم يحصل أردوغان على دعم خارجي. والعديد من الاقتصاديين يتوقعون أن التضخم وتدهور سعر السوق والليرة التركية قد تكون كارثية في المستقبل. وفي الواقع بدأ التأثير يظهر منذ فترة، منها نزوح الاستثمارات الخارجية من تركيا، وتباطأ في نمو بعض القطاعات، ومنها البناء، وعملية الشراء والبيع، وهناك شريحة واسعة من الشركات الاستثمارية يجمدون احتياطيهم من العملة الصعبة، ولا يشترون من الخارج، لبيعه في الداخل بالليرة غير المستقرة.

  وقد أسند أردوغان هذه العملية بوعد سياسي-اقتصادي قبل أيام، ذاكرا أنه لن يزيد من سعر الفائدة ما دام في الحكم، لكن معظم الاقتصاديين يؤكدون أن تجميدها في أدنى مستوياتها ستؤدي إلى نتائج سلبية، ومنها العلاقة بين حركة السوق أي المستثمرين والمصارف والبنوك. فالتجميد بسعر فائدة متدنية، ستقلل من نسبة أرباح البنوك، وبالتالي ستضعهم أمام عجز في السيولة، وستدفعهم إلى الإحجام في نسبة القروض على خلفية تراجع العائدات، وعليه فالمساعدات بدون دعم من البنك المركزي العاجز أصلا أمام تراجع الاحتياطي من العملة الصعبة، رغم ما تم إقراره من قبل صهر أردوغان، وزير المالية (براءت البيرق) بحرية التصرف للبنك المركزي، لن تؤدي إلى سد العجز الاقتصادي الحاصل في ميزانية الدولة للعام القادم، والمتوقع أن تبلغ قرابة 230 مليار دولار، فيما إذا لم تزداد، في حال اضطرت على دخول حرب مع الجوار أو غيرها، ولن يتوقف التضخم، وتدهور سعر الليرة. وعلينا ألا ننسى أن مدفوعات المستثمرين الأتراك للبنوك العالمية، المديونة لها، ستظل بسعر الفائدة المتفقة عليها قبل سنوات وبالدولار.

وفي الواقع علينا أن نعلم خلفية الازدهار الذي نعمت به تركيا في فترة أردوغان، لمعرفة ما يجري حاليا، والتي كما ذكرنا سابقا ورائها شركات رأسمالية عالمية وبعدة طرق منها:

1-     أيصال استثماراتها عن طريق الشركات التركية إلى مراكز في العالم الإسلامي وبشكل غير مباشر، وهو ما أدى إلى التدفق الهائل من السيولة نحو تركيا، وكنا قد ذكرنا بعضها بالأرقام. وحصول المستثمرين الأتراك على أرباح لم يكونوا يحلمون بها، وارتفعت سعر ليرتها بنسبة تجاوزت 3 ألاف بالمائة، بعد التدهور الاقتصادي وليرتها والذي امتد على مدى عقدين وأكثر.

2-    دعم السوق الداخلية التركية، وفتح أبواب التجارة الخارجية لها، والتعامل مع مستثمريها بالليرة التركية لرفع سعرها، وبهذه العملية تم إنقاذها من عجزها التجاري الدائم، بزيادة كبيرة في نسبة الصادرات، وبسند من صناعات خارجية تجميعية في تركيا، بينها قطع تغيير للأسلحة الأمريكية والإسرائيلية ودول حلف الناتو.  

لا شك تزايد وتيرة الاقتصاد التركي في الفترة التي جاء فيه أردوغان إلى الحكم 2003م، أعطته القوة في إحداث تغيرات هائلة على المستويين الاجتماعي والسياسي، متبجحا بها وبالنجاحات الاقتصادية، وهو ما أدى إلى تضخم في الذات، ولربما انحراف في الشخصية، ليبلغ حد جنون العظمة كما يروجها بعض الإعلاميين، ولذلك كان له إشكاليات مع أعضاء من حزبه.

   وبعد الخطوات القيمة كتمكنه من القضاء على منظمة أرغنكون ومجموعة الكماليين، حول تركيا من نظام علماني إلى نظام إسلامي متشدد، ومن برلماني إلى رئاسي شبه مطلق، وحول السلم مع حزب العمال الكردستاني إلى حرب شرسة، كما نقل تركيا من صفر مشاكل مع الجوار إلى جملة من المشاكل والصراعات مع القوى الداخلية والإقليمية، وليصعد إلى الصراع مع حلفائه الاستراتيجيين والذين لا نظن أنه بدونهم ستستمر تركيا، وهي أمريكا وأوروبا ودول حلف الناتو وإسرائيل، وهنا بدأت مسيرة أردوغان وحزب العدالة والتنمية بالهبوط الحاد، علما أنها كدولة كانت لا تزال تملك بعض الأمل بعدم الانجراف إلى حكومة تدعم المنظمات الإرهابية الإسلامية والحفاظ على وتيرة النمو الاقتصادي المتصاعد، قبل بداية تقليص الشركات العالمية الرأسمالية دعمها.

   وبوادر سقوط تركيا كنظام اقتصادي متماسك، تشبه كثيرا ما حل بالإمبراطورية العثمانية الإسلامية المنحرفة من المذهب السني شبه الصوفي، إلى التكفيرية بعد حروبها مع روسيا والدول الإقليمية كبلغاريا واليونان، واستناد خليفتها على التعصب الديني، لمواجهة الشعوب الأخرى وخاصة غير الإسلامية، والمؤدية إلى الصراع مع الإمبراطوريات الأوروبية المتصاعدة، في الوقت الذي كانت تغرق تحت ديونها الخارجية والبالغة قرابة 5 مليون ليرة ذهبية، وهو المبلغ الذي تكفل بتسديده ممثل اليهود، هيرتزل، مع إضافة 5 ملايين أخرى للسلطان عبد الحميد ذاته كهدية، المسألة التي لها إشكاليات عديدة، وتحتاج إلى دراسة مفصلة ومنفصلة.

  كما وأن وضع تركيا الأردوغانية، الديني والسياسي والدبلوماسي لا تختلف كثيرا عن ماضيها المنبثق منه، يوم بلغت مرحلة العزلة الدولية على خلفية مواجهتها كل الأطراف بوقوفها مع ألمانيا العنصرية، ولم تحافظ على حليف يثق به، فلم تكتفي الدول الكبرى حينها بالتخلي عنها، بل بالتخطيط على تقسيم ممتلكاتها، ومساعدة الشعوب للتحرر من احتلالها، وهو ما تم لبعضها، وتشكلت الدول العديدة في المنطقة من ولاياتها، وهذا ما يتوقعه معظم المراقبين الاستراتيجيين، أن تحصل نتيجة مماثلة لتركيا الحالية في المنظور البعيد، وتتفتت، وتحصل الشعوب المحتلة من قبلها على استقلالها، وسيادة جغرافيتها، ومنها كردستان التي أصبحت يتيمة الإمبراطورية العثمانية، رغم  أنها تمتلك أكبر الجغرافيات والديمغرافيات، مع ذلك خرجت بلا دولة، من بين جميع الشعوب الأخرى، ما عدى اللاظ.

  فحتى ولو استمرت تركيا كدولة متماسكة إلى فترة ما، تظهر فيها قوتها، وتبجحها، وتقوت بروسيا المحاصرة مثلها، من قبل أمريكا، ستظل معرضة إلى التفتت فيما لو استمرت، على مساعدتها للمنظمات الإرهابي الإسلامية المرفوضة من روسيا قبل أية دولة أخرى. وفي مواجهة أمريكا وأوروبا وإسرائيل، والذين قادتها يعلمون أن تركيا الأردوغانية تتجه إلى إعادة أمجاد الخلافة العثمانية عندما رفضت الهجرة اليهودية إلى أرض الميعاد، وخلقت حاجزاً بين تعامل الأديان السماوية في المنطقة، وخلق كراهية نحو اليهود في المنطقة بين المسلمين، وكانت من أحد الأسباب المؤدية إلى تفتت الإمبراطورية العثمانية.

  ستخسر تركيا الكثير كدولة كبرى، وستبلغ سويات لا يحمد أردوغان عقباه، لتمسكه بإعادة تجربة الخلافة العثمانية وتعصبه الديني وتجربة علاقاته المتذبذبة أو ذات الوجهين مع إسرائيل، ودعمه ليس للفلسطينيين كشعب وحكومة بل لحركة حماس الإسلامية الفلسطينية الراديكالية، والتي تعتبرها أمريكا وإسرائيل خط أحمر، تمس أمن الدولتين.

  لكن هنا وفي الوجه الأخر من المعادلة، تتناسى أمريكا والدول الأوربية وإسرائيل ومستشاريهم، أن أردوغان يتحول يوما بعد أخر، ليس فقط من مسلم معتدل إلى راديكالي متعصب، بل من نظام ديمقراطي إلى دكتاتور مطلق الحكم في تركيا، والانحراف الحاصل، كما ذكرنا سابقاً، هي حصيلة ما بلغته تركيا من القوة في مرحلة الدعم اللامحدود من الشركات الرأسمالية، وهي التي أدت به إلى تجاوز كل القيم في تبجحه، خاصة بعد أن تمكن من تغيير نظام الحكم، وبدعم شبه مطلق من حزبه، العدالة والتنمية، وأغلبية الشعب، وهو ما سيؤدي به إلى تحويل تركيا إلى دولة مشابهة لألمانيا النازية بعد استلام هتلر السلطة بالانتخابات.

  فمهما تدهور الاقتصاد، وتراجعت الليرة فلن تؤثر على سلطته الدكتاتورية والمحبوبة والمدعومة حتى الأن من أغلبية المجتمع التركي الذي لا يزال تحت تأثير ما بلغته تركيا من المستويات العالمية الاقتصادية.  علما أن الجميع يعرفون أن الدكتاتوريات لا تسقط عادة بالطرق السياسية والدبلوماسية، ولا بالحصار الاقتصادي، والأمثلة في المنطقة والعالم كثيرة، وخير مثال إيران، وكوريا الشمالية وسلطتي البعث، وغيرهم في العالم، وبينهم العالمين العربي والإسلامي. وهنا فالمجتمع التركي سيكون الأكثر تضرراً في الحصار، فكلما ازداد الضغط الخارجي على سلطة أردوغان سيقابله بالضغط على الشعب، والحجج والتبريرات لمظالمهم عند الحكومات الدكتاتورية كحكومة العدالة والتنمية الإسلامية لا حصر لها. 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

 mamokurda@gmail.com

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular