هذه قصة من قصص حرب إستمرت لثمان سنوات (1980-1988)، وأعقبتها قصة إنتقام منذ 2003 وما زالت مستمرة بتفاصيلها الغريبة والمثيرة.
لنبدأ من النهاية، كما في الروايات. ففي يوم العاشر من شباط 2007، كان قد مضى على قدومي إلى بغداد من دهوك بعد قبولي في وزارة الخارجية، وتركي لوظيفة التدريس الجامعي في كلية القانون – جامعة دهوك، قرابة ستة أشهر. ولمعرفتي بالوضع الأمني المتدهور في بغداد فقد إتفقت مع سائق خاص لنقلي إلى الوزارة وإعادتي منها لثقتي به، وكان سائقي (أحمد) نموذجا للثقة. وطيلة ستة أشهر لم أغادر البيت وحدي ولم أتمشى خارج البيت أطلاقا.
وفي يوم السبت فكرت في الذهاب إلى الحلاق، وإنسانيا لم أشأ أن أكلف لسائق حتى في يوم العطلة ليرتاح في نهاية الأسبوع. فقصدت صالون الحلاقة في الكرادة، مقابل مستشفى سانت رافائيل المعروفة عند العراقيين بمستشفى الراهبات، وبعد السلام مع الحلاق علي المعروف ب(علاوي). إقترح أن أتمشى قليلا وأعود إليه بعد 15 دقيقة لأنه مشغول بحلاقة ثلاثة زبائن أخرين سبقوني إليه.
وما إن خرجت من صالون الحلاقة وتمشيت خطوتين حتى وقفت إلى جانبي سيارة لم أعد أتذكر حتى نوعها، ولكن أخر صورة في ذهني توحي بانها كانت سيارة بيضاء. وفجاءة إنفجرت على بعد متر إلى ثلاثة أمتار كما يشير التقرير الطبي للإصابة والصادر من المستشفى. ومن الطبيعي إني فقدت الوعي من شدّة الإنفجار، ولم أستعد وعيي إلا وأنا في سيارة تويوتا بيكب آب دبل قمارة بيضاء اللون. كان يجلس فيها شخصان رثي الثياب، لا يبدو أنهم عراقيين، فالعراقي مغرم بالأناقة، أستعدت وعيي في السيارة وأنا ممدد في الخلف، وتوقعت إنني قيد الإختطاف، وهذا ما إنتشر في العراق بعد عام 2003، وثرت في وجههم متسائلا: وين ما خذيني؟ (أي أن أنتم ذاهبون بي)، فقال السائق: إلى المستشفى. قلت: ولماذا؟ قال: لأن حدث إنفجار وأنت أصبت فيه. فقلت: إذا لماذا لا تأخذونني إلى مستشفى الراهبات، وهي إلى يسار الشارع؟ فقال: لا سنأخذك إلى مستشفى آخر. وفي محاولة لإسكاتي، قال: هل كنت ترتدي حزام ناسف؟ فقلت: لو كنت أرتديه لكنت الآن ميت. ثم عاد يسألني: هل أنت شيعي أم سُنّي؟ فأجبته: أنا مسيحي. فقال: إذا أنت مسيحي، فسأسألك عدة كلمات مسيحية لتقول لي ما معناها. ثم سألني: ما معنى كلمة (، (أخوني)، فقلتك يعني أخي. ثم عاد يسألني ثانية: وما معنى كلمة (بابي). فقلت: أبي. ثم بدأوا يتحدثون بينهم بالفارسية، وأدركت آنذاك أنهم إيرانيون أو عملاء إيران الذين دخلوا العراق مؤخراً بعد 2003. وبعد أن أنهوا حديثهم القصير، إتصل السائق بشخص ما، ويبدو أنه رجل دين شيعي، ليقول له: سيد، هذا طلع إرهابي مسيحي. فإنتفضت قائلا: هو أكو إرهابي مسيحي. شنو إرهابي. فيبدو أعطاه تعليمات بنقلي إلى مستشفى بعيد عن الكرادة، وعند دخول السيارة رفعت رأسي، وقرأت لافتة المستشفى وإذا قد كتب عليها (مستشفى الإمام علي بن أبي طالب). دخلت السيارة إلى المستشفى وتم تمديدي على نقالة متحركة، وضمي إلى مجموعة جرحى هم ضحايا نفس الحادث وكانوا ستة أشخاص. وإلى جانب نقالة أخرى عليها شاب يبدو أنه قد أصيب بشظية في ظهره، وقد إضطجع على جنبه الأيسر وأصبح وجهه في مواجهتي فسألته: شصار؟ (أي ماذا حصل) ولكنه لم يجيبني بكلمة. كانت إصابتي أكبر من الجميع نظراً لقربي من السيارة المفخخة. ويبدو إنهم كانوا من الطائفة السٌنية، فتم نقلهم إلى نهاية باحة المستشفى الخلفية، حيث غرفة كانت في السابق، مخصصة لإستراحة سواق الإسعاف، وإستمعت في صباح اليوم التالي من أحد المضمدين إنهم ماتوا الخمسة جميعا، في إشارة توحي بقتلهم.
وقف الإيرانيان اللذان أقلاني إلى المستشفى، فبحثت في جيب قمصلتي التي أرتديها بحثا عن هاتفي المحمول، فلم أجده، وسألت عليه، فوجدته بيد السائق، فقلت له: أعطني هاتفي لأتحدث إلى شخص ليأتي لنجدتي، وفي هذه الأثناء، دخل شخص ثالث يبدو إنه شيعي أيضا، وقال لي أولا: إطمئن، أنا صديق أخوك، وأسمي ليث. وبدأ يصرخ في وجه الإيرانيان قائلا: ماذا تريدون أن تفعلوا به؟ إن هذا الشخص هو شيعي. فقالوا له: ولكنه يقول إنه مسيحي؟ فردّ عليهم قائلا: صحيح، إنه مسيحي، ولكنه أفضل من أي شيعي. وباغتهم متسائلا: أنتم تتبعون أي مرجع (يقصد شيعي)؟ فأجابوه بصوت منخفض عن أسم مرجعهم سيد …، ولك أسمع الإسم تماما. فقال لهم: أنا أتبع المرجع فلان. ولم اتبين الإسم أيضا، فقد تنحى بهم جانباً. فقالوا: حسنا. وتقدم نحوي السائق، وقال: من تريد أن تتصل به ليأتي، فقلت له: أخي. فإتصل به، وقال له: تعال أخوك بمستشفى الإمام علي بالجوادر. ثم أعاد لي هاتفي وفي هذه الأثناء، رنّ الهاتف، فتحدثت بصوت مصاب، وإذا به السفير عمر البرزنجي من وزارة الخارجية، وكان قد طلب مني أن أساعده بتقرير عن حقوق الإنسان في العراق، لأنه ينوي تقديمه لمجلس حقوق الإنسان في جنيف والتي سيذهب إليها بعد أيام لحضور دورتها الإعتيادية. فقلت له: يتعذر عليّ ذلك، فأنا مصاب بإنفجار وفي المستشفى، فإستغرب وطلب مني عدم التحرك وأنه سيرسل شخصين لحمايتي ومتابعة حالتي، وإتضح للإيرانيان إني شخص مهم، فسألني أحدهم: ليش إنت وين تشتغل؟ فقلت له: وزارة الخارجية. فقال: بس يوصل أخوك، نحن سنذهب لأن لدينا عمل كثير. وماهي دقائق حتى وصل أخي. وغادروا بعد أن قالوا له: نرجو مراجعة مكتبنا في الكرادة داخل، العمارة المجاورة لأزياء رجالية في مدخل الكرادة، الطابق الثالث، علما لا يوجد أي لافته، وإن إسمه (أبو زمن)، فتأكدت أنهم من عناصر المخابرات الإيرانية أو من الحرس الثوري الإيراني الذين بسطوا نفوذهم في العراق، بعد أن أعطاهم الأمريكان حرية دخول العراق بعد إحتلاله عام 2003. ولا أريد أن أطيل في سرد معاناتي الصحية اللاحقة، ولكني بقيت أتنقل في مستشفيات بغداد لمدة تزيد على السنة، وأجريت لي خلالها أكثر من 11 عملية جراحية. بعد أن إنتقلت في مساء اليوم التالي إلى مستشفى سيدة النجاة الأهلي في الكرادة، إمتثالا لنصيحة مدير المستشفى العراقي الشهم الذي زارني صباح ذلك اليوم، وهنأني على نجاتي قائلا: أنت طلعت من حلك السبع (أي إنك خرجت من فم الأسد). ونصح إخواني وأهلي بإخراجي بالسرعة الممكنة، لأنهم سيقتلوني لاحقاً. وهكذا وانا ممدد وجريح وضعت لهم خطة هروبي من المستشفى، بالإتفاق مع سائق سيارة إسعاف فذهب أخي وإتفق مع أحدهم على إخراجي من المستشفى مقابل ربع مليون دينار عراقي، بحجة إنه ينقل جثة ميت إلى الطب العدلي لدفنه، وهكذا جرت الأمور، وتظاهرت بالموت لحين خروجي من بوابة المستشفى.
وظللت لسنوات أتساءل عن الجهة التي إستهدفتني وتابعت تحركاتي لستة أشهر، حتى إستطاعت رصدي وإرسال سيارة مفخخة لتنفجر عليّ، وهي تحضيرات لا يمكن أن يقوم بها أفراد، وبدأت أستذكر شريط حياتي، وهل ربما تكون السعودية كما يشاع رسميا، هي من أرسلت إرهابياً ليفجِّر نفسه عليّ. ولكن لم أتذكر حتى هذه اللحظة أن لي خلاف مع المملكة العربية السعودية، وبعد عدّة تحقيقات تأكد لي أن الجمهورية الإسلامية في إيران هي من يقف وراء ذلك. ولكن لماذا؟
في ليلة باردة من الشتاء، وتحديدا ليلة 6/7 من شباط 1983، وقد دخلت حرب الخليج الأولى أو (الحرب العراقية–الإيرانية) سنتها الثالثة. كنت يومها اقضي خدمتي الإلزامية بعد تخرجي من كلية القانون في جامعة بغداد، مع مجموعة من العسكريين العراقيين قاطع الشيب في ملجأ تحت الأرض مكون من غرفتين مفتوحتين إحداهما على الأخرى، الصغيرة لي وحدي وفيها سريري المتواضع والمكون من باب خشبي وضعت تحته على جانبيه أكياس من الرمل وإلى جانبه مكتبي وهو منضدة حديدية، وفي الغرفة المجاورة ينام فيها جنودي وعددهم 7 جنود.
ولسعة ساحات العمليات وخطورتها في القاطع الجنوبي فقد قامت (ق ع ق م) بتشكيل قيادة الفيلق الرابع في سنة 1981 وحددت مدينة العمارة مقراً له ليتسنى له قيادة القطعات التي كانت تقاتل في قواطع (الشيب – الشوش – ديزفول – الطيب) وحتى منطقة جلات الحدودية مقابل مدينة علي الغربي. وفي سنة 1982 تم تشكيل جناح طيران الجيش الرابع في مطار الميمونة (العمارة – ميسان) الذي يقوم بإسناد قطعات الفيلق الرابع.
كنت قد عدت قبل يومين من إجازتي الدورية التي استغرقت إسبوعاً واحداً، وإلتحقت بالجبهة مع وجبة المجازين الملتحقين التي تجمعت في خلفيات مقر اللواء 702 في مدينة العمارة، ضمن قاطع عمليات الفيلق الرابع الذي يقوده الفريق الركن هشام صباح الفخري. وكعادة الجنود زمن الحرب هو أن تُسَلم سلاحك للمشجب عند ذهابك بإجازة، وتستلمه دون عتاد عند إلتحاقك بالمقر الخلفي لوحدتك، على أن تستلم العتاد بعد وصولك إلى قاطع وحدتك في الجبهة. وكنت أحرص على إن يكون مسدسي محشوا، ولكن يبدو أن آمر المشجب قد أفرغه من عتاده. كانت وحدتنا قد إنتقلت إلى قاطع الشيب أثناء إجازتي، وكان السائق على ما يبدو يجهل الطريق تماما، في ظلمة ليلة 5/6 شباط من ذلك العام، ويبدو أنه توغل قليلا في الجبهة دون أن يعرف، وكان يبحث عن نقطة الدلالة وتسمى عسكريا ب (الثاية) وهي حجارة يرش عليها أي صبغ أبيض للاهتداء بها ليلاً، أو أن توضع قطعة صغيرة يكتب عليها إسم آمر الوحدة الأول وتسبقه كلمة قوة، مثل (قوة محمد)، وظل السائق يبحث عن نقطتي الدلالة هذه حتى غرزت السيارة في الرمل والطين، وقد حاول الجنود دفعها إلى اليابسة للخروج، إلى إنه تعذر ذلك، نظراً لثقل السيارة العسكرية من نوع إيفا روسية، فقررت أن ينقسم الجنود إلى مجموعات مكونة من خمسة أشخاص للبحث عن وحدتنا العسكرية وإبلاغهم بالموقف لطلب المساعدة وإرسال سيارة أخرى وبقيت وحدي إلى جانب السيارة، فجلست على جانب الطريق أستذكر ذكريات الإجازة التي إنتهت. وبعد قليل عاد السائق وبعض المجموعات وكلهم قد أخفقوا في العثور على بداية الطريق إلى اللواء. ونحن واقفون هكذا تناهى إلى سمعي صوت عجلة حفر يسميها العراقيون ب (الشفل)، فقلت للسائق أركض بإتجاه مصدر الصوت وأبلغ سائق العجلة بأننا من اللواء 702 ونحتاج إلى مساعدته وأجبره على ذلك وفقا للأوامر العسكرية، فركض السائق تجاه الصوت الذي يبعد قرابة ألف متر، ولم تمر سوى خمس دقائق ليعود لاهثا ليخبرنا بأن سائق الشفل إتضح إنه إيراني وإننا قد وقعنا في ساحة القوات الإيرانية، وحدثني كيف إنه بعد إن نادى على السائق بالعبارة العراقية المعروفة (أبو الشباب) وما إن وصله وعد على الشفل حتى وجده شخصا ملتحٍ وأجابه بالفارسية. فنزل هاربا وعاد ليخبرنا بذلك، فإضطرننا إلى التفرق خشية القبض علينا بعد أن يخبرهم السائق الإيراني بذلك، وأول ما تبادر إلى ذهني هو تهيئة السلاح إستعدادا لأي إعتداء إيراني علينا، وغذا بجميع الأسلحة بما فيها مسدسي الشخصي بدون عتاد حتى ولو طلقة واحدة، فلعنت أمر المشجب على تصرفه، ولكنها الأوامر العسكرية، إلا إنه يبدو كان مدنيا إيرانيا قد سُخِر لحفر مواضع للجنود، ولم يبلغ علينا، فمَر الموقف بسلام، وأرسلت الجنود في الإتجاه المعاكس والإتصال بأي وحدة عسكرية عراقية لنجدتنا، وبالفعل تمكن الجنود من ذلك، وأرسل اللواء لنا سيارة حمل عسكرية (زيل) لينقلنا جميعا، بعد أن أخرج سيارتنا من الحفرة وعاد بها السائق. وبعد وصولنا دخلت وأخبرت الأمر بأن الإيرانيين يعدون العدة للهجوم، ويبدو أن برقيات كانت قد وصلتنا عن ذلك.
كُنا قد تعودنا على السهر ليلاً، والنوم عند الفجر، كأسلوب عسكري في زمن الحرب، فالعدو عادة يشتغل ظلام الليل لتقدمه لكيلا تنكشف تحركاته. كان الجنود يعدون الشاي ويتسامرون، ولم تكن الطائفية قد وجدت طريقها إلى العراقيين، فكان من بينهم السني والشيعي والمسيحي، ولكن والحق يقال، فإن غالبية الجنود كانت من الطائفة الشيعية، فيما كانت غالبية القادة والآمرين من الطائفة السٌنّية، ومن أهالي الموصل والعظمية في بغداد. وبدا لي أن معظم الموجودين في القطعات المتقدمة من جبهة القتال، كانوا من المنبوذين سياسيا، أي أن معظمهم من المستقلين وغير الحزبيين لحزب البعث، والمسيحيين الذين لم ينتموا للبعث من أمثالي.
من داخل الملجأ ناديت أحد جنودي وكان من أهالي البصرة وأسمه صادق، بالذهاب إلى الملازم آمر المستودع لجلب قمصلة عسكرية لي، فقد كانت القيادة العسكرية قد وفرت تجهيزات عسكرية للوحدات المقاتلة في الجبهة. فذهب وعاد بكيس نايلون يحوي قمصلة رومانية جديدة، فإرتديتها وقلت مازحا: هسه حتى لو يصير هجوم، مو مشكلة.
لم تمر ساعتين على ذلك، وإذا بالهاتف العسكري على مكتبي يرن، وإذا بأمر اللواء يقول: رياض أخرج جنودك جميعا، وأدخلوا الخندق. فأجبته: نعم سيدي. واعطيت أوامري للجنود بحمل السلاح والنزول في الخندق القريب الذي كان الفوج الثالث من اللواء 702، قد حفره قبل يومين. وتركنا المقر ومكتب الإدارة جميعا. وقبل خروجنا من الملجأ، قال أحد الجنود: سكوت، إسمعوا أن هناك صوت قادم من بعيد، فأصغينا له، وإذا بصوت حشود كبيرة بالآلاف تهتف: الله أكبر. فقال الجميع: إجوي السادة، يلا (أي جاء الإسلاميون هيا بنا).
جلسنا في الخندق جميعا، وفي هذا الخندق الدائري الكبير الذي يحيط بالفوج رأينا جميع رفاقنا الجنود والضباط، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة والنصف ليلاً. وفي حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وصلت أول طلائع الجيش الإيراني، والعجيب في الأمر أن الإيرانيين كانوا من الغباء بحيث يرون في الهجوم كما لو كان سباق ماراثون المهم فيه من يصل أولا دون خطة عسكرية لمسك الأرض. مر الجنود الإيرانيون على مقربة 300 متر من مقر الفوج دون أن يصطدموا بنا، وبدأ يشتمون ويقولون: راجعيلكم، أصبروا. كان ملجأنا والذي فيه مكتبي يبعد خمسة أمتار عن الخندق، وفي حدود الساعة الثالثة سمعت رنين الهاتف فقلت للجنود سأذهب للملجأ لأرد على الهاتف فقد يكون هناك أوامر جديدة. كان الرمي كثيفا بكل أنواع الأسلحة وقد إشتعلت سماء الشيب وحالت ليلها إلى نهار. زحفت إلى المكتب ورفعت سماعة الهاتف، وإذا بأحد نواب ضباط مقر الفرقة 18 الذي نتبع لها عسكريا، والتي بعد عن مقرنا بحدود 15 كيلومترا، يسأل عن الوضع عندنا. كان قائد فرقتنا هو العميد الركن سلطان هاشم أحمد، الذي أصبح لاحقا وزيرا للدفاع، والآن يقبع في السجن منذ سقوط النظام في 2003. فأوجزت له، وتساءلت عن سبب سؤاله فقال: لأن بعض الجنود الإيرانيين بحدود خمسة أشخاص قد وصلوا مقر الفرقة ودخلوا من باب النظام، فألقى حراس الباب وبعض الجنود القبض عليهم وأسرهم. وبعد أن توادعنا مع تمنياتنا بالسلامة، إتصلت بمكتب إدارة اللواء 704، والذي يقوده العقيد الركن باشا، وهو من الطائفة الأيزدية ويقاتل بشراسة، وقد كرمه صدام حسين عدة مرات. فقال صديقي، إنهم يقاتلون بشراسة، وزخم الهجوم عليهم بشكل أكبر، ولم نطيل بالحديث سوى بضع كلمات.
عدت على جنودي في الخندق، وأخبرني الجنود بإصابة الجندي أول الطابعي داود، وهو مسيحي، نظرا لخروجه من الخندق، فأصدرت أمري بعد خروج أي جندي، وتساءلت أين هو الأن، فأشاروا إلى شخص ممدد في الظلام خارج الخندق على بعد 15 مترا، وشرحوا لي كيف أنهم حالوا عدة مرات سحبه للخندق لإسعافه، ولكن تعذر عليهم ذلك بسبب وجود أحد القناصة الإيرانيين مختبأ داخل مجموعة من القصب، ويمنع أي شخص من إسعافه، وهو الذي أطلق النار عليه. فقررت أن أزحف لسحبه، وطلبت من الجنود تشكيل قوة نار مؤلفة من خمسة جنود تطلق النار في وقت واحد على القصب أثناء زحفي، فقالوا حسنا. خرجت من الخندق زحفا حتى وصلت إلى الجندي الجريح ومسكت يده كان ما يزال حيا، وكان جنودي يرمون بكثافة لتغطية محاولتين ومع كل ذلك، كان القناص يرمي على مقربة من رأسي بحدود عدة سنتمترات من خوذتي، وإتضح إن الجندي ليس داود، وإنما جندي أخر، عرفني وقال سيدي لا تضحي بنفسك، روح إرجع، فقلت له: لا، تشجع وسأسحبك. كانت إصابة في صدره بالقرب من القلب. وما هي لحظات حتى فارق الحياة. إنسحبت زحفا، بينما كان القناص الإيراني يواصل الرمي عليّ لقتلي، ألقيت بنفسي في الخندق، وقلت لجنودي: أنه ليس داود، وقد توفي رحمه الله. فأتركوا موضوعه. وفي هذه الأثناء سرت صيحات داخل شق الخندق، ويبدو أن بعض الإيرانيين تسللوا اليه، فركضت بإتجاه الصوت بأقصى سرعة، متجاوزا الجنود الكثيرين الذين إزدحم بهم الخندق، وبعد مسافة 500 متر داخل الشق، لم يعد هناك جنود عراقيين، وفي الظلام ظهر أمامي جندي إيراني، صوبت سلاحي تجاهه وهو فعل نفس الشيء، وللحظات وقفنا جامدين كلينا دون أن يرمي أحدنا على الآخر، وربما كل واحد كان يمنّي نفسه بالقبض عليه أسيرا. وماهي إلا لحظات حتى رأيت جندي عراقي يرمي بنفسه داخل الخندق ويطوقه من خصره ويديه ويصرخ: سيدي، ألقيت القبض عليه. وزالت عني حالة الذهول، وقلت له: عفية إلزمه زين. في موقف ما زلت أضحك كلما أتذكره. تقدمت ونزعت عنه سلاحه بندقية كلاشينكوف. وفي هذه الأثناء ظهر داود وهو قادم داخل الشق من الإتجاه المعاكس فعنّفته على عدم إلتزامه بالأوامر، وحمدت الله على سلامته، وعدنا معا راكضين نحو مقرنا.
ولإستذكار ذكريات الحرب، أدرج هنا ما كتبه اَلْلِواءْ فَوْزِيّ اَلْبَرَزَنْجْيّ عن تلك المعركة في دراسة عنوانها “شَيٌء مِنْ التأرِيخِ… بِماذا تَمَيَّزتْ اَلْحَرْبُ الْعِراقِيَة الإيرَانِيَةُ (1980 – 1988)”، على موقع شبكة البصرة بتاريخ 28 كانون الثاني 2016، لفهم ما جرى فيها، فيقول:
” في ليلة 6/7 شباط سنة 1983 شن الجيش الإيراني هجوماً كبيراً بكتل بشرية مؤلفة من المُشاة وحرس خميني ومعززة بقطعات مدرعة على المواضع الدفاعية للواء المُشاة 95 ولواء المُشاة 704 ضمن قاطع فرقة المُشاة 18 في قاطع الفيلق الرابع في (منطقة الشيب) وتمكن الجيش الإيراني من إحتلال موطئ قدم في المواضع الدفاعية للوائين المذكورين آنفاً وإستمرت المعركة عدة أيام قاتلت وحدات اللوائين المذكورين قتال بطولي كبدت فيها القطعات الإيرانية خسائر بشرية كبيرة.
وفي يوم 9 شباط 1983 شن إحتياط الفيلق الرابع اللواء المدرع 12 هجوماً مقابلاً على قطعات الجيش الإيراني في موطئ القدم الذي حصل عليه وتمكن من تدمير معظم دروع وآليات العدو وطرده من المنطقة التي إحتلها وتكبد الجيش الإيراني خسائر بشرية جسيمة.
يوم 10 نيسان 1983 شن الجيش الإيراني عدة هجمات تعرضية متعاقبة على المواضع الدفاعية في المرتفعات الحدودية في قاطع الزبيدات والشرهاني قاطع العمارة التي كانت تدافع فيها تشكيلات فرقة المُشاة 20 ضمن قيادة الفيلق الرابع، طبوغرافية هذه المنطقة تخدم قطعات الجيش الإيراني أكثر مما تخدم قطعات الجيش العراقي وبعد عدة هجمات متقابلة بين الطرفين تمكن الجيش الإيراني من الإحتفاظ بموطئ قدم في هذه المرتفعات وتكبد الجيش الإيراني خسائر كبيرة بالأشخاص والمعدات.”
بدأنا في مطلع فجر يوم 7 شباط 1983 نرسل جنودا منفردين لإعداد الطعام داخل الملاجيء، والغريب إننا كنا نتناول وجبة واحدة في اليوم ولم نكن نشعر بالجوع طيلة 3 أيام متتالية، بإستثناء الشاي الذي كان سيد الموقف، فأرسلت صادق ليصنع لنا الشاي ويأتي بقدحين كبيرين نشترك بهما حوالي 20 جنديا في الخندق. كان صادق فرحا وسعيدا، وهو يذهب لملجأنا القريب ويحضر الشاي لنا ولرفاقه. وبدأت الأخبار تتوالى مع إقتراب موعد الظهيرة، وهكذا عرفنا إن قوة باشا قد سحقت أعداد كبيرة من الهجوم الإيراني وكسرت زخمه. وهكذا مر يومي 7 و8 من شباط ذلك العام. عدنا شيئا فشيئا إلى مقراتنا ولكن ما زال الهجوم مستمرا.
وفي ليلة 9/10 شباط دفع الإيرانيون أعداد جديدة من المشاة وحرس خميني، وبدا أن الهجوم قد أستعاد نشاطه وحيويته، بقينا الليل كله نقاتل، وبعد قليل وصل إلى مقرنا بعض الجنود الهاربين من بعض الوحدات العسكرية الساقطة. فبقوا يقاتلون معنا الليل كله. كان الإيرانيين يندفعون بموجات بشرية كبيرة بعد أن سقطت الحجابات وإستغلها الإيرانيون فإندفعوا منها إلينا. كانون الصراخ يملأ المكان وأزير الرصاص وأصوات المدافع ترج الأرض رجا. وفي خيوط الفجر الأولى رأينا أن المجموعات الإيرانية التي إندفعت منذ ساعات وهي تشتم العراقيين طيلة الليل، تعود إلينا تمشي وأيديها فوفق رؤوسها. ولاحت من خلفهم دبابات الفرقة العاشرة المشهود لها ببسالتها، وما زلت أتذكر تلك الصورة ما حييت، حيث قادة الدبابات يجلسون عليها مع عدد من الجنود ويرفرف خلفها علمها المثلث الأصفر الصغير، وأمامهم المئات من الجنود الإيرانيين يضعون أيديهم فوق رؤوسهم، فهرع جنودنا يخرجون إليهم من الخندق ليمسكون بهم، وقد تم إجلاسهم على الأرض على شكل أرتال بالقرب من غرفة أمر الفوج الثالث المدعو من قبل الجنود ب (أبو شكرية).
كان الكثير من الجنود الإيرانيين وخاصة حرس خميني منهم يعصّبون رؤوسهم بقطع قماش في الغالب بلون أخضر وقد كتب عليها شعارات دينية. فإنتزعت إثنتين منهم الأولى خضراء اللون وقد كتب عليها بالفارسية (عاشقان كربلا) والثانية وردية اللون وقد كتب عليها بالفارسية أيضا (وافاطمة الزهرا). وضعتهم في جيب قمصلتي العسكرية، وبدأ بقية السرايا والأفواج تجمع الأسرى لإرسالهم إلى مقر الفرقة.
جاء الجندي يحيى، وهو سائق دراجة بخارية، ويدعى ب (معتمد البريد)، وهو شاب من سكنة مدينة صدام، ومخلص في عمله، وقال لي: سيدي، أحد أقاربي قد تم ضمه إلى الجنود الإيرانيين وهو عراقي وأنا أعرفه جيداً، أرجو أن تخرجه من بينهم. فقلت له: أنت متأكد مو إيراني؟ فأقسم بأنه ليس أيراني، فقلت: منو هو؟ فأشار إليه، فقلت له: أخرج، وخذه إلى ملجأي يا يحيى، ففرح كثيرا. ومن المؤسف أن يستشهد يحيى بعد أن تركت مقر اللواء بعد سنتين ونقلت إلى الحبانية، فقد إخترقت شظية كبيرة جمجمته. ولكن ما زالت لدي شكوك حتى هذه اللحظة في إن ذلك الشاب كان عراقيا من أصل إيراني وقد أبعد إلى إيران، وكان قريباً ليحيى فأراد إنقاذه.
وبعد أن تم ترتيب الأسرى وقد بلغ عددهم أكثر من (150) أسيرا إيرانيا، ذهبت إلى غرفة الأمر العقيد محمود، وقبل أن أدخل نزعت خوذتي العسكرية وإرتديت العصابة الخضراء حول رأسي ودخلت على عليه، وللوهلة الأولى تفاجأ وهرع إلى مسدسه، فقلت له ضاحكا: إني رياض سيدي، فلا تخف. فقال: أنعل مذهبك، والله عبالي إيراني دخل عليّ. فنزعتها عن رأسي. فقال: وما هذه اللحظة التي تجعلك تبدو كإيراني. فقلت له: سيدي صار 3 أيام هجوم ولم أتمكن من الحلاقة. فقال: حسنا. ما الجديد؟ قلت له: لدينا عدد من الأسرى فبماذا تأمر؟ فقال: دعني أتحدث إليهم قليلا. فإرتدى خوذته وخرج من ملجأه وخرجت وراءه.
وقف أمام الأسرى وتحدث إليهم، قائلا: كما ترون إنكم تشنون حربا علينا، وهذه أرضنا، وترون إلى الخلف منكم ثاية أو علامة حدودية دولية مؤشر عليها إنها أرض عراقية، وفي الجانب الآخر هي أرضكم. فإعترض أحد الأسرى وقال: أرضنا إلى كربلا. فقال له العقيد: هذا غير صحيح، فهذه أراضٍ عراقية بموجب الخرائط الدولية والأمم المتحدة. ثم لاحظ العقيد وجود جندي صغير يبدو إنه من الأطفال الذين جندتهم إيران، فقال: إنت كم عمرك؟ فهرع إليه الحراس وأوقفوه، فقال: 16 سنة. فتوجه الآمر للجميع وقال: هذا لا يجوز تجنيده. ثم عاد إليه فسأله: هل تعرف العربية؟ فقال: نعم، وانا من كربلاء وتم تهجيرنا قبل سنة إلى إيران. ثم أشار بيده إلى أسير أخر كبير السن، وقال هذاك أبي. فإلتفت لي الآمر، وقال: هل لدينا جنود من محافظة كربلاء؟ قلت: نعم سيدي، ونظرت إلى أحد الحراس وقلت: أحضروا لنا أي جندي يسكن كربلاء. فحضر على الحال أحدهم، وقال له الآمر: تأكد لي من أن هذا وابنه كانوا من سكنة كربلاء. فإستفسر منهم الجندي عن سكناهم هناك، فقال الآب أنه كان صاحب محل صياغة الذهب في سوق كربلاء، وذكر أسم المحل، فتأكد لنا أنهم فعلا من هناك. ثم إلتفت لي، وقال: سجل أسماءهم جميعا، وأحضرها لي، ثم عاد إلى ملجأه. فبدأت أسجل أسماءهم، وكان لفظهم للأسماء بصيغتها الفارسية مشكلة لي. حيث كانوا يلفظون الضاد زاءً، والحاء هاءً. فيلفظون إسم رضا على شكل رزا. وأخيراً، قررت أن أمنحهم الورقة ليكتبوا أسماءهم بأنفسهم. فأخذوا يكتبون أسماءهم، وعندما تم تسجيل أسماء الجميع، أخذتها وذهبت للآمر ثانية، وبعد أن أديت التحية، قلت له: هذه قائمة بأسماء جميع الأسرى. وهنا ساد موقف غريب، فعلى ما يبدو أن إسم الأب لجميع الأسرى هو (فرزنده)، وهنا تساءل الآمر: معقولة كلهم أسم أبوهم فرزنده؟ فقلت له: لم ألاحظ ذلك، ودعني أنتأكد. فخرجت من عنده، وقلت لهم: هل إن إسم أبوكم جميعا هو فرزند، فقال أحد الذين يتحدث العربية: لا، إن فرزند يعني (إبن). فركلهم أحد الجنود قائلا: يعني لازم تذكر كلمة إبن، ليش إحنه بزمن الجاهلية. قول حسين علي مثلا، ونحن نعرف إن حسين هو بن علي. فعدت إلى العقيد، وأخبرته بذلك، وضحكنا معا. وقال، اطبعوا الأسماء وأرفقوا القائمة بكتاب لأوقعه ونرسلهم إلى مقر الفرقة. فقلت: حاضر. وخرجت من عنده، وإتجهت إلى ملجأي لأشرف على العمل مجددا بعد ترك هذا الملجأ والبقاء في الخندق لثلاثة أيام متواصلة دون نوم أو طعام بشكل طبيعي. وهنا رأيت إلى جانب منضدتي جثة جندي غيراني ممددة. فقلت: ما هذه؟ فردّ عليّ الجندي صادق، أن هذا الجندي احضره داود، ثم دردم قائلا: والله عنده سوالف هذا داود. فصرخت داود، تعال. فجاء، فقلت له مؤشرا نحو الجثة، شنو هذه الجثة، فقال: لا سيدي، هذا مو ميت، بل جريح، وأنا شربته مي (ماء)، وراح يعيش. قلت: وشراح نسوي به بعدين؟ إذا عرف الآمر راح يسوي مشكلة. وهنا رن الهاتف، فتحدث لي العقيد قائلا: رياض، شنو عدكم جثة جندي إيراني يمكم؟ فقلت: نعم سيدي، هذا جابه داود، وهو جريح وهو يريد أن يراعيه، وكنت أطلب منه على التو أن يرسله للفرقة. فقال حانقا: قل له، شنو هو بلبل ويريد أن يربيه. أرسله فورا لمقر الفرقة. قلت: حاضر سيدي. وإلتفت للجنود فيما كان داود يضع بعض قطرات الماء في فمه: يلان بسرعة إتصلوا بوحدة الأليات ليرسلوا لنا سيارة لنقله للفرقة. وكملوا طبع قائمة الأسرى. وخرجت، فرأيت الرائد ضابط التوجيه السياسي للفرقة 18، فهنأني على النصر، وسألني: هل هناك من بينهم من قاوم بضراوة؟ فقال له الجنود الواقفين: نعم سيدي، هناك قناص إيراني، يختبأ في القصب هناك، وقد قتل عدّة جنود عراقيين. فأرسل بعض الجنود، فوصلوا إليه وجلبوه، وإذا به، رجل كبير السن ويبدو قد تجاوز الستين من عمره، فأخذه الرائد إلى غرفة خربة من جراء القصف، وسمعوا صوت إطلاقات، وعندما عاد هو والجنود تساءلت مستفهما، فقال لي أحدهم: أعتقد قتله. ففهمت.
تم إرسال جميع الأسرى إلى مقر الفرقة 18، وأخذنا قسطاً من الراحة. وبقيت الذكريات عالقة في أذهان من عاشوا.
والأمر الأهم، إن إيران عادت هذه المرة في عام 2003 بعد أن أسقط الأمريكان نظام صدام حسين، وجاءتهم الفرصة لينتقموا من العراقيين بأبشع شكل، وبعد بحث وتحقيق، إتضح لي أن التفجير الذي أصابني يوم العاشر من شباط 2007 كان بتدبير إيراني للإنتقام من شخص شارك في الحرب العراقية–الإيرانية. ومع كل ذلك، لم أترك العراق، وإستمريت في وظيفتي في وزارة الخارجية، وبعد سنتين تم نقلي إلى مقر بعثة العراق للأمم المتحدة في جنيف، وبعد أربع سنوات زادت التهديدات بقتلي بمجرد العودة للوطن، فإضطررت للبقاء في سويسرا منذ عام 2013 وحتى الآن.
وقد إرتأيت تدوين كل ذلك، للتاريخ. فتحية لحماة الوطن من الجيش العراقي الذين ما زالوا على قيد الحياة، والرحمة لشهداء العراق.
د. رياض السندي