الشهيد فيصل جاسم حمادي الحجاج
1936– 1963
في يوم الشهيد الشيوعي العراقي، نستذكر جمهرة من العراقيين ممن تعرضوا إلى مصير درامي. إن خسارة هذه النخبة الخيرة من أبناء أرض الرافدين ومن كل مكوناته وألوانه، لم تكن تخص الحزب الشيوعي العراقي والوطنيين العراقيين فحسب، بل أنها ألحقت خسارة فادحة بمصير البلاد وشعبها وعرقلت تنميته ومساره السياسي والاجتماعي الديمقراطي. أقول ذلك لكي لا أتعصب للتيار التقدمي التنويري الذي انتمي إليه. فالمهارة والثقافة والتنوير والصدق في وطنيتهم والولاء لشعبهم الذي كان ديدن وخصال هؤلاء الشهداء هو الذي يدفعني إلى اتذكار مآثرهم، وليس لإثارة الانتقام والحزن والإحباط، بل لأشير بأن هذه البلاد العزيزة هي خزين لكل المهارات والخبرات وحافلة بسمات الصدق وحب الشعب لدى جمهرة من أبنائه.
ومن هذه النخب الخيرة اخترت للقارئ الكريم الشهيد فيصل الحجاج، رفيق الدرب وصديقي وزميلي، الذي واجه الموت وبشكل درامي في قصر النهاية ذو الصيت المشؤوم بعد انقلاب 8 شباط المشؤوم عام 1963، حيث دفن حياً وعدد من رفاقه،
الشهداء عدنان البراك ولطيف الحاج ومحمد الوردي وصاحب المرزا وعبد الرحيم شريف وصبيح سباهي وعبد الخالق البياتي ونافع يونس ومهيب الحيدري وابراهيم الحكاك
كما يروي ذلك عدد من المعتقلين،على يد شلة من الجلاوزة فقدت كل سمات الصفات الانسانية تنفيذاً لأجندات خارجية كُشف الكثير عنها في مؤلفات حررها اكاديميون، بل وحتى من شارك في هذه النكبة التي تعرض لها الوطن والتي أطلق عليها منفذيها “عروس الثورات”.
ولد الشهيد فيصل في عام 1936 في قرية “كوت الحجاج” التي تبعد بمسافة كيلومترين عن مدينة البصرة والعشار، وترعرع في أحضان عائلة كريمة متوسطة الحال. تأثر شأن سائر أقرانه بالموجة التحررية التنويرية التي سادت العالم وانتقلت إلى بلادنا. وكان للأخ الأكبر المحامي نصيف الحجاج الناشط في صفوف الحزب الشيوعي ونزيل السجون في العهود المختلفة وشقيقتيه النشيطتين في الحركة النسائية مهجة الحجاج وإيمان الحجاج، إضافة إلى زملاء له في المحلة وفي المدرسة، دوراً في اجتذاب الفتى فيصل صوب الفكر التقدمي والتنويري واليساري والشيوعي. وكان هذا الفتى الذكي يحلم بأن يكون طبيباً ويبني مستشفاً كي يعالج ويسهم في وضع الحلول للمآسي الصحية التي كان يعاني منها أبناء البصرة، وانقاذ ابناء جلدته من داء الملاريا الذي كان يزهق أرواح العراقيين وخاصة أبناء الجنوب. ويستذكر الصحفي والكاتب ورفيق الدرب حاسم المطير فيصل الحجاج بهذه الكلمات:” مشروع فيصل بدأ معه منذ دراسته في المدرسة المتوسطة. كان يقول كلامه بشجاعة وأمل وتفاؤل وبنزعة مؤكدة تشير إلى قدرته الانسانية الوثابة. ربما كان واعياً في عمره ذاك لشناعة مرض الملاريا و امراض اخرى كانت منتشرة بالبصرة كالتيفوئيد والسل الذي اصيب به احد ابناء عمومته داخل سجن بعقوبة حين كان يقضي محكوميته بتهمة الشيوعية. ظلّت الآمال محفوظة في قلب فيصل الحجاج،سنة بعد سنة، مختلطة في ذهنه المنفتح على المبادئ الإنسانية والافكار التقدمية، يواصل دراسته في المدرسة المتوسطة والثانوية والجامعية، متابعا حياته المزدوجة، العائلية على احسن وجه والحزبية على افضل ما فيها من نضال”. ويستطرد جاسم المطير في استذكار الفترة التي عمل معه في صفوف الحزب ليقول:” تعلمتُ من فيصل الحجاج مثالية الاخلاقية الشيوعية: الصدق،الذوق،النهوض الدائم،الصبر وعدم التأجيل، الفعل المتواصل، الامانة، الغفران لمن يخطأ في العمل، البحث عن اسباب الحياة“.
شرع الشهيد في النشاط في صفوف اتحاد الطلبة العراقي العام الذي كان يعمل بشكل سري في العهد الملكي. وبعد حين انخرط فيصل الحجاج في صفوف الحزب الشيوعي العراقي حيث ترشح إلى الحزب في أواخر عام 1953. عندها ساهم بنشاط بفعاليات الحزب في دعم عمال الميناء في البصرة وتضامناً مع مطاليب الفلاحين فيها. وعلى هذا المنوال اعتقل في مطلع عام 1956 بتهمة النشاط في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وبعد تدخل والده طيب الذكر جاسم الحجاج تم إطلاق سراحه. وبعد حصوله على شهادة الثانوية بإمتياز، قرر الأب إرساله إلى القاهرة لدراسة الطب في نفس العام تجنباً لحدوث أي مكروه لإبنه على يد التحقيقات الجنائية العراقية.
شرع فيصل الحجاج بجدية وولع خوض مضمار العلوم الطبية التي حلم بحيازتها في مطلع شبابه. واستمر في الدراسة بجامعة القاهرة قرابة السنتين إلى أن بلغته أصداء ثورة 14 تموز في الوطن، وقرر العودة فوراً ليشارك رفاقه الفرحة بهذا الحدث الكبير وليساهم في مرحلة بناء البلاد. وما أن حطت قدمية على الأرض العراقية حتى بادر إلى الالتحاق بصفوف الحزب وانتقل إلى بغداد لتقديم الطلب لإكمال دراسته في الصف الثاني في الكلية الطبية – بغداد. وأصبح مسؤول التنظيم الطلابي الشيوعي في الكلية الطبية، ثم نُسّب لاحقاً إلى عضوية اللجنة الطلابية في بغداد التي كنت مسؤولاً لها في ذلك الوقت، والتي ضمت الرفاق باسم مشتاق ووجدي شوكت سري وماجد عبد الرضا وفاضل المرعب وآخرين.
لقد جمع الشهيد فيصل بين الجدية والحماسة والتفوق في دراسته العلمية الطبية والجدية نفسها والحماس نفسه في نشاطه الحزبي، مما أكسبه احترام زملائه ورفاقه. وتميزت أحاديثه بالود والغنى المعرفي، وكان على الدوام يغني اجتماعات اللجنة بالمقترحات لتطوير عملها. ولم يخلوا حديثه من الدعابة والنوادر في مناسيتها. ويروي رفيق دربه باسم مشتاق عمله مع الشهيد قائلاً:” لقد اصبح الشهيد فيصل مسؤؤولا عن الكلية الطبية، وثم عضوا في اللجنة الطلابية. وكان ذا شخصية محترمة ومحبوبة ويمتاز بالجدية في تنفيذ مهماته الحزبية وفي سلوكه المتواضع والمتميز لدى كافة المحيطين“.
لم تطل تلك السنوات الحافلة بالنشاط والأمل لتهب الريح الصفراء على العراقيين في 8 شباط عام 1963، وليقع فيصل الحجاج، وهو في الصف المنتهي من كلية الطب، في قبضة الانقلابيين ويُرمى في اقبية “قصر النهاية” ويتعرض لممارسات وحوش القائمين على هذا المرفق الموحش سئ الصيت. وكان الجلادون يقومون بين حين وآخر بجمع الضحايا من مختلف مرافق “القصر”وبملابسهم الداخلية وقد تورمت أجسادهم جراء التعذيب تنفث منها الدماء وتفوح منهم رائحة التعفن والتفسخ. وشير شريك الأسر باسم مشتاق إلى تلك اللحظات الرهيبة قائلاً:”لا يفوتني أن أذكر بشجاعة الشهيد و هو يسير بثقة و شموخ عندما سيقت كوكبة لامعة من الرفاق من قصر النهاية الى ميدان الإعدام على يد المجرمين، ومنهم عبد الرحيم شريف ونافع يونس وابراهيم الحكاك وصاحب احمد الميرزا وعبد الخالق البياتي وعلي الوتار ومهيب الحيدري وفيصل جاسم حمادي الحجاج وآخرون“.
لتبقى أيها الحبيب العزيز في الذاكرة كنبراس لكل الساعين إلىالخير لشعبنا ووطننا.